
ما عُدتُ أنا @ma_aadt_ana
محررة فضية
«®°·.¸.•° لن أقول وداعاً °·.·.¸.•°®»
** رحلة الهرب **
لم أفكر مطلقا بأنني سأمسك القلم لأسطر تفاصيل حياتي حتى أتى ذلك اليوم الذي قرر فيه والدي السفر إلى بلد بعيد...
فقد ساءت الأحوال السياسية في بلادنا مما ينذر بحدوث حرب محتملة..
ومنذ ذلك القرار وأنا أحمل معي مذكرة شخصية..أؤرخ فيها ما أمر به من أحداث على فترات متباعدة...
تلقت عائلتي قرار أبي بهدوء...كنت الوحيد الذي لم يعجبه القرار..لكني احتفظت برأيي لنفسي...
بدأ أفراد أسرتي المكونة من والدي وأخي وشقيقتاي بحزم أمتعتهم....
وخلال يومين كنا على متن الطائرة باتجاه البلد المقصود...
****
كان يوما خريفيا الذي استقبلنا هناك.... أوراق الأشجار تميل إلى اللون الأصفر لكن منظرها لا يزال رائعا...
مكثنا في منزل جميل في إحدى المدن التي تضم جالية بلدنا...ظن الجميع أننا لن نشعر بالغربة...أما أنا فقد كنت مكتئبا...
الغربة شعور مرير حتى لو كنت بين أهلك...
والهروب من الأرض التي ألفتها انكسار مهين حتى لو كنت هاربا من الموت....
لقد اعتدت على كتم مشاعري منذ صغري فلم أظهرها الآن؟؟!!..
حزمت أمري وصممت على التأقلم ...وكبداية ..التحقت بعمل في شركة للمنتجات الغذائية وأصبح لي دخل يكفيني وأكثر..
ومع مرور الوقت اكتسبت صلابة لا يعرفها سوى من كان مغتربا...
****
** نقطة اللاعودة **
كان والدي يشعر باشتياقي إلى الوطن...وخوفا من أن استسلم لهذا الاشتياق عرض علي أن أتزوج من فتيات إحدى الأسر الهاربة مثلنا هناك...
حاولت الإحتجاج فلم أكن أريد الوقوع في المصيدة..
لكن والدي أصر قائلا أنني قد بلغت الثلاثين وحان الوقت ليرى أحفاده...
وفي النهاية قبلت على شرط أن تختار أختي الصغرى لي زوجة المستقبل..فقد كنت أحبها كثيرا وأثق برأيها..
****
وقع الإختيار على فتاة جميلة تبدو كما لو كانت طفلة بجسمها الضئيل وعيناها البريئتان...
وبعد أن قابلتها عدة مرات اقتنعت أنها زوجة مناسبة....وفعلا تم الزفاف خلال شهر..
****
أحببت زوجتي....لم يكن الحب الذي حلمت به دائما....
ذلك الذي يجعل الأرض تهتز تحت قدمي...
ولكنه حب هاديء...
الحياة تنازلات....لذا قبلت التنازل عن حلمي من أجلها...فقد كانت تستحق ذلك رغم شعوري أن ثمة شيء في قلبي ينقصني..
****
** إلى من أنتمي؟؟!! **
سارت عجلة الحياة ..والاحترام يتوثق بيننا...في باديء الأمر كنا نعيش مع أهلي..
ومع تحسن حالتي المادية انتقلنا إلى شقة قريبة منهم...
دفعني إلى ذلك أننا كنا بانتظار طفل سيزيد من عددنا....نعم فزوجتي حامل في شهرها الرابع...
كنت أشعر أنني مقيد....السؤال الذي يعذبني دائما...
" إلى من أنتمي؟؟!!"
إلى موطني حيث ولدت؟؟..
أم إلى هذا البلد الغريب الذي يسكن فيه أهلي وسيولد فيه طفلي؟؟!!...
****
ذات نهار مشرق خرجت مع زوجتي للتسوق...وبعد أن طفنا في عدد من المحلات لاحظت أنها تعبت...
طلبت منها أن تسبقني إلى السيارة ريثما أحضر المشتريات...
كانت تعبر منتصف الشارع عندما خرجت من المحل ورأيت سيارة مسرعة تتجه نحوها..
وفي لحظات كأنها الدهر شاهدت مقتل زوجتي وطفلي الذي لم يولد بعد...
****
** يدفعني الحنين **
الحزن الذي لازمني على وفاة زوجتي استمر طويلا....
وبعد معاناة رأيت أن الرابط الذي كان يقيدني للبقاء في هذا البلد قد انقطع...
لقد كنت دائما أفكر بالعودة إلى موطني...لكن ولائي لزوجتي منعني من ذلك...
