لحظةٌ حزنتُ فيها على الحياة!
كعادتي ولمن لا يعرفني، فإنني شخصٌ يعتبر وجودهُ في الحياة قضاءً وقدراً، أما كونهُ متمسكاً بها أو راغباً بها فهذا همه الأخير في ما أظن..
لكنني شعرتُ للحظةٍ بمعنىً من معانيها سأقولهُ لكم بقليلٍ مما حواهُ ذلكَ الموقف:
كنتُ أعملُ ذات ليلةٍ مضت من ليلتين على حاسوبي المحمول، والذي لا أكادُ أفارقهُ أغلب اليومِ؛ ليس هو بل كل شيءٍ يمتُّ للحواسيب بصلةٍ؛ ففيها أدرس وفيها أكتب وأؤلِّف، وفيها أقرأُ، وفيها أراجعُ العلمَ وأتعلم، وفيها أسليِّ نفسي، حتى التلفاز وضعتهُ فيها.. ولذا فعملي على الحاسوبِ لا يكادُ ينقضي، ولا أخالهُ كذلكَ.
ولا أظنُّ أن هنالكَ من هو أكثر هوساً مني باستغلالِ كلِّ لحظةٍ في القراءة والعمل والكتابة، ففي اللحظة التي أعملُ فيها على الحاسوبِ المحمول، فأنا أجلسُ أيضاً على حاسوبي الشخصي الغير محمول، والذي أكونُ أعملُ عليهِ أيضاً! وفي اللحظةِ ذاتها حاسوبٌ كفِّيٌّ يجلسُ بجاوري أطالع فيه بعض العلم وأرجعُ إلى المعلومات السريعةِ من خلالهِ بين الحين والآخر.. وفي الوقتِ ذتهِ أيضاً المحاضراتُ العلمية -والعلمية فقط ليست الوعظية- يجري تحميلها من الإنترنت والاستماع إليها في نفس وقت العمل على الحاسوب..
ولذلك الهوس العلمي سخَّرتُ القواميس والموسوعات العلمية متعددة اللغة وأكثر من 400 جيجا من الكتب والمواد الطبية فقط، وربما مثلها من الكتب والمواد الغير طبية!
طبعاً عدا الكتب التي تملأُ الرفوف والزوايا في واحدٍ من ثلاثة بيوت في ثلاثِ دولٍ أترددُ بينها بنفس الطريقة في الكتب والحواسيب!!
هذا دون طلب العلم من غير الحواسيب..
باختصار: جنون المعرفة!!
شعرتُ بالإرهاقِ، فقد مضى عليَّ ما يقربُ من خمسِ ساعاتٍ لم أغادر الشاشة إلاَّ لصلاةٍ، ففركتُ عينيَّ وأعدتُ النظرَ إلى الشاشة..
شيءٌ طبيعيٌّ أن يرى الإنسانُ غبشاً في عينيه بعد فركهما؛ يزولُ بعد ثوانٍ قليلة. وهذا ما رأيتهُ.
أخذتُ أنتظرُ زوالهُ، لكنهُ طال بعض الشيء.
مضت ثلاثون ثانيةً ولم يذهب، مرَّت دقيقةٌ، والغبش يحجبني الرؤية!
خلعتُ نظارتي، فركتُ عينيَّ ثانيةً لكن الغبش لا يزالُ يُغيِّم عينيَّ بما يُشبهُ الغمام!
ولأنني لا أبالي، فقد قلتُ لنفسي بغطرسةٍ:
- هل سأنتظرُ طويلاً؟! لدي الكثيرُ لأنجزهُ!
وعدتُ إلى شاشة الحاسوب ظانَّاً بأن القراءة قد تُزيلُ الغبش الذي غشَّى حبيبتيَّ!
نظرتُ إلى الشاشة، وحاولتُ القراءة، لكنني صُعقتُ بالنتيجة! إنني أرى ضوء الشاشة لكنني لا أرى التفاصيل التي تحتويها!
لبستُ النظارة، وعدتُ للشاشة، أيضاً لم أقوى على قراءة التفاصيل!
لا شعورياً، أمسكتُ بشاشة الحاسوب المحمولِ، ووضعتها أمامَ عينيَّ مُباشرةً، علِّي أُوفَّقُ في القراءةِ فلم أقدر!
شعرتُ بالغضب، فقمتُ من الجهازِ المحمولِ إلى الجهاز الثابتِ، ووضعت وجهي في وجههِ، ولم أستطع قراءة شيء!
