لعله يرضى

نزهة المتفائلين

تطايرت شظايا الغضب حين علمت العائلة أن ابنهم الميت أعطى البيت الكبير لزوجته بورقة بيع صورية، فضلاً عن نصيبها في الميراث..
صرخت الأم العجوز: الولد العاق يلقي ماله للعاقر التي أضاعت شبابه وحرمته الولد!!.
همست عجوز تجلس بجوارها: أقسم بالله لقد سحرت له..
كثر اللغط واختلطت الأصوات الغاضبة وتعالت، أما هي فقد وقفت خلف النافذة وتناهي إلى سمعها كل شيء، وقفت ترقب غياب الشمس وعندها تنقضي عدة الوفاة.
وهي طفلة صغيرة تفتحت عيناها على ابن عمها، طيلة أيام الطفولة كانا يلعبان معاً.. ولما بلغت الثامنة جعل بينهما برزخاً وحجراً محجوراً، عن بعد كان يحرسها ذاهبة إلي المدرسة، وقافلة مترصداً لأي نظرة، أو التعرّض لها بكلمة لتشتعل الحرب الضروس.
تزوجته راضية سعيدة.. أحبت فيه ابن العم وصاحب الطفولة، ثم اكتشفت فيه بعد الزوج والحبيب، لكن حبها لابن العم كان أكبر من حبها له كزوج.
لم يكدر حياتهما سوى الحرمان من الذرية، منبع الكدر ضغوط العائلة القلقة المتحفزة لقدوم ولي العهد.. أما هما فرضيا بما قسم الله وقدر.
مضت سنتان وحاصرته المطالبة بالزواج من أخرى تهبه الولد ما دامت زوجته عاقراً، حركت أمه الهجوم عليه من عدة محاور.. أبيه.. إخوته.. جده.
التفافاً على الهجوم ذهب مع زوجته إلى الطبيب وطمأنا الأهل..
قالا: كل شيء على ما يرام.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
تسربت الشهور ومضت السنوات وبقي الحال على ما هو عليه، واشتد الصراع مع أهله وتصاعدت الضغوط كي يتزوج وحدثت النفرة ثم القطيعة بينه وبينهم، مات أبوه وجده وهما غير راضيين عنه، أما هي فعوملت كثعبان سام يعيش بين أظهرهم..
بذلوا لها كل صنوف الإهانة والمضايقة؛ لإرغامها على الرحيل عنهم، وطلب الطلاق دون طائل.. هي عاهدته على أن تصبر.
عشرون عاماً مضت.. امتزج فيها العسل والحنظل، دبرت بالأمس لكل شيء.. لبست ثوبها القديم الذي أهداه إليها أبوها منذ سنوات، فتحت صندوق الذهب، وألقت فيه كل حليها، ثم تناولت ورقة من قاع الصندوق، أغلقت الباب عليها وفتحت الورقة وهمهمت – السر الكبير.
تقرير الطبيب الذي يشهد بأن زوجها عقيمٌ لا أمل فيه كما يشهد بأنها أرض خصبة قادرة على العطاء..
يومها عزم على منحها الطلاق، ومكثت ليالي طوالًا ليعدل عن ذلك، وأخذت عليه العهود أن يظل الأمر سراً بينهما، عزمت على أن تصبر لحكم الله وقدره مع ابن عمها، ولا تدعه يواجه البلاء وحده.
لسنوات طوال مضت ظلت تكظم حنين الأمومة الذي أحرق مهجتها، وظلت تكابد الشوق إذا ما رأت ابتسامة طفل، أو سمعت ضحكه وبكائه لو رأته يمشي يحبو أو تضمه أمه إلى صدرها.
لم تُشعر ابن عمها بشيء من ذلك.. جاهدت لإسعاده ما أمكنها، ثم تجتر آلامها وحنينها وأشواقها عندما تخلو إلى نفسها.
في لحظة ضعف ومعاناة من الظلم والقهر كادت أن تخرج إليهم رافعة التقرير الطبي وتصفع به وجوههم، تعلن على الملأ مرفوعة الرأس أنها ليست بالعاقر، بل ابنهم هم هو العقيم، لكنها تراجعت واحتقرت نفسها: كيف تبدد عطاء عشرين عاماً لقاء لحظة ضعف!
هي لم تضحي من أجلهم، ولا تريد صك براءة من أحد..
بل تدخر كل ذلك ليوم عبوس تتطاير فيه الصحف وتطيش العقول ثم بعد حباً ووفاء لإبن عمها، سخرت من لحظة ضعفها كيف تصون سره حياً وتخون سره ميتاً، عزمت أن يكون عطائها وتضحياتها خالصة.
لا.. لن تأخذ ولو حبة خردل من أحد وإن كان حقها.. ستترك لهم كل شيء الأصفر والأبيض، ستخرج إلى دار أبيها صفر اليدين في ثوبها القديم.
طافت ببيتها تودعه الوداع الأخير.. وتدفقت أمواج الذكريات وبالكاد حبست دموعها.. وعجلت بالنزول، وأبصرتهم مجتمعين بالقاعة.. لم تتكلم إلى أحد.. بل وضعت أمامهم ورقة بتوقيعها تتنازل فيها عن البيت والميراث وكل شيء، ومضت إلى بيت أبيها خالية الوفاض.
لم تكد تدخل حجرتها حتى أخرجت من جيبها تقرير الطبيب، وهمست ساخرة:-
- تلك الوريقة تبدلني في نظرهم من جلاد إلى ضحية، ومن محط ازدراء وغضب إلى موضع إكبار وشفقة!
عزمت أن تحمي نفسها وإلى الأبد من كل لحظة ضعف أو طيش.. فأحرقت التقرير الطبي وجعلت ترقب الرماد كمن آوي إلى جزيرة مقفرة وأحرق سفينة النجاة وظل يرقبها محترقة!
هي لم تكن في حاجة لتبرئة أو رحمة أو شفقة من أحدٍ أيًّا كان، فلَذَّةُ السكينة والطمأنينة والرضا التي غمرت قلبها أحب وأشهى عندها من الدنيا وأهلها.
توضأت وصلت ركعتين طويلتين..ثم رفعت يديها إلى السماء باكية:
أرضيتَ يا رب؟
0
848

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️