لماذا لا يغني العندليب ؟..

الأدب النبطي والفصيح

لماذا لا يغني العندليب ؟


سل الفجر الذي لم يبد فينا .... لماذا لا يغني العندليب ..



لم أفق اليوم كعادتي من النوم على صوت عندليبي الحبيب ، وإنما على طرقات عنيفة على الباب تكاد تحطمه .. وقبل أن ننهض مـن أماكننا ، إذ بحفنة من الجنـود النذلين يداهموننا ويشهرون في وجوهنا الحائرة بنادقهم ..
استبد بنا الخوف ، وصرنا جميعا جسداً واحداً ..
لم نجد الوقت لنفهم ماذا يحدث ، أمرنا الجنود بغلظة أن نخرج من المنزل رافعين أيدينا ففعلنا كما طلبوا ..
وفي الخـارج .. استقبلتنا الشمس بأشعتها ولشد ما كانت محـرقة هذا اليوم على غير العادة !.. نظرت حولي ، فأدركت بأننا لسنا الوحيدين ، سكان البيوت المعدودة بجوارنا كلهم في مثل حالتنا ..
تصاعدت أصوات بكاء الأطفال ، وحوقلة الرجال ، وآهات النساء .. الكل تطل من عينيه نظرة حيرى مشوبة بالذعر .. ماذا سيفعل هؤلاء الأنذال ؟..
وما كاد السؤال يعبر خاطري حتى ارتفع صـوت أحد الجنود وهو يقول شيئاً ما مصوباً نظراته الخبيثة نحونا .. لم أفهم ما قاله ، وما كنت أريد ذلك ..
ولكن ، في اللحظة التالية تقدم أحد الرجال، والغضب قد عصف به ، فصاح بنظرة تهديد لاحت في عينيه :
ــ « ماذا تريـدون منا أيها الجبناء ؟ اقتـلونا إن شئتم وأريحـونا من رؤية وجوهكم التعسة !.. »
وصمت الرجل ، وإذ برصـاصة غادرة من بندقية الجندي تخترق صدره لترديه قتيلاً ، وأمام أعيننا التي لم تستوعب ما يحـدث .. أغمي على البعض ، والبعض الآخر ارتفع صوته باكياًً أو مندداً ، لكن الرصاص أخرسهم جميعاً ..
أسـرعت الزوجة المكلومة إلى زوجها ، وقـد حبس الذهول دموعها ، في حين كان أطفاله يتلمسونه ويلوذون به وهم لا يدرون ما حدث !!
كادت القلـوب تذوب من الخوف ، و الجندي يرمينا بنظراته الوحشية المتعطشة للدماء واحداً واحداً ..
من الضحية التالية يا ترى ؟..
سؤال أحسبه دار في خلد الجميع في اللحظة ذاتها ..
نظرت إلى جواري ، فالتقت عيناي بوجه شقيقي الصغير الفزع وهو متعلق بثوب أمي يحاول أن يختبئ في أضلاعها وقد ترقرقت الدموع في مقلتيه الصغيرتين ..
أما أمي فقد جمدت في مكانها لا تدري ماذا تفعل ..
التفت الجندي إلى رفاقه الأوغاد ، وأمرهم بتفتيش منازلنا ..
يزعمون أننا نمتلك مالا يسمح لنا بامتلاكه ..
وشرع الجنود يدخلون بيتاً تلو الآخر ، ونظراتنا اليائسة تراقبهم في صمت ، ولما لم يجدوا شيئاً ، أمرونا بالتجمع عند أحد الأشجار ، لأنهم سيقومون بتفتيشنا نحن ، واجتمعنا عند الشجرة التي يسكن فيها عندليبي .. الرجال في جهة ، والنساء والأطفال في جهة أخرى ..
تلفتٌ باحثة عنه ، وأدهشني أن رأيته يتقافز بين الشجيرات الصغيرة ، مرتعشاً مضطرباً وجناحاه يخفقان باستمرار ..
حملته بيدي ، وسألته :
ــ « لماذا لم تغرد اليوم ، أأنت حزين لما يحدث هاهنا ؟ »
وفوجئت به يطير مبتعداً حتى حط على إحدى أغصان الشجرة الكبيرة ، وبدأ يغني ..
نعم ، يغني ، أغنية حزينة جعلت الجميع ينظرون إليه ..
وحدث ما لم أتوقعه ، لقد خر العندليب صريعاً إثر طلقة من أحد الجنود ..
دنوت من جثته ، ولا زلت غير مصدقة أني لن أسمع ذلك التغريد العذب ثانيةً .. وراعني أن وجدت جثثاً لعنادل أخرى ..
ألهذا لم تغني اليوم ؟
أفجعت بأحبابك كما فجعنا نحن ؟..
وهنا .. سمعت صوتاً غاضباً .. التفت لأرى أمي تدفع بيدها جندياً أراد أن ينتزع حجابها زاعماً أن التفتيش يستدعي ذلك ..
وما كدت أخطو بقدمي المرتجفتين خطوة نحو أمي ، حتى سمعت صوت الرصاص ، وكأنهم لا يجيدون لغةً للتفاهم سواها ..
صرخت أمي في لوعة ، وكذلك بعض النسوة ، لم أفهم لماذا ، ولكني حين رأيت المشهد المفزع .. لم أتمالك نفسي ..
جسد أخي الصغير الغض قد استقر بين يدي أمي مضرجاً بدمائه الطاهرة .. بينما دمعة متحجرة قد بدت في عينيه البريئتين ..
لم أشعر بما حولي .. ولم أعد أرى أحداً وهذا السواد يصر على الزحف نحو عيني ..
عندها تردد في أذني قول الله تعالى :
« أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير »
« وإن الله على نصرهم لقدير »
بعدها فقدت وعيي ، وغبت عن هذا الواقع المؤلم ..
أرجوكم لا تلوموني .. وارحموا قلبي المعذب .. فتنتظرني لحظات من الخوف والحزن والألم ..
10
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

