

بطلة القصة الواقعية التي سأطلعكن عليها ، امرأة في الخامسة و الخمسين من عمرها ..
أم لثمانية أولاد ( أربعة ذكور و أربعة إناث ) .. جلهم استكمل دراسته و يشغلون حاليا مراكز مرموقة ..
و آخر العنقود لا زال يزاول دراسته الجامعية ..
أصبحت جدة لسبع عشرة حفيدا في وقت مبكر لأنها ، كأترابها ، تزوجت صغيرة السن ..
*****
نتردد ( هذه المرأة و أنا ) على المسجد نفسه ونتتلمذ على يد المعلمة ذاتها ..
و لكنني لم أتعرف عليها إلا بعد أن ذاع صيتها لأننا من فوجين مختلفين..
دفعني الفضول إلى كشف الستار عن بعض تفاصيل حياتها لأحذو حذوها ..
لا أخجل من قول ذلك لمجرد أنني متعلمة ..
إذ شتان بين الجهل و الأمية ..
فكم من متعلم جاهل ..
و كم من أمي أذهل الحائزين على أعلى الشهادات ..
تحفظ بإتقان ملحوظ قرابة خمسة أجزاء و نصف فقط .. و لكن لم تكن لتحقق هذا الإنجاز لو لم تصمد أمام شتى الأعاصير التي هبت لتثني من عزيمتها ..
ظلت ثابتة و شامخة شموخ النخلة ..
*****
و قبل أن أشرع في سرد أحداث القصة ، أنوه بشيء بالغ الأهمية ..
لم ترضخ هذه المرأة و لم تذعن لرغبتي إلا بعد جهد جهيد ..
تواضعها اللامتناهي جعلها تستهين بنفسها و تعجب لهذا الأمر ..
ما فتئت تقول لي : " لم أنا ؟ لم لا فلانة ؟ إنها أكبر مني سنا و هي عاكفة على حفظ القرآن مثلي تماما .. "
و لكن بإصرارنا ( معلمتنا الفاضلة جزاها المولى خير الجزاء و أنا ) ، تقبلت الفكرة ..
و ها أنا ذا أجسدها ..

إنها امرأة في منتهى البساطة ..
لا تستأذن أي قلب لتتربع على عرشه ..
نشأت في قرية فلاحية لا تبعد كثيرا عن المدينة التي نقطن بها في الوقت الراهن ..
تميزت بالتقوى منذ نعومة أظفارها ..
كانت براءة الطفولة لا تزال بادية على محياها عندما تغير مسار حياتها بزواجها ..
كان عمرها لا يتجاوز خمس عشرة ربيعا في حين كانت منوطة بأعمال تفوق سنها ..
تكفلت بتربية أولادها الثمانية و هي في ريعان شبابها ..
*****
شعر الزوج التقي الذي اقترنت به برغبتها الملحة في تلاوة القرآن ، فعقد العزم على شد أزرها بتعليمها ..
و لكن ما لبث النور الذي بدأت تمشي به ينطفئ و يبدو كالسراب ..
تواجدها في كنف أسرة زوجها متباعدة الأطراف ، حال دون نيل مرادها ..
كانت تبدو للجميع غريبة الأطوار و أناملها تحاول خط أحرف الهجاء لتتقن رسمها ..
رضخت للأمر الواقع و لم يسمع صدى آهاتها العميقة سواها ..
كان لجل الأسر آنذاك نظام تسير عليه و قوانين لا يحق للمرأة ( بصفة خاصة ) أن تحيد عنها ..
فإلى جانب كل الأعمال المنزلية المعروفة ، كانت ملزمة بحياكة بعض الملابس و الأفرشة ..
*****
اكتفت خلال تلك الحقبة من الزمن ، بالتقرب إلى رب العالمين بالصلاة و الذكر و الامتثال إلى أوامره و اجتناب نواهيه في كل شؤون حياتها ..
و لكنها تتحسر دوما على عجزها أثناء تصفحها لكتاب المولى ..
*****
و جاء الفرج ..
تبددت الغيوم و أشرقت الشمس فسطع نورها في سماء حياة هذه المرأة الطيبة ..
بلغها خبر تعليم الأميات في أحد المساجد فسارعت إلى هناك لتتحرر من عبودية الأمية بعد أن تيسرت أمورها ..