أما الآن...فإن الحنين قد زاد ودفعني أخيرا للرحيل...
****
اعتذرت من أسرتي التي ذعرت من خبر رغبتي في العودة...
لكنهم أذعنوا أخيرا بعد أن وعدتهم بزيارتهم كلما سنح لي الوقت بذلك...
****
لم تكن الحرب التي اندلعت بعد هربنا بفترة وجيزة قد دمرت بيتنا...
فقد بقيت أجزاء كثيرة من المدينة بمأمن...ما عدا الجزء الجنوبي حيث تصل القنابل..
لو كان العدو من خارج البلاد لاشتركت في الحرب بلا تردد...
لكن الحرب كانت عبارة عن انقسام داخلي لأسباب تافهة لا أؤمن بها...
لا يمكنني حمل السلاح وتصويبه باتجاه أبناء جلدتي...
وجدت المنزل في حالة جيدة نسبيا...لم أشأ أن أضيع الوقت فعدت إلى عملي السابق بدوام جزئي..
كان هذا أفضل ما حصلت عليه...وهكذا أصبحت حياتي روتينا واحدا ..
لكنه يرضيني مادمت على الأرض التي أحب...
****
** قابلت طيفا **
ذات مساء بعد مرور سنة سمعت طرقات قوية على الباب الخارجي...
ذهبت لأرى من هناك...وبسرعة البرق دخلت فتاة وأقفلت الباب خلفها وهي تلهث..
صدمني الموقف ..وعندما سقط الوشاح الذي تغطي به وجهها ذهلت...
وتبخرت قدرتي على الكلام...
كأنني قابلت طيفا من الماضي....
قالت بصوت مرتعش:
"هل يمكنني البقاء هنا؟؟"
.............لا رد من ناحيتي...فقد كنت مندهشا لشدة الشبة بينها وبين زوجتي المتوفاة..حتى بجمسها الضئيل..
عندما نظرت إلى عينيها..لاحظت خوفاً يرتسم داخلهما..
جعلني أشفق عليها..
أومأت برأسي موافقا وقدتها إلى داخل المنزل....
****
بعد أن هدأت قليلا قدمت لها طعاما..
قالت:
"لست جائعة"
صمت للحظة ثم قلت:
"من أنت؟؟"
أجابت بحدة:
"لا يهمك أن تعرف"
تمالكت أعصابي...أحسنت عليها بقبولها في منزلي وهاهي تعاملني كما لو كنت عدوا...
"حسنا....ألا يمكنني على الأقل معرفة اسمك؟!!"
نظرت إلي مليا وكأنها تفكر قبل أن تقول:
"نادني بما تشاء"
إذا كانت تظن أنها ستتغلب علي فهي مخطئة كليا..
"إذا سأناديك بطفلتي"
عبست واحتجت قائلة:
"ولكنني لست طفلة...أنا في العشرين"
عمدت إلى إغاظتها فقلت:
"إلى أن تخبريني باسمك سأناديك هكذا"
يبدو أنها عنيدة..فقد صمتت ولم تعلق...
أخذتها إلى غرفة أختاي سابقا..
"يمكنك البقاء هنا"
"شكرا لك"
****
لم أشغل نفسي بالتفكير بها فقد عرفت بالبديهة أنها قادمة من الجزء الجنوبي من المدينة هربا من نار الحرب...
وفي صباح اليوم التالي نزلت إلى الطابق السفلي لأعد لي قهوة قبل الذهاب للعمل....
ولمفاجأتي ..وجدتها في المطبخ تعد الإفطار وهي تترنم بأغنية حزينة بصوتها العذب...
وقفت بهدوء وأنا أستمتع بمنظرها المشرق...لكنها أحست بوجودي فالتفتت بغضب:
"لم تنظر إلي هكذا ؟؟"
أجبت بصراحة:
"إنك تذكرينني بشخص ما"
زمت شفتيها وكأن الرد لم يعجبها...وضعت الصينية على الطاولة وقالت:
"اعتبره عربون شكر...لا تتوقع أن يستمر هذا الدلال"
إنها تحاول أن تبدو جافة...لكنني أجزم أن خلف هذا القناع قلب رقيق شفاف...
تناولت الطعام بشهية ثم غادرت المنزل....
****
**حلم يتحقق**
لم أشعر يوما بلهفة للعودة إلى المنزل بعد العمل كما شعرت الآن...
لقد كانت هذه الفتاة تشدني إليها...كما أن وجودها أضفى حيوية على حياتي الرتيبة..
أصبحت معتادا عليها رغم أنها لم تخبرني باسمها...مازلت أناديها بطفلتي...
مما يثير حنقها...
وريدا رويدا..أصبحت معاملتها لي ألطف من السابق...