في لحظةٍ أخذتُ أراجعُ في ذهني كل ما تعلمته في طبِّ العيونِ، لأتذكر -ولست مختصاً في طب العيونِ- سبب ما يجري لي، فالأعراضُ تقودُ كلها إلى خيارات مرعبةٍ للغاية!
توجهتُ إلى درجٍ جمعتُ فيه الأدوية، وأخرجتُ قطرةً كنتُ أستجدي من يُقطِّر لي عيني منها؛ كوني جهدت ولم أستطع أن أُنزل قطرةً واحدةً صحيحةً إلى عيني، ولما داهمتني الوحدةُ سلَّمتها للدرج!
بصعوبةٍ بالغةٍ استطعتُ أن أقرأ تاريخ الصلاحية والذي لا يزالُ سارياً بحمد الله.
استلقيتُ على الفراش، ويدٌ على القطرة وأخرى بكل القوة تحاول فتح العين.
سقطت القطرة الأولى خارجاً -كالعادة- حاولتُ ثانيةً وثالثةً حتى أنزلتُ القطراتِ إلى عيني.
رجعتُ فوراً إلى الحاسوب، إذ أن الوقتَ لا يسمحُ لي بالتأخر أكثر، فهل عَمِل الدواءُ السحريُّ مفعولهُ سريعاً؟!
بالطبع لا! لكنني كنتُ أخدعُ نفسي!
لا فائدة، فحتى اللحظة مرت بضعةُ دقائق وأنا لا أرى التفاصيل أبداً!
الحلُّ الوحيدُ لديَّ الآن هو الاسترخاءُ وإراحةُ العينِ؛ لكن سيُهدرُ الوقتُ بلا فائدة!
إذاً سأدع شخصاً يقرأُ لي!
توجهتُ إلى الحاسوبِ الثابتِ، وفتحت بصعوبةٍ أيضاً مجلداً وضعتُ فيه المحاضراتِ الجديدة، وأطلقتُ العنان لأحدها، واستلقيتُ إلى السرير.
أخذتُ أستمعُ وأنا أُفكِّرُ في حالي: هل سيعودُ إلى بصري الضعيف -أساساً- إلى سابقِ عهدهِ؟!
أخذت أفكِّرُ بأنه لو لم يعد بصري الجميلُ كما كان، فكيف سأمضي حياتي؟!
هل يُعقل أن أتوقف عن القراءة؟! عشراتُ الكتب مدرجة في قائمة القراءة لدي، وليس لدي الوقتُ لقراءتها!
هل سأتوقف عن الكتابة؟! في هذه اللحظة وضعتُ الخطط الكاملة لتأليف خمسة كتب لو أجدُ من يكتبها عني لأمليتها عليهِ من ذهني!
هل سأوقفُ الكثيرَ من أعمالي وأبحاثي؟!
هل؟! هل؟! هل؟!
هل يُعقل أن أعيش بقية حياتي هكذا؟!
صرختُ في داخل أعماقي بصمتٍ مؤلمٍ: هذه الحياةُ فعلاً ستكون عليَّ كارثةً!
وضعتُ لنفسي ربعَ ساعةٍ فقط للراحة، وبعدها القبول بالواقع..
انهمرت عليَّ الاتصالاتُ فجأة في هذه الربع ساعة ولذلك لم أشعر بها أبداً..
انقضتْ، ووقفتُ بثباتٍ أمام الشاشة لأحسم الأمر.
الحمدُ لله، جزئياً أصبحتُ أرى بعض التفاصيل، وإن لم تكن كما يجب.
إذاً أحتاجُ للمزيدِ من الراحة.
آخرُ ما أتذكَّرهُ انقطاع التيار الكهربائي فجأةً، ودخول المكان في دياجير الظلام.
بالنسبة لي ابتسمتُ وقلتُ لنفسي:
إنها الراحة، ستُجبرُ عليها شئتَ أم أبيتَ!
بعد ساعاتٍ عاد البصرُ بحمد الله وحفظه إلى حاله السابقِ، فحمدتُ الله على نعمهِ، وشعرتُ لوهلةٍ أن كرهي لهذه الحياة مهما كان عميقاً، فإنهُ لن يكون بعمق الكره فيما لو كنتَ فاقداً لأكثر الأمور حاجةً وإلحاحاً!!
دمتم مبصرين بنورِ الله.
منقول
ام تيمية 11 @am_tymy_11
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
فاقدة عزوتها
•
يعطيك العافيه
الصفحة الأخيرة