يحار الوالدان في أمر طفلهما أحياناً، مثلاً لماذا يكذب بدون سبب ظاهر بعد محاضرات طويلة عن فائدة الصدق المنجي من كل عقاب وبعد التأديب لدى كل كذبة مهما صغرت قد تشعر الأم أو الأب بأنهما على حافة الجنون وهما يريان طفلهما أو طفلتهما يلجآن إلى الكذب.
في أغلب الأحيان لا يكون إصرار الطفل على الكذب منبعثاً من دوافع شريرة. فالطفل مهما يكن رأينا فيه، له شخصيته الكاملة وله وسائله الخاصة المؤثرة في التعبير عما يشعر به في دخيلة نفسه والكذب قد يكون أحد هذه الوسائل.
على سبيل المثال إذا شعر الطفل بأنه كتلة مهملة في المنزل بسبب انشغال والديه الدائم عنه في أعمالهما وأوجه نشاطهما، فإن الكذب ولو رافقه الضرب والتأديب ربما كان وسيلة الطفل إلى استجماع مركز الاهتمام، إنه يفضل أن يضرب على أن يهمل.
وهذا هو سبب الحيرة أحياناً التي يشعر بها الآباء والأمهات من إصرار طفلهما على الكذب حتى ولو كان طفلاً هادئاً ذكياً حسن التربية والسلوك.
يقول أحد المختصين في تربية الأطفال إنه خلال الثلاثين عاماً التي قضاها في مهنته وهو يراجع الآباء والأمهات بصدد عيوب أطفالهم، لا يذكر حادثة واحدة كذب فيها أحد الأطفال بدون سبب.
ولا يعني هذا أن عادة الكذب أمر طبيعي نقي ينبغي تقبله والإغضاء عنه، وإنما يقصد منه أن يُذكر الآباء أن وراء الكذب سبباً مؤكداً يجب معرفته وتقويمه.
والكذب كسائر الخلال السيئة التي يسعى الوالدان لتقويمها في الأطفال طوال فترة الطفولة ولا يمكن وقفه غلا إذا عرفنا السبب الكامن وراءه.
إن الطفل يحتاج إلى وقت طويل كي يفهم الفرق بين الحقيقة والخيال لذلك فإنه على الدوام فريسة إحساس طاغ عن طريق الأوهام والخيالات فإذا سكب الطفل كوب الحليب على الأرض مثلاً فإنه لا يقر بالذنب وإنما يضع اللوم على العصفور، وفي مثل هذه الحالة قد يوبخ الأب طفلته أو طفله لأنه كذب.
وتصرف كهذا يشعر الطفل بالأسى ويوهمه بأنه مكروه والتصرف الصحيح في مثل هذه الحالة أن يقر الوالدان بأن العصفور هو الذي سكب كوب اللبن فعلاً.
أو قد يأتي الطفل من المدرسة حاملاً معه علبة ألوان فيبادر والدته قائلاً إن المعلمة أعطته إياها كجائزة وينظر إليه الأب متشككاً فهو يعلم أن طفله لا يملك كل هذه المواهب التي تجعله يستحق الجوائز فهو شيطان مثير في المنزل.
ويبوح الوالد لطفله بشكوكه قائلاً (إن علبة الألوان هذه لأحد زملائك في الصف وغداً ستعيدها إليه). ويضرب الطفل الأرض ويقول إنه تلقى الجائزة لحسن صوته وأن المعلمة لا تفتأ تمتدح حسن غنائه، يغضب الوالد لأن طفله قد تحداه ورفع صوته أمامه ويأكل الطفل (العلقة) وهكذا تتكون أزمة في العلاقات بين الإثنين.
وفي سن الرابعة يكون من الأمور الطبيعية أن يختلق الطفل القصص ثم يؤمن بها إيماناً راسخاً. فإذا سمعت الأم طفلها وهو يروي هذه القصص الخيالية أو الأكاذيب، كان عليها ألا تنهره بل ينبغي أن تجاريه قائلة (هذا شيء رائع ولكن أظن أنك قد نسيت كذا وكذا) أو (الحق معك بالطبع) فلنتحدث مع المعلمة غداً بأمر هذه القصة.
إن الدوافع وراء كذب الطفل لا علاقة لها بالدوافع التي تحدد سلوك الكبار عندما يلجأون إلى الكذب. فدوافع الصغير مرتبطة بمستوى فهمه وينبغي أن نذكر أن الطفل حتى سن السابعة أو الثامنة من عمره يكون مشوشاً في أمر ما هو صحيح وما هو غير صحيح.
فمخاوف الأطفال (من الإهمال بسبب قدوم مولود جديد مثلاً) وأحلامهم وانفعالاتهم بالقصص تكون في أكثر الأحيان أقوى من أي شيء في حياتهم.
فالطفل الذي يمثل دور الإطفائي أو الشرطي يخيل إليه أنه فعلاً إطفائي أو شرطي وأن هذه الحقيقة لا تقل عن أية حقيقة أخرى.
ومع تقدم الأيام ومرور السنوات يأخذ الطفل عن طريق اللعب والتمثيل والملاحظة والاحتكاك بالكبار في إدراك الفوارق الواضحة بين الحقيقة والخيال ويصبح الأطفال عندها أقل تأثراً بدوافعهم الخاصة ويشرعون في التحكم برغباتهم المجنحة التي كثيراً ما تخلق القصص الوهمية. إن الخيال هو أعظم الهبات التي منحها الإنسان وعليه ألا يحاول تحطيم هذه الهبة وإنما يوجهها الوجهة الصحيحة.
