
رجل يحمل جوانب التفرد، في الجاهلية والإسلام كان متفردا في الحياة، فهو الغلام الثري الذي يلفت الانتباه في ثيابه ، وعطره ، وصحبته ،وتدليل أمه له ، مصعب ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف ، لقد كان يمت بصلة قرابة إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويعرف من هو محمد عقلا وصدقا ، وأمانة ، وبعد عن الرذائل في الجاهلية ، كان مصعب فتى مكة شبابا وجمالا ،وكان حديث الحسناوات، كلهن يهفو قلبها أن يكون مصعب فارسها ومسعدها ،ولكنه ترفع عن ذلك ، كانت أمه امرأة قوية ، تملك المال ، ولديها الجاه والسيطرة والنفوذ، هذا كان شأنه قبل إسلامه.
يكن أحد يتوقع أن يتغير مصعب هذا التغيّر الجذري ويصير له هذا الشأن العظيم في الإسلام ، وحسبه حب المؤمنين إلى يوم القيامة، فهو الثري الذي حظي بما لم يحظ به غيره من مكان ومكانة، ظنوا أن الإسلام يقدم عليه الفقراء والعبيد لقد تسامع الناس نبأ بعثة النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانوا بين مصدق ومكذب،وثار الجدل حوله ، وعن دعوته ، لقد سارع الضعفاء إلى الإيمان برسول الله إذ وجدوا في دعوته خلاصهم من ربقة العبودية والضعف وامتهان كرامة الإنسان ، ولكن آمن به أيضا السادة على غرار أبي بكرالصديق ، وعمر بن الخطاب وزوجته السيدة خديجة ونفر من بني هاشم ـ رضي الله عنهم جميعا ـ.
لقد كانت دعوة رسول الله إيذانا بانقلاب للمفاهيم التي كانت سائدة في الجاهلية ،لقد تغيرت قلوب من الخضوع للأصنام على التسليم لرب واحد خلق كل شيء ،وهو المستحق للعبادة والسجود ، قال لهم إنّ الأصنام لا تملك نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وأي عقل لرجل أتى بجذع شجرة، صنع من شطرها صنما يعبده، وأشعل النار في الشطر الآخر يصطلي به.
دفع فضول الشباب مصعبا أن يستمع لهذا الدين الجديد ، سأل عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا له إنه في دار الأرقم، فذهب لا يلوي على أحد حتى جلس إلى رسول الله ، سمع الهدى فآمن به ليكون هذا الإيمان تحولا في حياته ، لقد أصبح للحياة عبقا جديدا في ظل الإيمان بالله ، تهاوت عنده أصنام القلوب،وتحولت الحياة من الانشغال بالزينة، والعطر ، والثياب ،إلى رسالة لا بدأن يبلغها للناس .
يراه رجل ممن يهوون الوشاية بالمؤمنين في كل زمان مكان وهو " عثمان بن طلحة " ـ فسارع إلى أمه ليخبرها طمعا في حظوة ، أو رغبة في قربى، أو طمعا في بعض المال ، هؤلاء يعيشون على إيذاء خلق الله ويدّعون أنهم يريدون الصلاح والإصلاح وأنهم ناصحون أمناء ، تنصت أمه لمقولة الواشي فيثور غضبها على ابنها وتأبى إلا حبسه وشد وثاقه حتى يعود له عقله الذي سلبه إياه هذا الدين الجديد .ويشتد الأذى بضعفاء المسلمين من قسوة وسطوة قريش ، فيشفق عليهم رسول الله ،ويطلب منهم شد الرحال إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد " النجاشي "الذي يكون له دور عظيم في نصرة الدين الخاتم ،ويصير مصعب من المستضعفين بعد أن كان لا يجروء أحد أن يمد له يد الأذى فهو السيد القرشي سليل بني عبد الدار ، وهكذا تنتكس الموازين.