****
بعد شهر وفي أحد الأيام كنا جالسين نحتسي القهوة وبيدي هذه المذكرة...
اقتربت مني وسألت:
"هل أنت مؤلف؟؟"
ضحكت بعفوية من سؤالها ..ثم قلت:
"كلا ..إنها مذكرة شخصية"
عقدت حاجبيها:
"تقصد إنك تكتب قصة حياتك؟!!"
"شيء كهذا"
تنحنحت ثم قالت:
"وهل أنا من ضمنها؟!!"
" أجل يا طفلتي"
ابتسمت برضا...فلم يعد يضايقها هذا اللقب....
كانت ابتسامة عذبة شعرت معها أن زلزالا يضرب الأرض تحتي...
****
أجل ...الحلم تحقق...ووقعت في الحب الذي تمنيته طوال عمري...
حب عنيف ثائر يملأ قلبي وجوانحي...
ضرب من الجنون أن أحب فتاة لا أعرف عنها شيئا....
لكنه الحب...لا يستأذن قبل حدوثه..
أحسست كما لو كنت أخون زوجتي المتوفاة...لكنني أقنعت نفسي أن الحياة لا يمكن أن تتوقف برحيل من نحبهم..
ثم إنني لا زلت أحمل ذكرى الحب الذي عشته معها وسأحتفظ به دائما...
****
** من تكونين؟!! **
حرصت على أن لا تعلم طفلتي بحقيقة مشاعري تجاهها حتى أعرف تماما من هي...
وفي أحد الأيام عدت باكرا من عملي فلم أجدها بالمنزل...
جن جنوني وطفت بالأنحاء المجاورة علني ألمحها...وبعد ساعة شاهدتها مقبلة وهي ترتدي وشاحها...
طرت إليها وأمسكت كتفيها وهززتها بعنف:
"أين كنت؟؟"
أجابت وهي تحاول الإفلات من قبضتي:
"ليس من شأنك"
لقد كنت خائفا حد الموت من أن يكون أصابها مكروه...وهي بكل لا مبالاة تقول ليس من شأني!!...
صرخت بلا وعي:
"ما دمت تعيشين في منزلي فلي الحق أن أعرف"
كنا متحفزين للقتال كخصمين..
"إذا كنت مصمما فسأترك المنزل!!"
قالت ذلك بتحد وعيناها تتلألان بدموع أبية...
لم أستطع احتمال فكرة فقدانها...لذا رضخت وأعفيتها من الإجابة....
****
أدركت أنها ليست المرة الأولى التي تخرج فيها عندما أكون في العمل...
رجحت أنها تشعر بالملل وحدها فتخرج للتنزه حول المنزل...لكن الوضع ليس آمنا...
ليس بيدي حيلة ..إن ضغطت عليها فستنفذ تهديدها بالرحيل...
وذات مرة عدت من العمل لأجدها تضمد جرحا في صدغها...
سألتها بلهفة:
"ماذا حدث لك؟؟"
أجابت بلا اكتراث:
"طفل صغير رماني بحجر"
هنا بدأت الشكوك تنهش رأسي....لذا اختبأت في أحد الأيام قريبا من المنزل موهما إياها أنني ذاهب للعمل...
وما هي إلا دقائق حتى خرجت...فتبعتها من بعيد..
سارت مسافة طويلة متجهة نحو الجنوب حتى وصلت لمنطقة الخطر...
اتجهت إلى مكان يشبه المخبأ وفتحت بابا خشبيا صغيرا كشف عن سر طفلتي...
****
طفلتي فدائية!!...
أرعبني هذا الإكتشاف..
كان في المخبأ الكثير من القنابل اليدوية....لقد كانت تأخذ القنابل من أحد الممولين وتخبئها داخل وشاحها ثم ترمي بها مراكز العدو دون أن يلاحظوها..
يساعدها على ذلك جسمها الصغير الذي يمكنها من الإختباء بسهولة...
قفزت من مكاني وقبضت على يدها...أجفلت فلم تكن تتوقع رؤيتي..
قلت بحزم:
"أنت تدينين لي بتفسير"...
هزت كتفيها ولم تقاوم وأنا أسحبها لنعود أدراجنا...
****
سألتها بانفعال:
"لم تفعلين ذلك؟؟"
أجابت بألم مكبوت:
"لقد قتلوا أمي وأخي وأنا أريد الانتقام"
شعرت بالأسف والحزن...وقلت بنبرة حانية:
"ليس بتعريض نفسك للخطر...عديني أن لا تذهبي ثانية"
وقفت بثبات والعزيمة بادية على وجهها:
"لقد قلت لك..إذا حاولت منعي ..سأرحل"
****
** قولي أحبك **
تجنبنا بعضنا لفترة..فقد كنت غاضبا منها....وفي نفس الوقت يكاد يقتلني القلق والتوتر...
