اخترت كلمات العنوان من القصة التي سأنقلها لكن ..
لما حركت في قلبي نبضات بعد قراءة تلك الكلمات ..
كيف يصبر عنه ..
.
.
.
.
.
.
يقول أحد الطلّاب – وفّقه الله وغفر له وستر عليه- :
الحمد لله، والصلاة والسّلام على رسول الله، أمّا بعد:
لا أدري كيف أبتدئ في كتابة هذه القصة التي تجول في قلبي منذ مدّة، وهذا التردّد الثاني، فإنّي ما عزمتُ على كتابتها إلّا بعد تردّد، لأنّها خاطرة توجِب عليّ أن أتكلّم عن نفسي، وعن تجربتها في هذا الأمر، والكلام عن النفس بما يُشعِر مدحها قبيح، وإن لم يكن المدح مقصودًا، لكنّي سأكتبها وأحاول أن أتجنّب القبيح، ما استطعت، ثمّ سأنظر أأنشرها أم أجعلها حبيسة مذكّرة الجوال، ولولا ما فيها مِن عبرة ما ألجأتُ نفسي إلى كتابتها، وإلى عناء محاولة تجميل قبحها، فأقول:
بدأت في حفظ القرآن ولمّا أتمّ مِن عمري خمس عشرة سنة، في شهر شعبان، وكانت لي طقوس للحفظ، لا أستطيع الحفظ بدونها، فكنتُ أجلس بعد صلاة العصر في مجلس البيت مغلقًا الباب على نفسي، متّجِهًا للقبلة، لا يكلّمني أحد ولا أكلّمه، فأحفظ في نصف ساعة صفحتين، ثم أراجع وِردي من الحفظ القديم في نصف ساعة أيضًا، وكانت ساعة مباركة، ثم أذهب بعد المغرب إلى حلقة الشيخ في الحرم، فأقرأ عليه ما حفظت، ثم أقرأ عليه ما سأحفظه في غدي، ثمّ أراجع حفظي مع أحد الطلاب؛ أعرض عليه ويعرض عليّ، ثمّ أصلّي العشاء وأرجع إلى البيت.
ثمّ بدأ شغفي بالقرآن يزداد شيئًا فشيئًا، فما حفظت جزأين أو ثلاثة حتى بدأت أحفظ الصفحتين اللتين ألزمتُ بهما نفسي كأنّهما أُنزلتا الآن، بل كأنّهما أُنزلتا في شأني، وكنت أستشعر شوق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لسماع القرآن من جبريل، وأستشعر في اليوم الذي لا أحفظ فيه حُزنَه صلّى الله عليه وسلّم في فترة الوحي -أي انقطاعه-، فكنتُ أجد في نفسي لحفظ المقدار الجديد مِن القرآن لذّة لا تقوم لها لذائذ الدّنيا، ولأجل أن تكتمل اللّذّة في نفسي لم أكن أسمع ولا أقرأ شيئًا من القرآن لم أحفظه بعد، بل كنت أُصِمّ أذني عنه، ولم أكن أَعُدّ ما لم أحفظ مِن القرآن قد نزل بعد، عدا مشهورات الآيات، وإن كنت أتجنّبها كذلك، ما عدا آيات الأذكار، ومع هذا فقد كانت تتفلّت إلى أذني ممّا لم أحفظ كلمات ترنّ فيها رنين الوتر، بل أعذب، سمعتُ مرّة قوله تعالى: {وقِيلِه يا ربّ} في الزّخرف، فكنتُ أتحرّق شوقًا إليها متى أحفظها، وسمعتُ مرّة قوله: {رُبَما يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين} فلا تسأل عن لهفتي لها، وما زلت أذكر شهقتي حين سمعت قوله: {فعُمِّيت عليكم أَنُلْزِمُكُمُوها} فوالله لقد كنت أتذوّقها تذوّقًا، وكذا إمالة {مجراها} وتسهيل {أأعجميّ} وآيات الوعد المرغّبة، وآيات الوعيد المرهّبة، {إنّ المتقين في جنّات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر} {كلّما نضجت جلودهم} {يتجرّعه ولا يكاد يسيغه} والأمثلة كثيرة، أمّا شوقي إلى السّور التي لم أصل إليها فلا يعلم به إلا الله، لن أنسى قطّ شوقي إلى سورة النّجم، وسورة ق، وسورة الدّخان، وسورة الشّورى وحروفها المقطّعة، وسورتي غافر والزّمر، وسورتي ص والصافّات، وسورة يس، وسورة الأحزاب، وسورة القصص، وسورة النمل، ولم أملك نفسي وشوقها حين وصلت إلى سورة طه؛ فحفظتها في جلسة واحدة، وحفظت