رآه بعض الصحابة يرتدي جلبابا مرقعا باليا، فحنوا رءوسهم وذرفت عيونهم دمعا سخيا، لقد آثر أن يعيش حياة الفقراء حتى يشعر أنه مثلهم،لقد أحب الله ورسوله وهذه الفئة المستضعفة لقد صار منهم .. لقد جردته أمه من كل شيء .

يغافل مصعب حراسه وأمه ويهاجر إلى الحبشة فارا بدينه مع نفر قليل ، ليقيموا في الحبشة في خير جوار ، ومما هون عليه الأمر أن جعفر بن عبد المطلب عم رسول الله كان رفيقا له ،كانت محاولات قريش في التضييق، على الدين الخاتم مستمرة حتى الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، حاولوا ردهم وفشلت المحاولة ، فأشاعت قريش أن رسول الله قد مكن له ، فسارع نفر ممن يحدوهم الشوق إلى مكة إلى العودة، وإذا بهمفي قبضة قريش تارة أخرى ،ومنهم مصعب .
وحاولت أمه مرة أخرى أن تعيده في أسره فتوعد أنه سيقتل حراسه ، وحين علمت أمه بصدق الوعيد ودعته باكية مصرّة على الكفر، وودعها باكيا مصرّا على الإيمان ، فقالت له :" اذهب لشأنك ، لم أعد لك أما "،فاقترب منها وقال : يا أمَّه ، إني لكِ ناصح وعليك شفوق، فاشهدي أن "لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله " أجابته غاضبة :" قسماً بالثّواقب لا أدخل في دينك فَيُزْرى برأيي ويضعف عقلي" ، ويأذن رسول الله بالهجرة إلى يثرب، وعقب بيعة العقبة يتوسم فيه رسول الله فيه حبه في الدعوة، وأنه سيكون صورة تعبّر عن المسلم الذي يبلغ آيات الله ،ويصحب مصعب النفر الذين أتوا ليبايعوا رسول الله إلى يثرب ـ وينزل في بيت أسعد ابن زرارة ليصير الاثنان رفيقي درب لنشر الإسلام في يثرب وما حولها في وسط الأعراب .
سفير فوق العادة
كان كل يوم يمر يكسب الإسلام مكانا جديدا على أرض يثرب، ويحدث تغيير في الناس، والتعاملات،والأخلاق ، حتى لم يمر عام إلا ودخل الإسلام كل بيوت المدينة وما حولها ، وما كان هذا ليرضي سادة الجاهلية ، ولا الذين يتعيشون من الصراع الذي كان بين الأوس والخزرج الذي لا تكاد تخبو نيرانه حتى تشتعل أشد .
كان يشارك أهل يثرب في المكان اليهود الغرباء الذين أتوا إلى هذا المكان،وعملوا في التجارة والصناعة ،واكتسبوا ثروات طائلة من الصياغة،والحدادة ،وأيضا من تجارة الخمر والسلاح، وتحالفوا مع سكان المدينة ،وصارت لهم أسواقهم التي تدر عليهم المال الكثير ،لقد ارتابوا من السكينة التي عمت أنحاء يثرب، في البداية لاذوا بالصمت ،فلم يعد الخزرجي يناصب الأوسي العداء ،فتحسسوا الأخبار،وإذا بهم يجدوا ما ينتظرون من أنباء النبي الخاتم ،فقد كانوا يهددون العرب أنهم ينتظرون النبي،وأنه سيخرج منهم، وسينصرونه ويكفر به العرب ،وحينها يعدون على العرب بعد التمكين .
كان ذكيا في معالجة المواقف ، رباه رسول الله صاحب الخلق العظيم، دخل عليه يوما سيد بني عبد الأشهل أسيد بن الحضير بإيعاز من سعد بن معاذ، قال أُسَيْد لمصعب وأسعد بن زرارة في عنجهية الجاهلية : ما جاء بكما إلى حَيِّنَا تُسَفِّهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة، وفي سكينة الدعاة قال مصعب : يا سيد بي عبد الأشهل .. أولا تجلس فتستمـع ؟ ، فإن رضيت أمْرنا قَبِلته، وإن كرهته كَفَفْنا عنك ما تكره وكان أُسَيْد رجلا أريبا عاقلا،فكان على موعد مع الإيمان هنالك أجاب أسَيْد:
أنصَفْت وألقى حربته على الأرض وجلس يصغي، ولم يكد مصعب يقرأ القرآن ويتحدث عن الإسلام حتى أخذت أسارير أُسَيْـد تشرق ، ولم يكد ينتهي مصعـب حتى هتف أسَيْـد :ما أحسن هذا القول وأصدقـه ، كيف يصنع مَـن يريد أن يدخل في هذا الدين ؟ قال له مصعب : يطهّر ثوبه وبدنه ، ويشهد أن لا إله إلا الله فأسلم أُسَيْد وسرى الخبر كالضوء ، وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع وأسلم ، ثم تلاه سعد بن عبادة وأسلم ، وأقبل أهل المدينة يتساءلون : إذا أسلم ساداتهم جميعا ففيم التخلَّف ؟ هيا إلى مصعب فلنؤمن معه فإن الحق يخرج من فمه مشرقا، ولا يمرّ العام حتى يأتي مصعب بمسلمي يثرب لبيعة العقبة الثانية، وبها تعهدوا على نصرة رسول الله ودعوته، ويهاجر رسول الله إلى المدينة ،وسرعان ما يأتي يوم بدر " المعركة الخاطفة " التي انتصر فيها المسلمون من قلة على جيش قريش الأكثر عدة وعتادا .

شهيد يرفع الراية
ويأتي يوم أحد، ويكون مصعب ابن عمير حاملا للواء رسول الله ، وكانت هذه من أصعب المهام، إذ حامل الراية يكون هدفا للكثيرين لإسقاط الراية التي إن سقطت انهزم الجيش ،مهمة صعبة لا يقوم بها إلا راغب في الجنة من أسرع طريق ،ويعيش فيها وهو على الأرض يسعى .
وتدور رحى الحرب ،ويتأكد النصر للمؤمنين،و إذا بأصحاب جبل الرماة الذين كانوا يحمون ظهر الجيش المسلم يؤثرون الغنائم وينشغلون بجمعها عن حماية الجيش ، وينقلب النصر هزيمة مروعة . يكـّر المشركون على المسلمين ،وينكشف من كان حول رسول الله .
ويقف مصعب دون رسول الله يتلقى عنه ما قد يصل إليه من ضربات المشركين،كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الهدف الذي يسعى له جيش قريش، فأصيب صلى الله عليه وسلم ، ويحاول" ابن قمئة " وهو فارس قبيح من فرسان الشرك الوصول لرسول الله ،ولكنه يجد طودا شامخا يحمل الراية يأبى أن يترك مكانه ، إنه مصعب فكان هو الهدف ، فحمل عليه ابن قمئة ، فقطع يده اليمنى التي تحمل الراية، فأمسكها باليسرى حتى لا تسقط الراية فقطعها ابن قمئة ، فإذا بمصعب يضم عضدية على الراية ، فيسدد القبيح رمحه لمصعب لتناديه حور الجنان .
ويبحث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع صحابته عن الشهداء ومنهم مصعب رغم أن حمزة كان أيضا قد نال الشهادة ، إلا أنه بكى مصعبا ورآه الرسول - صلى الله عليه وسلم- وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة وهو ينظر إلى ثوبه القصيرة وقال :" لقد رأيت مُصعبا هذا وما بمكة فتى أنْعَمُ عند أبويه منه ، ثم ترك ذلك كله حُبّا لله ورسوله" فلم يجد الصحابة ما يكفنوه فيه إلا ثوبه القصير وأعواد من نبات الإذخر جعلوه على رجليه .
****
وجعله فى ميزان حسناتك