ماذا لو حدث لها مكروه؟!!...
حاولت أن أثنيها عن عزمها ونحن نتناول الغداء بعد أسبوع من تلك الحادثة..
قلت بصوت جاهدت أن يبدو هادئا:
"لم لا نسافر إلى أهلي؟؟"
كنت قد أخبرتها عن قصتي كاملة وعن الشبة بينها وبين زوجتي الراحلة...
لم ترفع نظرها عن طبقها وقالت بصوت جامد:
"سافر لوحدك...أنا لن أغادر المكان"
حاولت اللعب بورقتي الأخيرة فقد أربح:
"ألم تدركي حتى الآن أنني أحبك يا طفلتي؟؟!"
سرت رعشة خفيفة في جسدها ثم قالت:
"أنت ترى فيني صورة زوجتك المتوفاة...لذا تعتقد أنك تحبني"
هززت رأسي رافضا:
"كلا...قد تشبهينها بالشكل...لكن طباعكما تختلف تماما"
كنت أقول الحقيقة...فقد كانت زوجتي هادئة...مرهفة...
أما طفلتي فهي جريئة...ثائرة...تفيض حيوية وعزما...
سادت فترة صمت ثم قلت بلا تفكير:
"أنا متأكد أنك تبادلينني نفس الشعور....قولي أنك تحبينني.."
شحب لونها ولم تنكر...لكنها قالت بحزن:
"كل ذلك لن يفيد...أنت لا تفهم...لا تفهم شيئا"
حاربت الدموع التي كانت تقف على أطراف أهدابها..وبحركة سريعة نهضت وغادرت الغرفة...
****
** خذيني معك **
انقلبت حياتي هما من جديد...عندما كنت مغتربا حملت هم ابتعادي عن الوطن..
والآن أحمل هم خسارة طفلتي...
كانت الحرب قد هدأت لعدة أسابيع ..إلا أنها عادت واستعرت أشد من ذي قبل...
حتى أنني أصبحت أشعر باهتزاز المنزل مع اقتراب القنابل..
كل هذا جعلني أقلق أكثر ...لابد أن أحمي طفلتي بأي ثمن...
وهكذا قررت أن أتبعها دون أن تدري...
****
أنا الآن جالس تحت شجرة أراقب طفلتي وهي تحاول بيأس أن تزيل الصخور التي أغلقت الباب الخشبي..
لقد كنت بذلت جهدا بالغا في وضع هذه الصخور على ذلك الباب لعل ذلك يحبط عزيمتها...
لا أدري ما الذي جعلني أجلب المذكرة معي واكتب في هذه اللحظات الحاسمة...
نال من طفلتي التعب وجلست تمسح جبينها...الحرارة شديدة ووهج القنابل وصوت الرصاص يقترب..
اعتقد أن مدينتا ستتدمر خلال شهر...
كثير من الناس شدوا رحالهم هاربين من هذا الجحيم...
من الأفضل أن آخذ طفلتي وأسافر إلى أهلي...لا يهمني رفضها....سآخذها بالإكراه....
****
ظهرت مجموعة جنود من مكان مجهول..جعلني منظرهم المخيف أغادر مخبأي وأركض نحو طفلتي...
كانوا يبتسمون بخبث...ثم وجهوا فوهات بنادقهم نحونا..
أمسكت بطفلتي التي تشبثت بي وأسندت رأسها على صدري وأنا أحيطها بذراعي...
أحسست بنبضات قلبها تخفق بعنف...وفجأة بدأ الجنود بإطلاق النار بشكل عشوائي..
لقد رفضت طفلتي من قبل أن تأتي معي...والآن هي راحلة وأنا ذاهب معها..
صوت الرصاص يدوي وأنا أمسك طفلتي بقوة....لا إله إلا الله..
****
** عثر على هذه القصة في مذكرة شخصية ملقاة بجانب جثتين متجاورتين..
وقد سطرت خاتمتها بحبر ممزوج بدم القتيل قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة....
****
تـــــــــمـــــــــــــت
17
2K
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

شــجـــن
•
لكنه الحب...لا يستأذن قبل حدوثه..
يااااااه ماأروعها..
حب صادق , فداء وتضحية ونهاية حزينة :(
غاليتي سلمتِ على هذا الإبداع والجمال الذي اعتدناه منك..
تبارك الرحمن وحفظك من كل سوء..
:26:
يااااااه ماأروعها..
حب صادق , فداء وتضحية ونهاية حزينة :(
غاليتي سلمتِ على هذا الإبداع والجمال الذي اعتدناه منك..
تبارك الرحمن وحفظك من كل سوء..
:26:



الصفحة الأخيرة
دام الإبداع والتألق