بعدها سورة مريم، وسورة الكهف، وسورة الإسراء، كلّ واحدة منهنّ في يوم، في جلسة واحدة، وسبقتُ بهذه الوثبات منافسي في الحلقة، فكان يحفظ في سورة الأنبياء، وكنت ابتدأت سورة النّحل، وما تذكرت لحظة إخبار الشيخ له بتقدّمي عليه إلّا وتجدّدت فرحة الفوز في قلبي، ثم أقبل عليّ رمضان، فما قرأت فيه سوى نصف القرآن الذي حفظته، وما صلّيت التراويح في الحرم إلا بعد الإسراء؛ حفاظًا على لذّة الحفظ الجديد، وحفظت سورة يوسف في مجلس واحد كذلك، إذ كيف أنتظر إلى الغد ولمّا تكتمل القصّة، ولم أحفظ قطّ قصّةً مِن القرآن في يومين، وهكذا؛ لم أبتدئ في حفظ سورة إلّا بشوق بالغ، ولهفة متجدّدة إلى ما بعدها من السّور.
يتبع ..
الجيل الجديد . @algyl_algdyd_1
عضوة شرف في عالم حواء
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الجيل الجديد .
•
ثمّ بدأ الحزن يتغشّاني حين ختمت سورة المائدة وعلمتُ أنّه لم يبق مِن القرآن سوى ثلاث سور، فكنتُ أحفظ بشوقٍ يشوبه الحزن، كمحبٍّ معانقٍ لمحبوب يخشى فراقه، ثمّ غلب حزني شوقي حين وصلت سورة البقرة؛ فكنتُ أحفظ منها كلّ يوم صفحة واحدة مستبطِئًا ختمَها، ولمّا جاء يوم ختمها، وهو يوم ختمي للقرآن، قبل شهر شعبان بثلاثة أيام، حزنت حزنًا شديدًا، وكان مِن أشدّ أيّامي وقعًا عليّ، استشعرت فيه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد مات، وأنّ الوحي قد انقطع؛ تذكّرت أمّ أيمن رضي الله عنها لمّا هيّجت أبابكر وعمر رضي الله عنهما على البكاء حين زاراها بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبكت؛ فقالا لها: “ما يبكيك؟! ما عند الله خيرٌ لرسوله” فقالت: “ما أبكي أن لا أكون أعلم أنّ ما عند الله خيرٌ لرسوله، ولكن أبكي لانقطاع خبر السماء!” ثمّ ختمتُ على الشيخ، والنّاس يهنّئون، وبالبركة يدعون، وإنّي والله لفي شغل مع حزني، لا أدري ما يقولون، ولا بم يتمتمون.
ثمّ أقبلتُ على مراجعته، فكنت أراجع في اليوم خمسة أجزاء، وقد أضاعفها، وابتدأت في يوم اختباري في حفظه بعد الفجر بالفاتحة؛ فما أذّن المؤذّن للظُّهر إلا وأنا أقرأ سورة النّاس، وكان اختباري بعد صلاة العصر، ثمّ علمتُ أنّ أحد الأشياخ يُجِيز مَن يقرأ عليه ختمةً بإسناده إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فذهبت إليه واستأذنته في القراءة عليه، فرحّب بي مع كثرة طلّابه، وكان رجلًا متعبِّدًا، كثير الذّكر والصّلاة والصّيام، فقرأت عليه، وأتيتُه يومًا وليس عنده أحد، فقرأت عليه سورة الأنعام في مجلس واحد، ثمّ علمتُ أنّها مِن السّور التي نزلت جُملةً واحدة؛ فاغتبطت، ولو كنت أعلم هذا حين حفظتها لحفظتها جملة واحدة، وكان ممّن يقرأ معي على الشيخ رجل حسن السّمت والأخلاق، يُخافِت بقراءته على الشيخ، فاستمعت إليه يومًا فإذا به يخطئ ولا يفتح عليه الشيخ، فسألتهما بعد أن فرغا؛ فأخبراني أنّ هذه رواية قالون عن نافع، ثمّ شرح لي الشيخ بإجمال معنى القراءات، فوالذي أنزل الكتاب على عبده ولم يجعل له عوجًا إنّ الشيخ ليكلّمني وإنّي لأشعر بالفرح والشوق يتفجّران في صدري، فأذهبا عنّي شيئًا من حزن انقطاع الوحي، كيف لا؟ وقد عرفتُ أنّ في كلام الله عزّ وجلّ كلمات لم أحفظها بعد، فحفظي للقرآن لم يكتمل، وبتّ تلك الليلة في خير وهناء، أهنّئ نفسي على عودة وحي السّماء.
