
غطى ضباب كثيف أضواء المدينة الهادئة .. كان البرد قارسآ .. وكان الظلام مهيمنا على المدينة في ساعات الفجر الأولى ..
كان رامي يقود بقلق شديد واضطراب باد على ملامحه.. مع أنه كان يحاول جاهدآ أن يخفيه أمام زوجته المتألمة .. فتكفيها آلام المخاض الشديدة .. و يكفيها ما ستلاقيه من أوجاع في المستشفى ..
كان يحاول جاهدآ أن يخفف ذلك التوتر الذي سيطر على الجو فكان يذكر الله تعالى أحيانآ و يخفف عن زوجته سها بأنها ستنجب له الطفلة الجميلة التي طال انتظارها أعوامآ طويلة .. كطول هذا الطريق الضبابي المظلم الذي يأبى أن ينتهي ..
لكنهما شقا طريقهما بين الضباب حتى وصلا أخيرآ إلى المستشفى ..
وبسرعة كبيرة أدخلت سها غرفة الولادة و استدعي الطبيب وسط قلق رامي الشديد .. فقد كان يروح و يجيء في ممرات المستشفى يدعو الله أن تنجو زوجته وطفلته ..
لكن الأمر قد طال و استدعى الطبيب طبيبآ آخر ليشرف على هذه الولادة المستعصية .. وبدا القلق على وجوه الأطباء الذين رفضوا الإجابة عن أسئلة رامي المتلهفة لإجابة تشفي الغليل ...
ولكن عبثآ يحاول ..
كان رامي يشعر وكأن الزمن توقف .. وعقارب الساعة لا تتحرك .. حتى هم بالدخول لغرفة سها ليعرف ماذا يدور هناك ..
إلا أن الطبيب خرج أخيرآ.. لكن ملامحه لم تكن أبدآ مطمئنة وكأنه يحمل في جعبته خبرآ يبدو حزينآ ...
سأل رامي بقلق :
أيها الطبيب : هل زوجتي بخير ؟؟
- نعم إنها بخير
- و المولوده ؟؟
- أسف ..
- ماذا... لا تقل لي أنها قد ماتت ؟؟
- لا لم تمت ... لكنها ..........
ولدت معاقة !!!
- وقعت كلمات الطبيب على رامي وقوع الصاعقة .. أخذت الأرض تدور حوله حتى كاد يسقط مغشيآ عليه من هول الخبر ....
أبعد هذه السنين ؟؟ وهذا التعب ؟؟و الشوق و الوله و حرارة الانتظار .. !!
ابنتي أنا معاقة .. آه لا يمكن !!
- أرجوك أيها الطبيب افعل شيئآ .. أرجوك .
- ليس بيدي فعل شيء لك .. الأمر بيد الله .. ليكن إيمانك به كبيرآ فهو قادر على كل شيء ... هيا تمالك نفسك وادخل و خفف عن زوجتك المنهارة .....
وللقصة بقية
لم تستطع سها الرد فقد كانت الدموع تحبس كلماتها في أعماقها فتأبي الخروج والرد .. لكنها كانت تقول في أعماقها المتألمة :
على أية سلامة تتحدث ؟ وابنتي التي كنت أنتظرها معها قصور في العقل .. لن تفهم نظرات حبي .. لن تتفاعل مع هدهداتي .. لن تحفظ أغنياتي .. لن تكون كباقي الأطفال .. وانفجرت باكية من جديد ..
وكأن رامي قد سمع بقلبه تساؤلاتها الخفية .. فتمالك أحزانه وقال لها ..
يازوجتي الحبيبة .. تعلمين أن هذه الطفلة التي رزقنا بها هي هبة من الله تعالى وهدية تستحق التقدير .. أفلا نتقبلها بصدر رحب و نعتني بها ..
قد تكون اختبارآ من الله تعالى لصبرنا أفلا نتجاوز الإختبار ؟
قالت سها : ولكن الطفلة ...
قاطعها رامي قائلآ : إنها ابنتنا التي حلمنا بها .. وأنت أمها التي اخترتها لإيمانها الصادق بالله تعالى سوف يقويك إيمانك بالله لتعطيها من الرعاية و الحنان ما تحتاجه .. وثقافتك العالية سوف نحتاجها كثيرآ في هذه الفترة لأن الأطفال في هذا العمر يحتاجون رعاية دقيقة وعناية شاملة .. هيا أعطني يديك الجميلتتين وعاهديني أن نجتاز الإختبار ونكون على قدر المسؤولية .. وليكن في قلوبنا دائمآ شعاع قوي كشعاع الشمس الذي أبى إلا أن يتسلل إلى غرفتنا .. و لنسميها أمل .. لنتذكر دائمآ الأمل الذي علينا أن نتحلى به رغم صعوبة الظروف ..
ومرت الأيام و الطفلة الصغيرة أمل تكبر ببطء شديد .. و الأم تبذل حياتها .. قواها .. كل ما تقدر عليه لرعاية هذه الطفلة المسكينة .. لكنها كانت تجد صعوبة بالغة في ذلك فالطفلة كان تجاوبها بطيئآ جدآ ..وكانت لا تنجو من انتقادات المجتمع .. تلك الانتقادات اللاذعة التي لا ترحم ..
لكن أمل الصغيرة أوحت لأمها بفكرة رائعة لم تتوانى أن تخبرها لزوجها الذي وافق عليها فورآ و هم بالتنفيذ ..
لقد كانت الفكرة هي انشاء مدرسة صغيرة للمعاقين في المدينة .. تستطيع الطفلة فيها أن تلقى كل عناية و اهتمام و أن تجتمع بمن هم مثلها في المعاناة تتعلم مثلهم وتتجاوب معهم ليكونوا أعضاء نافعين في المجتمع ..
بدأت المدرسة تكبر و تكبر و تولت سها إدارتها فقد كان مؤهلها العلمي يسمح لها بذلك .. وكانت سعادتها لاتوصف عندما ترى صغيرتها أمل مع أقرانها تتعلم أصول النطق و أولويات الحركة و المشي الصحيح .. وكان رامي سعيدآ بزوجته يقدم لها كل ما تحتاجه من عون لهؤلاء الأطفال الذين كان يظنهم ضعفاء إلا أن سرعة تجاوبهم مع المعلمين أثبتت بأنهم أقوياء و أقوياء جدآ ..
وهكذا مرت الأيام سريعة و شهرة المدرسة تزداد .. لكن الهموم بدأت من جديد تداهم قلب الوالدين .. فأمل تضعف مع مرور الوقت وتذبل كبرعم مقطوع دون ماء ..
لم تتركها سها ثانية واحدة فقد كانت تحاول أن تخفف من آلامها وتنشر في قلبها أشعة وردية في سماء صفحتها البيضاء النقية .. لكن الطفلة لم تستجب .. وأسلمت الروح إلى باريها ..