لما مات رجــــــــــــاء .....مقطوعه نثريه بتفاصيل الحزن

الأدب النبطي والفصيح

...... ..... ....... ...... ( ولـــــــــدي ) ..... ...... ........ ....... .....

كنت أتصور أن الشعر وحده هو الذي يملك هزّ المشاعر ، وإثارة الأحاسيس وتصوير دقائق النفس ، وخلجات الضمير ، فلما قرأت هذه المقالة ، علمت أن من النثر ما يتفوق على الشعر ..

إن الكاتب البارع والإنسان البليغ يستطيع أن يعبّر عمّا في نفسه وما يختلج في مشاعره ، وينقل تجربته إلى غيره فيجعلهم يعيشونها معه ، وليس شرطاً أن تكون في قالب الشعر ..

فهذا الأديب المسلم العربي المتألّق / أحمد حسن الزيّات – رحمه الله – أستاذ الكلمة وقبطان العبارة وملك الأسلوب ، صاحب مجلة الرسالة الرائدة ، قلما تجد في عصره أعذب من أسلوبه ، أو أجمل من مقالاته ، أو أصدق من انفعالاته ، إنه علم شامخ في فن الكتابة العربي الأصيل السهل الممتنع ..

لا أطيل عليكم ..
أترككم مع أحد روائعة ، والتي حاولت عبثاً أن أكفكف الدمع مع كل حرف من حروفها :


يا قارئي أنت صديق فدعني أرق على يديك هذه العبرات الباقية !

هذا ولدي كما ترى ، رُزِقته على حالٍ عابسةٍ كاليأس ، وكهولة بائسة كالهرم ، وحياة باردة كالموت ، فأشرق في نفسي إشراق الأمل ، وأورق في عودي إيراق الربيع ، وولّد في حياتي العقيمة معاني الجدّة والاستمرار والخلود !

كنت في طريق الحياة كالشارد الهيمان ، أنشد الراحة ولا أجد الظل ، وأُفيض المحبة ولا أجد الحبيب ، وألبس الناس ولا أجد ما ألبس ، وأكسب المال ولا أجد السعادة ، وأعالج العيش ولا أدرك الغاية !!

كنت كالصوت الأصم لا يُرجِعُه صدى ، والروح الحائر لا يُقِرّه هدى ، والمعنى المبهم لا يحدده خاطر !!

كنت كالآلة أنتجتها آلةٌ واستهلكها عمل ، فهي تخدم غيرها بالتسخير ، وتميت نفسها بالدءوب ، ولا تحفظ نوعها بالولادة ، فكان يصلني بالماضي أبي ، ويمسكني بالحاضر أجلي ، ثم لا يربطني بالمستقبل رابط من أمل أو ولد ..

فلما جاء ( رجاء ) وجدتني أولد فيه من جديد ؛ فأنا أنظر إلى الدنيا بعين الخيال وأبسم إلى الوجود بثغر الأطفال ، وأضطرب في الحياة اضطراب الحي الكامل يدفعه من ورائه طمع ، ويجذبه من أمامه طموح !

شعرت بالدم الحار يتدفق نشيطاً في جسمي ، وبالأمل القوي ينبعث جديدا في نفسي ، وبالمرح الفتي يضج لاهياً في حياتي ، وبالعيش الكئيب تتراقص على حواشيه الخضر عرائس المنى !

فأنا ألعب مع رجاء بلعبه ، وأتحدث إلى رجاء بلغته ، أتبع عقلي هوى رجاء ، فأدخل معه دخول البراءة في كل ملهى ، وأطير به طيران الفراشة في كل روض ثم لم يعد العمل الذي أعمله جديراً بعزمي ، ولا الجهد الذي أبذله كفاءً لغايتي ، فضاعفت السعي ، وتجاهلت النصب ، وتناسيت المرض ، وطلبت النجاح في كل وجه !

ذلك لأن الصبي الذكي الجميل ، أطال حياتي بحياته ، ووسّع وجودي بوجوده ، فكان عمري يغوص في طوايا العدم قليلا ليمد عمره بالبقاء ، كما يغوص أصل الشجرة في الأرض ليمد فروعها بالغذاء ..

شغل رجاء فراغي كله ، وملأ وجودي كله ، حتى أصبح شغلي ووجودي !

فهو صغيراً أنا ، وأنا كبيراً هو ؛ يأكل فأشبع ، ويشرب فأرتوي ، وينام فأستريح ، ويحلم فتسبح روحي وروحه في إشراق سماوي من الغبطة لا يوصف ولا يحدّ !!