ثمّ علمتُ أن للقراءات طريقتين للأخذ؛ إمّا بجمعها في ختمة، أو بإفراد كلّ قراءة بختمة، فاخترت طريقة الإفراد؛ لما فيها مِن المتعة والشوق وانتظار الأحرف الجديدة، فأكملت قراءة حفص على الشيخ في خمسة أشهر، والطلاب يختمون عنده عادة في ثمانية أشهر، بمعدّل ربع في اليوم، إلّا أنّ الشيخ جزاه الله خيرًا اعتنى بي، وخصّني بأوقات دون الطلاب، ثمّ بدأت في رواية ورش عن نافع، فختمتُها في ثلاثة أشهر، ثمّ رواية قالون عن نافع، وقرأتُ فيها سورة الأنعام في مجلس واحد قبل صلاة جمعة، وختمتها في شهرين، وذلك لأنّي كنت أخرج من المدرسة الثانوية يومي الثلاثاء والأربعاء قبل الظهر، وأنتظر الشيخ عند باب بيته، فأقرأ عليه في الطريق إذا خرج للصلاة في الحرم، وكذا يومي الخميس والجمعة، أصلّي معه، وكنّا نبكّر قبل الجمعة بساعتين، وكان الحرم قريبًا من بيتي وبيته والمدرسة، ثم أخبرني الشيخ أنّه لم يقرأ سوى هذه الروايات الثلاث، فدلّني ذاك الطالب على شيخ يقرئ حفصًا بقصر المنفصل، فأتيته فقبّلتُ رأسه فقبّلَ يدي! فقبّلتُ يده سريعًا، فقبّل رأسي!! ثمّ علمتُ بعد أنّ هذه عادته مع مَن يقبّل يدَه مِن حملة القرآن، واستأذنته بالقراءة عليه فرحّب بي، فقرأتُ عليه، ووجدته عالمًا أصوليًا مفسّرًا، يعمل ما أمكنه بما يقرأ ويسمع من القرآن، إن قرأتُ آيةً في الصدقة والإنفاق تصدّق وأنا أقرأ، أو بعد فراغي، وقرأتُ مرّة: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} فأخرج يده ينظر إليها متفكِّرًا، وكثيرًا ما يبكي وأنا أقرأ، وما زلت أذكر بكاءه في آخر سورة المائدة، وبدأت بعدها وهو يبكي في نفس المجلس بسورة الأنعام حتّى ختمتها، وكأنّ الله أراد أن أقرأها في مجلس واحد، فلم يحضر أحد من الطلاب في ذلك اليوم، وكان يفسّر لي بعض الآيات ويشرح غريبها، فنفعني الله به أيّما نفع، وختمتُ عنده القرآن في خمسة أشهر، ووددتُ والله لو طالت، وكنتُ أجالسه كثيرًا بعدها، وكنتُ أجالسه بعد نزع خاتمي وساعةً أظنّها غالية كانت قد أُهدِيت إليّ؛ هيبةً لزهده، فما كان للدّنيا في مجلسه ذكرٌ ولا حضور، وأتيته يومًا مسلِّمًا، فلمّا انصرفتُ لحقني بعض طلّابه وهو يقول: أبشر، قال الشيخ بعد أن انصرفتَ: “ما رجوتُ إمامةَ الحرم لأحد ما رجوتُها لهذا الرّجل”، وإنّه لا يُكره الفرح بمدح الرّجل الصالح، قد فرح الإمام أحمد بمدح بِشْر بن الحارث.