فلقد تفككت العائلة الكبيرة و أنشئت إثر ذلك أسر فرعية مستقلة بذاتها ..
و لم تعد المرأة تقطن بالريف..
*****
بدأت مشوارها ..
و توقانها إلى تحقيق رغبتها زاد من نشاطها و حماسها ..
كان لا بد من كسر العجز الذي لم تستأنس لصحبته لسنين طويلة ..
أصبح بحوزتها أدوات ( لوحة ، كراس و أقلام ) .. تقتنص الفرص لتسارع إلى احتضانها بشوق ..
أو لا تفعل ذلك و هي تعتبرها السلاح الذي سيفتك بعدوها اللدود : الأمية ؟!!!
*****
شاء المولى عز و جل أن يكون هذا المسجد مقر عمل معلمتنا الفاضلة ..
التحقت فورا بفوج الأخوات الراغبات في حفظ القرآن و الإلمام بأحكام الترتيل ..
أدهشت الكل بسرعة حفظها و إتقانها له ..
كيف لا يوفقها المولى جل شأنه إلى ذلك و هي تتعبده آناء الليل و أطراف النهار ؟!!!
لا يغمض لها جفن قبل أن تراجع ما حفظته ..
تقوم في جوف الليل لتصلي بعض الركعات ثم تهب مسرعة لخير جليس لها في الأنام :
الكتاب المبين ..
فتراجع ما حفظت و تنمي رصيدها من الحفظ ..
و لئلا ينفلت منها ذكر الله ، تنصت إلى تلاوته أثناء انشغالها بالأعمال المنزلية ..
و تتلوه في صلواتها : كبار السور بالأسحار ، عند إدبار النجوم و وقت الضحى ..
و تكتفي ، فيما عدا ذلك ، بقصار السور لتستجيب لنداء واجبها إزاء زوجها و عائلتها الكريمة .. و كذا ضيوفها الذين لا تتوانى في خدمتهم و إكرامهم ..
و تحضرني في هذا المقام حادثة غريبة لا بد من ذكرها :
ثلة من الأحباب و ثلة من الأصحاب كانوا يتوافدون على بيتها لتهنئتها على ميلاد حفيدتها ..
بلغت سعادة أخواتها في الله ( فوج الأميات ) أوجها و تجلى طابعها المميز إثر زيارة إحداهن لها ..
قالت لها : " سأنوب عنك في القيام بكل ما تقتضيه مناسبة كهذه شريطة أن تتوقفي عن الحفظ ليتسنى لنا اللحاق بك .. "
رفضت المرأة الشجاعة و أجابتها قائلة : " هيهات أن ألبي طلبك .. سأواظب على الحفظ قدر المستطاع .. المجال أمامكن مفتوح و الباب غير موصد .. لتلحق بي من استطاعت إلى ذلك سبيلا .. "
و ثابرت بالفعل و فازت في كل المسابقات التي شاركت فيها ..
لم تفتر عزيمتها يوما ..
و هي تسعى دوما إلى تدارك التأخر الذي تسببه مختلف العوائق ..
*****
لم يعلق التراب مصحفها إلا يوم عجزت عن حمله بين يديها ..
شلت يدها اليمنى ثم يدها اليسرى ..
أجريت لها عقب ذلك عمليتان جراحيتان ..
فمكثت أربعة أشهر بالمستشفى ..
*****
و ما إن تماثلت للشفاء حتى شلت رجلها اليسرى ..
و بعد خمسة و أربعين يوما قضتها تحت رعاية الاختصاصيين ، تحسنت حالتها ..
حدث كل هذا خلال عام واحد ..
*****
و بعد قرابة عامين ، أعيقت تماما عن الحركة إثر حادث سيارة إذ كانت حصة الأسد نصيبها من الأضرار :
كسر في المرفق الأيسر استوجب إجراء عملية جراحية عاجلة ..
*****
كسر في الساعد الأيمن كان لا بد من جبره لمدة خمسة أشهر ..
*****
كسر أربعة أضلاع ..
*****
شروخ في عظم الحوض أقعدها في الفراش لمدة ثلاثين يوما ..
*****
كانت تنام مستلقية على ظهرها طوال سبعة أشهر .. لا تتقلب لا يمينا و لا شمالا ..
