لافلسطين بعد اليوم!



فهمي هويدي
لا أعرف إلي أين توصلنا حملة الشحن والتعبئة في الإعلام المصري ضدالأشقاء الذين اختلفوا معها، لكن الذي أعرفه جيداً أنها تؤدي إلي تسميم علاقاتوأجواء ينبغي أن نحافظ علي صفائها، وتسيء إلي هيبة مصر وريادتها المفترضة، كما أنهاتخصم كثيرا من رصيد احترام الإعلام المصري.
أدري أن إعلامنا موجه علي نطاق واسع، رغم هامش حرية التعبير المتاحلبعض منابره، كما أنه يجيد الهجاء علي نحو يشهد له بـ «الريادة» المتميزة فيه،لكنني أفهم أن ذلك كله يتم في إطار من احترام الضوابط المهنية والأخلاقية، غير أنالذي حدث في الآونة الأخيرة ذهب إلي أبعد مما يخطر علي البال في تجاوز الحدود وعدمالالتزام بتلك الضوابط، وإذا كان أسلافنا من أهل العلم قد قالوا إن الخلاف لا يفسدللود قضية، إلا أن الخلاف في زماننا أصبح مسوغا لتكريس البغض وتعميق القطيعةوالخصومة، وتبرير استباحة الكرامات وإطلاق الأكاذيب والافتراءات.
إن المرء لا يكاد يصدق تلك اللوثة التي أصابت الإعلام المصري فيتعامله مع الملف الفلسطيني خصوصا موضوع حركة حماس، التي يستهدفها الاجتياحالإسرائيلي الآن، باعتبارها علي رأس مقاومة باسلة تشارك فيها فصائل أخري، للدفاع عنشرف فلسطين ضد الذين يريدون تركيع شعبها تمهيداً لتصفية القضية أو بيعها، وإذا كانمتوقعاً - من الناحية الأخلاقية علي الأقل ولا أقول الاستراتيجية - أن يقف إعلامبلد في قيمة وحجم مصر في صف المقاومين الفلسطينيين أياً كانت مسمياتهم أو الراياتالتي يرفعونها، فإن الذي حدث كان العكس تماما، إذ عمد إعلامنا ليس فقط إلي طعنالمقاومين بتحميلهم المسئولية عن الاجتياح الإسرائيلي، وإنما ذهب إلي حد تعبئةالمصريين ضدهم وإشاعة البغض والكراهية لهم.
سأضرب مثلا ًبكيفية تعامل الإعلام المصري مع حادث مقتل ضابط الشرطةالرائد «ياسر فريج عيسوي» في اشتباك وقع علي الحدود بين مصر وقطاع غزة يوم 28/12،لكن قبل الدخول في التفاصيل أذكر بأن إسرائيل قتلت في العامين الماضيين 18 مصرياًعلي الحدود وفي مدينة العريش، بعضهم رجال شرطة صدرت تعليمات بحظر النشر في حالاتهم،وقد تم احتواء تلك الحوادث، التي حمل القتل فيها علي سبيل الخطأ، المترتب علي إطلاق «نيران صديقة»!.. ولعل كثيرين يذكرون أن رئيس الوزراء الإسرائيلي «إيهود أولمرت» قام بزيارة رسمية إلي مصر في منتصف عام 2006 بعد يومين من قتل الإسرائيليين لاثنينمن رجال شرطة الحدود المصريين، واستقبل الرجل بالترحيب اللازم، وكأن شيئا لميكن!.
ما الذي حدث في أعقاب مقتل الرائد ياسر عيسوي؟ إنني أقدر صدمة أسرتهوأشاطرها حزنها وأتعاطف معها إلي أبعد مدي، وأؤيد كل ما اتٌخذ من إجراءات لتكريماسم الرجل باعتباره شهيدا للواجب، لكن ما يثير الانتباه أن الحادث وظُف سياسياوإعلاميا لخدمة الاشتباك مع حماس وتأجيج المشاعر ضدها.. كيف؟.
الخبر نشرته صحيفة «المصري اليوم» في 29/12 ضمن أحداث القطاع التيوقعت في اليوم السابق، وقالت في أحد عناوين الصفحة الأولي: مقتل ضابط مصري برصاصفلسطيني، ثم أوردت في الخبر النص التالي: قتل ضابط مصري خلال الاشتباكات معالمسلحين الفلسطينيين.. حيث أطلق الفلسطينيون النار في الهواء في محاولة لاقتحامالحدود، وردت عليهم القوات المصرية بالمثل، فتحول إطلاق النار بعد ساعة علي بدئهإلي اشتباك بين الجانبين، قتل خلاله الضابط و4 مسلحين فلسطينيين.
إذا أعدت قراءة النص جيدا ستلاحظ ما يلي:
1 - إن اسم الضابط لم يذكر.
2 - إنه قتل أثناء تبادل إطلاق النار بين الطرفين.
3 - إن الذين اشتبكوا مع حرس الحدود المصريين كانوا من الفلسطينيينالراغبين في عبور الحدود، وليس فيه أي إشارة إلي حماس.
4 - إن الاشتباك الذي قتل فيه الضابط أسفر عن قتل أربعة فلسطينيينأيضاً «الثابت أن واحداً فقط قتل في حين جرح عشرة».
كيف لعب الإعلام المصري بالخبر، وحوله إلي قنبلة تلوث الإدراكالمصري، بحيث يجعل القارئ أو المشاهد يندفع إلي الشارع هاتفا «لا فلسطين بعداليوم»، كما حدث أيام الرئيس السادات.. غداً بإذن الله أجيب عن السؤال.