ثمّ دلّني الشيخ الذي حفظتُ عليه القرآن على شيخه، وكان من كبار قرّاء المدينة، قرأ عليه غير واحد مِن أئمة الحرمين، وكان عظيم السمت، وله هيبة، فأتيته فاستأذنته بالقراءة عليه، فأذِن ورحّب، واحتلت فبدأتُ بقراءة أبي عمرو البصريّ، لأنّي كنت أتوق إلى غير ما قرأتُ، وألقى الله في قلب الشيخ محبّتي، فقدّمني على طلّابه، وكانوا يقرؤون في اليوم سبع صفحات، وكنت أقرأ تسعًا أو عشرًا، أو أكثر من ذلك إذا جهرت بالقراءة، وحبّرت الترتيل، ولقد زادني في يوم حتّى قرأت سورة الأنعام في مجلس واحد، وهذا الذي وقع لي مع سورة الأنعام أمرٌ عجيب، لم ينقضِ منه عجبي حتّى الساعة، لأنّي لم أتقصّده، وإنّما كان يقع اتّفاقًا، على أنّ تقصّد قراءة الأنعام في ركعة في التّراويح بدعة عند الحنابلة، ذكره غير واحدٍ منهم، لكنّ التّوافق الذي وقع لي ومع ثلاثة من الأشياخ، توافقٌ يستدعي التأمّل والتدبّر، ثم ختمتها في أربعة أشهر، ولم أجد حِيلةً لتأخير رواية ورش؛ فقرأتها، ثمّ رجوتُ الشيخ أن أجمع إلى رواية قالون قراءةَ ابن كثير فوافق، ثمّ قرأتُ بقية القراءات العشر بترتيبها المشهور، وختمْتُها في مكة أمام الكعبة في أقلّ من أربع سنوات تتخلّلها إجازات، بمعدّل أربعة أشهر لكلّ قراءة، وأخبرني الشيخ أنّي أسرع طالب قرأ عليه منذ أن بدأ بالإقراء في المسجد النبويّ قبل خمسين سنة، وكنتُ أقرأ عليه كلّ يوم بعد المغرب، حتّى الجمعة، لا أتخلّف عن الحضور إلّا نادرًا، ولم يكن يستحثّني شيء كالشّوق.
والآن -بحمد الله وفضله ومنّته- أسعى إلى أن أجعل ختمتي للقرآن كلّ سبعٍ، كلّ ختمة برواية أو قراءة، فإنّي والله ما شرعتُ في ختمة إلّا وتشوّقت للأخرى، وما قرأت سورةً إلّا بنفس الشّعور الذي حفظتها به، فآمنت أنّ القرآن لا يَخْلَق عن كثرة الرّدّ، ولا يبلى مِن تَكرار العَرْض، أسأل الله ألّا يصرفنا عن آياته بذنوبنا، وألّا يحرمنا بركته بتقصيرنا.
وبعد: فإني ما كتبت هذه القصّة إلّا لأنّي أعجب والله ممّن تعلو به همّته في تحصيل العلوم، ولا يحفظ القرآن، أو لا يستكمل حفظه، كيف يصبر عنه؟! وكيف يسعى في جمع كلام علماء البشر وحكمائهم، ولا تحدّثه نفسُه أنّ لله العليم الحكيم كلامًا قد أنزله، فيسعى إلى جمعه في صدره، فيستغني به، بل كيف يصبر وقد عرف أن لربّ الأرض والسماء، كتابًا قد نزل إلى الأرض مِن السماء، والأعجب كيف يصبر مَن يعبد اللهَ دهرَه، ويصلّي له يومَه، ويزعم أنّ حبّه قد ملأ عليه قلبَه؛ عن كلامه؟! وإنّي لأحدّث نفسي أن لو علمتُ برسالة من محبوبي في أقصى الأرض لرحلتُ لها، أفلا أحدّثها برحلة لكلام الله، بل والله لو علمتُ أن لله حرفًا لا أعلمه، ولا أصل إليه إلا بأهلي ومالي، لبذلتُهم طيّبةً بهم نفسي، والله يغفر لي كثرة القول وقلّة العمل.
بسم الله الرحمن الرحيم {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير ممّا يجمعون} صدق الله العظيم. أ.هـ
كتبتها ليلة ختم القرآن الكريم ٢٩/رمضان/١٤٣٩
في مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
الصفحة الأخيرة