*****
و لهول ما ألم بها ، هناك من لم يتعرف عليها عند زيارتها بالمستشفى ..
*****
اعتني بها من قبل عائلتها الكريمة طوال هذه الفترة و أحاطها الكل بالرعاية و الحنان ..
*****
و في خضم كل هذا و ذاك ، لم تتحسر هذه المرأة المثابرة إلا على عباداتها التي اعتراها نقص اقتضاه المرض ( الصلاة دون وضوء ..... )
و كان هاجسها الأكبر هو القرآن ..
لم يكن بوسعها حفظ المزيد منه ولكنها لم تهجره إطلاقا ..
جُلب لها مسجل و قرص لا يحوي إلا الأحزاب التي تحفظها لتنصت إلى الشيخ المقرئ و هو يتغنى بكلام الرحمن ..
ثم تعيد تلاوته عندما تقوى على ذلك ..
و كلما أحست بتحسن ملموس ، تطلب أن يفتحوا لها المصحف لتتلو ما تيسر من ذكر الرحمن ..
و إذا تجاوزت إمكانياتها الوجهين ، نادت أحدا ليقلب لها الصفحة ..
أما إذا لم يسعفها أحد أو حين يخلد الجميع إلى النوم ، تراجع محفوظها عن ظهر غيب ..
و إذا فلت منها شئ ، لا تستسلم بل تنتقل من سورة إلى سورة و من حزب إلى حزب إلى أن ينهكها التعب ..
*****
طال بها الأمد في المستشفى و اشتاقت إلى أركان بيت الله ..
فلبى رغبتها ابنها البار و رافقها إلى هناك لتزور معلمتنا الفاضلة و أخواتها في الله ..
و لاقت حفاوة استقبال جد كبيرة ..
*****
كان الاستجمام ضروري بعد مغادرتها للمستشفى ، إلا أن النشاط سرعان ما بدأ يدب في كيانها ..
فعادت ريمة إلى عادتها القديمة ..
و الغريب أن رغبة التنافس لا زالت تختلج في صدرها .. فاستعدت للظفر بالمرتبة الأولى ..
كانت تذهب إلى المسجد لتسمع المعلمة رغم خضوعها لعملية الحجامة ..
و جاء الموعد ..
و فازت المرأة الصبورة ..
و ظلت كعادتها نجمة ساطعة تضئ درب كل ضالة عن طريقها ..
لم تكن الهوة واسعة كذي قبل ، بين رصيدها و رصيد أخواتها ..
و لكن خيل للجميع أن عجلة الزمن لم تدر بتاتا لئلا يحتل مكانها أحد ..
و لكن .. ماذا عما هو أدهى و أمر ؟!!!!!!
أجل .. هناك المزيد .. و إنه لأكثر هولا ..
لقد بكت بحرقة عندما تحدثت عن الداء الذي أصاب عينيها منذ صغرها و عن فقدان البصر الذي ستؤول إليه لا محالة ..
حسب قول الأطباء ، كان من المفروض أن تكون اليوم كفيفة ..
و لكنها لا تزال مبصرة بفضل رب العالمين ..
و لضعف بصرها ، صدقت ما قيل لها ..
و تراها تنتفض ذعرا كلما تذكرت أن العمي سيدق بابها عاجلا أم آجلا ..
*****
لا تضيع وقتها البتة علها تقطع أشواطا أخرى قبل فوات الأوان ..
قلبها متعلق بكلام الملك القدوس ..
ولا تخشى في سبيل نيل مرادها لومة لائم ..
*****
في الختام لا يسعني إلا أن أتفاءل خيرا ..
أو ليس الله بقادر على كل شئ ؟!!!

حبيبتي في الله ..
إذا انطفأ نور بصرك فإن نظر بصيرتك النيرة ثاقب..
أو ليس الايمان نور يضيئ الدروب الحالكة ؟!!!
حبيبتي ..
ما أخذ منك إلا ليعطيك ..
و ما حرمك إلا ليتفضل عليك ..
و ما أبكاك إلا ليضحكك ..
و ما ابتلاك إلا لأنه
يحبك

قصة في منتهى الروووووووووووعة
يالله على هالعزيمة والقوة في الدين
اللهم أرزقنا العزيمة الصادقة