وما أروع أن تقول الأم لطفلها وهي تعلم أنه إنما يسرد قصة من صنع الخيال (ما أجمل قصتك اكتبها مع الرسوم التي تلائمها).
وعلينا أن نعلم أطفالنا على أن الكذب ليس من الأمور التي يوجد فيها حد فاصل بين (الجيد) و (الرديء) وإنما هو شيء له علاقة بكيفية تعامل الناس مع بعضهم بعضاً. إن الكذب يقف حائلاً دون الحب والثقة بين الناس. إنه يؤذي علاقات الناس بعضهم بعضاً وما أن يبلغ الطفل السن التي تؤهله للمدرسة حتى يكون قد وعى مقدار رغبته في فرض الاحترام على الناس ومقدار رغبته هو أيضاً في أن يثق بغيره.
ولا يعني هذا أن الصغار يصبحون مبرئين من الوقوع في حبائل بعض الشطحات الخيالية بين الحين والحين حتى يصلوا إلى مرحلة البلوغ.
ونادراً ما نرى إنساناً يحاسب نفسه بعد كبره حساباً صادقاً فلا تمر في ذاكرته لحظات وقع فيها فريسة الأقوال غير الصحيحة، مثل هذه اللحظات بالطبع يجب ألا تمر بدون محاسبة من قبل الوالدين ولكن الأمور كلها تحل بالنقاش الهادئ والمواجهة الصريحة والإصلاح.
إن كذب الأطفال البريء يختلف تماماً عن الأكاذيب الدائمة التي بلغت حد العادة المستمرة من العاشرة حتى مرحلة البلوغ. والكذب في مثل هذه السن يجب أن يقابل بالانتباه الشديد لمعرفة الأسباب والدوافع وراءه.
والطريقة التي يواجه بها الوالدان البوادر الأولى للاضطراب النفسي، في غاية الأهمية، بحيث يظن الكثيرون أن العقاب الجسدي يفيد في تقويم حالة الطفل الذي يكون قد بدأ في الإكثار من الكذب وجني ثماره المحرمة.
ولكن هذا الصبي قد أخذ يكذب بقصد جذب الانتباه إليه والعطف عليه، وإذا كذبت الطفلة لأنها تشعر إنها كانت مهملة وأن الكذب وحده هو يلفت النظر إليها. وإذا كذب الطفل عامداً أن يحدث انطباعاً لا سبيل لإحداثه إلا بهذه الطريقة، فعندما يكون علينا ألا ندفعهم بالسوء ونوقع بهم العقاب، لأن العقاب لا يؤدي إلا إلى التركيز على الحاجات التي كانت السبب في بدء تلك السلسلة.
أهم ما في الأمر أن الأم يجب ألا تجزع إذا سمعت طفلها يكذب. إن كذب الأطفال نابع من فجاجتهم وما هو سن الفجاجة لدى الإنسان إن لم يكن سن الطفولة؟ وبعد ذلك الفجاجة الكذب عن فقداننا المؤقت لضوابط الدوافع لدينا.
في حين أن الكذب في مثل هذه السن (ما بعد الطفولة) ينبغي ألا يترك بدون حساب فن الصفح يمكن أن يقوي الضوابط المفقودة.
وأهم من تصرفاتنا وأقوالنا للطفل عندما نرى أنه أخذ يكذب هو طريقة سلوكنا نحن، فنحن لا نستطيع أن نأمر أطفالنا بالصدق إذا كنا نسبقهم إلى الكذب.
فإذا غاب أحد الأحباب في المستشفى أسابيع أو أشهر فلا ينبغي أن نتظاهر بأنه قد ذهب في إجازة لأنه خير للصغير أن يعلم الحقيقة منذ البداية فذلك أدعى إلى تولد الشعور لديه بأنه يعامل على قدم المساواة مع الكبار. ثم إن له الحق في وداع المريض المشرف على الموت مثلاً.
أصعب المشاكل هنا مشكلة ما يعرف بالكذب الأبيض. والواقع أن هناك خطوطاً واقعية وإن تكن دقيقة تميز بين قول الحقيقة مهما يكن الثمن وبين إيذاء مشاعر الناس بلا ضرورة. والحقيقة هي أن الطفل يسمع الكبار من حوله يسردون الأكاذيب منذ لحظة إدراكه لما هو صدق وما هو كذب بل إننا نشجع الطفل على مجاراتنا. ما كان ينبغي أن تنقد خالتك بسبب كذا وكذا لأن ذلك يؤذي مشاعرها.
ولكن الحالة فيها ذلك العيب فعلاً. وقد يسمعنا الطفل فعلاً وقد يسمعها الطفل تعتذر عن حفلة غذاء أو عشاء بسبب إصابتها بالزكام وليس بها زكام وإنما تريد البقاء في المنزل لمشاهدة برنامج معين في التلفزيون.
إن الصغير قد يشعر بالحيرة من أمثال هذه التصرفات ولكنه عندما يكبر يدرك أن الكذب الأبيض له ما يبرره في بعض الأحيان شريطة ألا يلحق الأذى بإنسان آخر.
وقول الصدق أحياناً قد يؤلم ولكن هذا الألم ضروري في سبيل إيجاد علاقة محبة وثقة وفي سبيل هذه الحالة يجب أن نقول الصدق برقة وصدق وإحساس.
منقول من محمد رفعت من موقع البلاغ
--ملاك-- @mlak_17
محررة ماسية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️