صباح الضامن
صباح الضامن
تلك صورة من الصور
لا بل مأساة
تتكرر
وتتكرر
ولكن العنادل إن صمتت ذاك اليوم فهي تغني لحن الشهادة
فارفعي صوتك يا عنادل الوطن فالكل هناك شهيد


تحية لكاتبة الموضوع
نجحت في التأثير
سلمت
عصفورة الربيع
أختي في الله
صبــــاح الضــــامن

شكراً على قراءتك لما كتبته ..
وردك أنت بالذات أسعدني ..
بارك الله فيك ، وحفظ لك قلمك السيال ..
عصفورة الربيع
بسم الله الرحمن الرحيم



بعد كل هذه المدة ..
لا أدري لما أشعر برغبة في إحياء صفحتي هذه ..
ربما لأنها لم تلق إلا تعليقاً يتيماً ..
أو ربما لأنني كتبتها في لحظة صدق مع نفسي ..
فأردت أن أرى ردودكن ..
أعرف أن الأسلوب مقتضب إلى حد كبير ..
وربما كانت تحتاج إلى بعض الإضافات .. بل الكثير منها في الواقع ..

بانتظار ردودكن ....
وجزاكم الله خيراً ..


:26: :26: :26:
سكارلت
سكارلت
نعم هي مأساة من رحم الواقع

نتجرع مرارتها ونودع الألم في قلب أثقلته الجروح

وربما أشد الجروح وطأة

هو الصمت والإستسلام !!!

أبدعت أختي عصفورة الربيع

سلمت يمنااااك :26:
الملاك الغريب
اختى عصفوره الربيع
تفصلنا الالاف الاميال.... ولكنا كلماتك تخترق المسافات وتطوي الارض في لحضه
لا ادري لماذا تجذبني بقوه لاذوب في تفاصيلها الرائعه
ربما لان كلماتك تنبع من واقعنا من جراحنا واحزاننا!!!
صدقيني اذا قلت لك ان في عيناي بريق دمعه . نعم ان قصتك بل اسلوبك بصفه عامه يدخل القلب بسلاسه وقوه
فيه صدق التعبير وحراره الكلمات
لقد نجحت في التاثير وبجداره :26: