مرحلة الاستكشاف لدى الطفل

الأمومة والطفل

مرحلة الاستكشاف
تتخذ ظاهرة الاستكشاف لدى الطفل أهميّة بالغة بعد السنة الأولى ، إذ يشرع في مواجهة مواقف وأشخاص جدد يؤثّرون في تجاربه التعلّمية الأولى من مختلف النواحي . ومهما يكن من امر فالإستكشاف يرتبط بظاهرة أخرى . ألا وهي التضاؤل التدريجي لتعلّق الطفل بأمّه . ويزداد التعلّق الخاص بأشخاص معينين بصورة فوريّة بعد بروز هذه الحاجة لديه . هذا ، ويتناقص البحث عن التعلّق بأشخاص معينين مع مرور الزمن وذلك على نقيض القدرات الأخرى التي يتعلمها الطفل ، والتي تتزايد مع تقدّمه في السن ، إذ يصبح الطفل مع الزمن قادراً بصورة متزايدة على تصوّر أمّه ويتخذ من شكلها وسلوكها وجه مقارنة في تجاربه الجديدة ، ولا يعود وجودها ضرورياً له ، فيشرع الطفل بالابتعاد عنها بصورة تلقائية ، ويزداد هذا الابتعاد بصورة تدريجيّة .
وفي هذه المرحلة ينبغي للأم أن تضطلع بأصعب بدور لها . فالأم هي التي يتوجب عليها ، وإن بدا ذلك متناقضاً مع طبيعتها ، أن تدفع طفلها إلى الإنفصال عنها حتى يكتسب معرفة بالعالم الخارجي ، ولربما بدا ذلك سهلاً في بادئ الأمر ، ولكن التجربة أثبتت أن الأم هي التي تحول دون تحرر طفلها ، وربما كان ذلك دون قصد منها . والحقّ أنّ عملية الانفصال عن الطفل أمر صعب دائماً ، وإن كانت مقرونة بمراقبة الأم لطفلها ولتصرّفاته ونموّه عن كثب .




وفي الشهور الأولى من حياة الطفل توفر الأم له الحوافز اللازمة الملائمة لسنّه ، وواقع الأمر أن مواقف المجازفة والمغامرة التي يقفها الطفل تعتمد بصورة مبدئية على علاقته بشخص راشد يدفعه أو يحفزه تقريباً على الإفادة من الفرص كافة المتوافرة في البيئة التي يعيش الطفل فيها . وبعد شهور معدودات ، وإذ يشرع الطف في إبداء قدرته على التصوّر ، فإنه يستطيع أن يشعر وحده بدوافع جديدة كما يستطيع كذلك أن يبدأ في استكشاف بيئته .

وفي أثناء السنة الأولى من حياة الطفل يرتبط أمنه النفسي وسعادته كل منهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً . والحقيقة أنه من غير المحتمل أن يتوقّع من الطفل أن يبدأ بمواجهة بيئته إذا لم يطمئن إلى وجود أمّه . وجدير بالذكر أن على الأم أن توقظ في نفس طفلها المحاولات الاولى لديه ، وأن تحافظ على هذه المحاولات ، فغياب الأم يؤدّي إلى كبح مبادرات الطفل ومحاولاته الأولى . وفضلاً عن ذلك ، فإن المغامرات التي يباشرها الطفل تختلف باختلاف الشعور بالثقة الذي تمكنت الأم من غرسه في نفسه . وتتمثل أهميّة العلاقة بين الأم وطفلها في الحماسة ، والمشاركة والدوافع ، والمقترحات التي يبديها الطفل بمساعدة أمّه . فالأمّ المثلى توفّر لطفلها بيئات جديدة وألعاب وألواناً وأجواءً نفسية ومشاعر ، أجل أنها توفر له كل ما يشجّعه ويشغل وقته بصورة كاملة في آن واحد .




وينبغي للأم ، فضلاً عن تأسيس علاقة المشاركة هذه في عملية الاستكشاف التي يباشرها الطفل والموافقة عليها ، أن تنشئ لطفلها ـ ولاسيّما في البيت ـ عالماً مادّياً يثير فضوله ، وهو عالم مهمّ جدّاً بالنسبة إلى طفل في السنة الأولى من العمر . فينبغي لها مثلاً أن تملأ حجرة طفلها بعديد من الاشياء الصغيرة ، والتماثيل والألعاب الجذّابة التي يسهل على الطفل استعمالها ، وتثير فيه شغفاً بالاستكشاف اللمسي والمرئي .

ومن جهة أخرى ينبغي كذلك عدم الاستخفاف بحاسة السمع لدى الطفل ، بل يجب تنبيهها ببضعة أجراس أو بموسيقاً عذبة . ثم إنّ نموّ قدرات جسميّة جديدة لدى الطفل يبرز حاجة الطفل إلى الحريّة من أجلّ مواجهته الواقع الخارجي الذي يجذبه ، وهي حاجة جديدة ملحّة . وفي هذا المجال ينبغي للأم ألاّ تفرط في تقديم المساعدة لطفلها ، إذ يكفي أن ترشده إلى مرحلة الاستكشاف من دون أن تتتبع أعماله خطوة خطوة . أمّا إذا أثقل الأبوان على طفلهما بحضورهما الدائم وتقديم اقتراحاتهما وحمايتهما التي كان الطفل بحاجة إليها في بادئ الأمر ، فذلك يثير في الطفل عصبية وأثراً معاكساً فيوحي إليه بأنّه قد فقد الحريّة التي كان يحسب أنه قد أكتسبها . وعلى هذا النحو يشعر الطفل بشيء من الاضطهاد من جانب أبويه وينتهي به الأمر إلى صراع دائم بين حقوقه أو التضحية بإرادته وشخصيته في سبيل رغبات الآخرين ، وذلك بقبوله تدخلاتهم المستمرّة في شؤونه .




والحقيقة أن النشاط الذي ينبغي للطفل ممارسته وحده من دون تدخل من الآخرين هو استكشاف بيئته ، ومن هنا فإن الطفل الذي تلقى تدريباً حسناً وطمأنة من أمّه يثق بقدرته ويرغب في إثبات ذلك ولكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالأنشطة الاجتماعيّة التي يمارسها الطفل والتي تتصل باكتشاف أناس آخرين ، فالطفل يشعر بالحاجة إلى شخص مألوف قريب منه يستطيع أن يساعده في مجال يتعرّض فيه لكثير من المآزق العاطفيّة ، وعلى هذا نقتصر على أمرين مختلفين يحتاجهما الطفل خلال السنة الثانية من عمره : أوّلهما رغبته في استكشاف عالمه الجديد بنفسه . والثاني حاجته إلى جماعة حوله نتيجة شعوره العميق بعدم الأمن .

وحقيقة الأمر أن الطفل لا يشرع فقط في استكشاف العالم الخارجي ، بل يحاول كذلك السيطرة على جسمه وإمكاناته الباطنة . ولهذا السبب ، فإن كان ما اعتاده الطفل لا يكفيه بعد بلوغه الشهر السابع أو الثامن ، وتصبح حظيرته النقّالة التي كان يلعب فيها ضيّقة ، كما تغدو الدمى التي كان يقضى أيّاماً كاملة في النظر إليها واللعب بها غير ممتعة بالنسبة إليه . وفي الحقيقة ، يشرع الطفل في التماس الحرّية للتحرّك في أرجاء البيت . ومن الطبيعي أن يمنح الطفل هذه الحرّية وتحت إشراف أمّه لمدّة ساعات معدودات كل يوم ، ولكن لا ينبغي للأم منحه الحرّية الكاملة ، فوضعه الجسمي لا يساعده على السيطرة على حركاته ، فقد يوقعه في مواقف مغيظة خطرة عليه وعلى الاشياء المحيطة به .

ومن الجدير بالذكر أن منح الحريّة للطفل بصورة مفرطة ربما كان له أثر سلبي في شخصيته فقد يدفعه ذلك إلى الوحدة ، ويوقع الكآبة في نفسه ، ويشعره بهجر الناس له . وربّما كان الحلّ الأمثل الوسط بين حجز الطفل في الحظيرة النقالة ومنحه الحرية المطلقة إنشاء ركن كبير في حجرته يقضي فيه أوقاته أو في أي مكان تقضي فيه الأم عادة معظم وقتها . وينبغي أن يكون هذا الركن حافلاً بالأشياء الممتعة غير المؤذية . وينبغي للأم كذلك إبعاد الأشياء الحادّة عنه فربما أصابت عينيه بالأذى أو ربّما ارتطم رأسه بها . ولعلّ من المستحسن أن تضع الأم سجّادة أو « بطانيّة » تحميه من السقوط المباشر على الأرض الباردة ، وتخفف من وطأة سقوطه عليها . ومن العوامل المهمّة الأخرى توفير دعائم للطفل تسهّل حركاته الأولى .

ومن الجدير بالذكر أن الحياة العصريّة والبيوت الحديثة أصبح إنشاؤها يعتمد على المنطق بصورة متزايدة ، كما أصبحت محدودة المساحة ، فالضيق النسبي في الأمكنة المكشوفة ـ كالحدائق والحقول التي يستطيع الطفل التحرّك فيها بحرية واستقلال منذ السنة الأولى من عمره فصاعداً ـ تحدّ في الواقع من الاكتشافات والتجارب التي كانت مألوفة في السابق . وهكذا فقد أصبح الطفل في العصر الحديث ضحية لمقتضيات البيئة والمجتمع الراهن ولذلك كان واجب الأم حماية طفلها قدر ما تستطيع ، وبذل كل ما يمكنها لإنشاء مكان خاص به يستطيع أن يطوّر فيه استقلاله وينمّي الثقة في نفسه وفي قدراته .




--------------------------------------------------------------------------------


الاتصال بطريق البكاء والابتسام


يلجأ الطفل إلى الاتصال بالآخرين في باكورة أيّامه بوساطة البكاء أو الابتسام ، والحقيقة أن عدم قدرة الطفل على الحركة والكلام خلال السنة الأولى من عمره يمنعه من لفت انتباه الآخرين إليه وشرح رغباته لهم . فعن طريق البكاء والابتسام يتمكن الطفل من التفاعل مع البيئة التي يعيش فيها ، ويستخدم هذه الأشكال من الإتصال ليجيب عن المنبهات والدوافع التي يتلقاها من الوسط المحيط به . وهو لا يملك أيّة وسيلة أخرى للإتصال غير البكاء ، عدا ما يرتسم على وجهه من تعابير . ولذلك ينبغي لأمه أن تعرف كيف تفسّر صراخه .
الحق أن بكاء الطفل يؤدّي غرضاً أساسيّاً ، هو دعوة الناس إلى الاقتراب منه ، فهو الوسيلة الوحيدة المتاحة للوليد من أجل إشعار الآخرين بحاجاته الجسميّة أو العاطفية ، ومن الممكن تقسيم البكاء الذي يلجأ الطفل إليه بعد الولادة مباشرة إلى أنواع ثلاثة :

فالنوع الأول يتميّز بطابع منخفض غير منتظم يأخذ بالارتفاع والانتظام . ويرتبط هذا النوع من البكاء في معظم الأحوال بالجوع أو بالانزعاج الجسمي الناجم عن الحرارة أو البرد مثلاً . أمّا النوع الآخر من البكاء فيتمثل في نشج غاضب يتميّز عن النوع الأساسي بطول مدّته ، وينشأ عن عدم قدرة الطفل على تحريك نفسه حسبما يرغب ، وأما النوع الثالث من البكاء فيرتبط بالألم ولذلك ينبغي للأم أن تعرف كيف تميّز هذا النوع من البكاء إذ ربّما تطلّب حضور طبيب . والبكاء المرتبط بالألم يبدأ بصورة فجائية وبصوت عال ويعقبه لهاث قصير ، والطفل لا يختار النوع المناسب من البكاء للإفصاح عن ذاته ، فهو لم يكتسب القدرة على ذلك بعد ، بل هو يكتفي بالتفاعل بطرق مختلفة ، بحسب الظروف التي تثيره ، لاشعار الآخرين باعتراضه المسموع على الجوع والظمأ والبرد والحرّ والألم ، فالطفل يهدف أن ينقل بغرائزه إلى الآخرين رسالة ينبغي تفسيرها بصورة صحيحة ، حتى يتمكن الآخرون من مساعدته قدر المستطاع .

ويعدّ البكاء ـ كما رأينا ـ اللغة الأولى للطفل إذ حتى لو لم يكن البكاء معبّراً عن شيء خاصّ بصورة دقيقة ، فهو يعدّ دائماً شكلاً من أشكال الالتماس ، ولذلك من المستحسن الاسراع إلى الطفل بغية مراقبته ومعرفة سبب بكائه .

وفي البداية ينشأ البكاء تلقائياً تقريباً عن مجموعة من المنبهات العضوية المنشأة ، تدفع الطفل إلى الإنفجار بالبكاء دونما سبب معيّن . ومع الزمن ، وبعد أن يهرع أبواه مراراً لارضاء حاجاته ، يكتسب بكاؤه طابعاً معيّناً ، وينشأ إذ ذاك عن قصد معيّن تثيره معرفة الطفل للنتائج التي يؤدّي إليها بكاؤه ، وعلى الأم ألاّ تلجأ إلى إخراج طفلها من مهده وحمله عندما يطلق صوته في البكاء فحسب ، فهذا خطأ ترتكبه الأم ، لأنها بذلك تغرس في نفسه فكرة خاطئة مفادها أن البكاء وحده هو سبيله للإتصال بأبويه .

والحقّ أن هناك آراء متعدّدة في التعامل مع الطفل الباكي ، فمن الناس من يرى أن يترك الطفل يبكي وحجتهم في ذلك أن الهرع إليه بصورة مستمرّة قد يفسده . وهناك فريق آخر من الأمهات يستبد الخوف الشديد بهنّ لدى بكاء الطفل فيبذلن كل ما في وسعهن لتلبية حاجاته ، والقول الفصل في ذلك ـ كما هو الحال دائماً ـ أن خير الأمور أوساطها ، وهذا ما أثبتته التجربة ، فلا بأس في تعرف أسباب البكاء الطفل قدر المستطاع ، ولكن ينبغي عدم مواساته ساعات طويلة بعد ارضاء حاجاته الأساسية .

أمّا النوع الآخر من أشكال الاتصال ، الذي يلجأ الطفل إليه ، فهو الابتسام كما ذكرنا . والابتسامة هي استجابة اجتماعيّة خاصّة ، والطفل لا يلجأ إليها لايجاد الاتصال مع الآخرين ، بل للمحافظة على هذا الاتصال . فالأم تزيد من اهتمامها بالطفل بسبب ابتسامه ، وتنشأ إذ ذاك رابطة المحبّة الأولى بينها وبينه وإذا كان البكاء يرتبط بحاجات الطفل الجسميّة فالابتسام يرتبط بحاجاته العاطفيّة . والحقّ أن بسمة الطفل عند الولادة تمثّل إطلاقاً عفويّا لمشاعره أكثر منها استجابة مرتبطة بمنبهات خارجية خاصّة . ومع نمّو الطفل تتخذ البسمة العفويّة طابعاً اجتماعياً ، فيشرع الطفل إذ ذاك بالإبتسام للوجه الذي يألفه . وحقيقة الأمر أن الطفل يظّل يبتسم حتى الشهر السابع في أي وجه ، سواء أكان ذلك الوجه معروفاً لديه أم كان غير معروف ، وباسماً كان ذلك الوجه أم عابساً . وفيما بعد ذلك ، ترتسم الابتسامة على شفتي الطفل عندما تقع عيناه على وجه باسم ، سواء أكان ذلك الوجه لأحد أفراد أسرته أم كان لشخص يحبّه الطفل .

أمّا الأم فإنه يسعدها كثيراً أن تكتشف بأن طفلها قد أصبح قادراً على هذا النوع الأول من الاندماج الاجتماعي ولكن ينبغي ألاّ يغيب عن ذهنها أن هذا التقدّم الذي أحرزه طفلها يمثل إلى حدّ كبير وظيفة من وظائف البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها وما عليها إلاّ أن تشجّع طفلها على الابتسام ، حتى يتحوّل عن البكاء ، ويلجأ إلى هذا الشك السارّ من أشكال الاتصال .
1
915

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

جوزفينا
جوزفينا
يعطيك ربي الف عافيه مشكورة على الموضوع الرائع