ما هذا الضياء الذي يشعّ في نظراتي ؟

ما هذا الرجاء الذي يشيع في بسماتي ؟

ما هذا الرضا الذي يغمر نفسي ؟

ما هذا النعيم الذي يملأ شعوري ؟
ذلك كلّه انعكاس حياة على حياة ، وتدفق روح في روح ، وتأثير ولد في والد !؟

ثم انقضت تلك السنون الأربع !
فطوّحت الواحة وأوحش القفر ، وانطفأت الومضة وأغطش الليل ، وتبدد الحلم وتجهّم الواقع ، وأخفق الطب ومات رجاء !!

يا جبّار السموات والأرض رُحماك !!

أفي مثل خفقة الوسنان تبدّل الدنيا غير الدنيا ، فيعود النعيم شقاء ، والملأ خلاء ، والأمل ذكرى ؟!
أفي مثل تحية العجلان يصمت الروض الغرد ، ويسكن البيت اللاعب ، ويقبح الوجود الجميل ؟!
حنانيك يا لطيف !
ما هذا اللهيب الغريب الذي يهب على غشاء الصدر ومراق البطن فيرمض الحشا ويذيب لفائف القلب ؟

إن قلبي ينزف من عيني عبرات بعضها صامت وبعضها معول !
فهل ببيان الدمع ترجمان ، ولعويل الثاكل ألحان ؟
إن اللغة كون محدود فهل تترجم اللانهاية ؟
وإن الآلة عصب مكدود فهل تعزف الضرم الواري ؟
إن من يعرف حالي قبل رجاء وحالي معه يعرف حالي بعده !
أشهد لقد جزعت عليه جزعاً لم يغن فيه عزاء ولا عظة !
كنت أنفر ممن يعزيني عنه لأنه يهينه ، وأسكن إلى من يباكيني عليه لأنه يكبره ، وأستريح إلى النادبات يندبن الكبد الذي مات والأمل الذي فات ، والملك الذي رُفع !

لم يكن رجاء طفلاً عادياً حتى أملك الصبر عنه وأطيع السلوان فيه ؛ إنما كان صورة الخيال الشاعر ورغبة القلب المشوق !

كان وهو في سِنِّهِ التي تراها ، يعرف أوضاع الأدب ، ويدرك أسرار الجمال ، ويفهم شؤون الأسرة ، ويؤلف لي ( الحواديت ) كلما ضمني وإياه مجلس السمر !

كان يجعل نفسه دائماً بطل ( الحدوتة ) فهو يصرع الأسود التي هاجمت الناس من حديقة الحيوانات ، ويدفع ( العساكر ) عن التلاميذ في أيام المظاهرات ، ويجمع مساكين الحي في فناء الدار ليوزع عليهم ما صاده ببندقيته الصغيرة من مختلف الطير !

والهف نفسي عليه يوم تسلل إليه الحِمام الراصد في وعكة قال الطبيب : إنها ( البرد ) ، ثم أعلن بعد ثلاثة أيام أنها ( الدفتريا ) !

لقد عبث الداء الوبيل بجسمه النضر كما تعبث الريح السموم بالزهرة الغضّة !

ولكن ذكاءه وجماله ولطفه ما برحت قوية ناصعة ، تصارع العدم بحيوية الطفولة !!

والهف نفسي عليه ساعة أخذته غصة الموت ، وأدركته شهقة الروح ، فصاح بملء فمه الجميل / ( بابا ! بابا! ) كأنما ظنّ أباه يدفع عنه ما لا يدفع عن نفسه !

لنا الله من قبلك ومن بعدك يا رجاء . وللذين تطولوا بالمواساة فيك السلامة والبقاء .. __________________
2
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

ديمه المطيري
ديمه المطيري
ظلت هذه الخاطره تترد في ذهني مـــــــــــــــــــدى 7 سنوات

قررت اليوم أن أنثرها هنا

لعل هناك من تستشعرها

متذوقة ما فيها من جمال ...و

ألـــــــــــــــــــــــم
ربا بنت خالد
ربا بنت خالد





.. خاطرة مؤلمة وتصوير رآئع
مفرادت متجددة .. ونقل مميز ..
وسبع سنوآت من الوفاء ولكنة وفاء من
طراز آخر .. ومن نوع أخر .. نوع أدبي ..
كل الشكر لمقدمـك ..