
إن للأم دوراً كبيراً في بناء الجيل
وبقدر النجاح الذي تحققه في تربية الأم
يكون النجاح الذي تحرزه في بناء الأمة وصناعة الأبطال .
وكثيراً ما تجد وراء أحد العظماء امرأة عظيمة
تركت بصمات نفسها الكبيرة بارزة في شخصيته
من خلال اللبن الذي رضع ومن خلال دفء الحضن الذي به رتع .
وكثير من الرجال يصعب عليه أن يمسح من ذهنه
تلك الصور المشرقة التي التقطها لأمه
فيقف وفي ذهنه تلك الصور الرائعة التي جرت في عروقه منذ حداثة سنة
فلا يملك إلا أن يتمثلها بإكبار او يتملاها بإجلال وافتخار .
ثم تندفع الكلمات البسيطة الواضحة التي أودعتها أمه كيانه
فتشمخ معالم في طريقه ومنارة على جادته
ولا يستطيع إلا أن يتفيأ الظلال الوارفة
التي أقامتها له الأم على طريق العمر الطويل
تغذيها المشاعر الجميلة وتتفاعل معها الأيام الخالدة في حياته
فتشتجر هذه العوامل في كيانه وتكون جزءاً لا يتجزأ من شخصيته
ولا يستطيع أن ينسلخ منها إلا أذا انسلخ من إنسانيته وتجرد من بشريته .
ولذا كان الحفاظ على هذا الود ومقابلة هذا الجميل بالوفاء والبر
فريضة من فرائض الإسلام مقرونة بكلمة التوحيد :
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
ويعتبر العقوق قريناً للكفر ..
ويحتل احترام الأم منزلة رفيعة في سلم الإسلام وله ثقل كبير في ميزانه .
وفي الصحيح جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
.
- ومن النماذج الرفيعة من الأمهات -
(( فاطمة أم فيصل المكية ))
فلقد كانت فاطمة أم الأولاد الستة
تحلم أن ترى أبنها فيصلاً يحظى بفتاة أحلامه
وتفرح بابنها قبل أن تخطفها يد المنون
إذ أنها تدلف إلى جدثها بخطى حثيثة بعد أن بلغت السبعين ..
واشترت لابنها الصغير أثاث العرس
ولم يبق من أبنائها غيره ممن لم يكمل نصف دينه الآخر .
كانت فاطمة تعيش مع ابنها فيصل في شقته الهادئة
على شاطئ البحر الأحمر في جدة
وتنتظر اليوم الذي تختم فيه فرحها بأصغر أبنائها
ولقد كانت تفخر بابنها الذي طالما تباهت برؤية صورته على شاشة التلفاز
يقدم مسرحيات للجمهور .
ولكنها خلال الأشهر الأخيرة
صارت تلمح على قسمات وجه ابنها تغيراً وسهوماً ووجوماً وصمتا !!
وغابت تلك الابتسامة المشرقة التي كانت لا تفارق شفتيه !
هنالك شيء جديد جادٌ يعتمل في أعماقه ويشغله !
وهي تلاحظ عليه شروداً !
ولم تعد تلك الأحاديث التي كان يفاتحها بها عن أمنياته وأحلامه !
بل اختفت من أنظاره بهارج الحياة وزخارفها ! .
واضطرت أن تقتحم عليه عزلته ووحشته متسائلة ..
ما الذي دهاك يا حبيبي فأشغلك عنا وعن الحياة الوادعة الآنسة حولك ؟
وهنا فاتحها بما يكنه بين جوانحه :
لقد قرأت كتاباً عن الجهاد
يتكلم فيه عن قضية الجهاد في أفغانستان
التي ليست مسطرة في سطور بل حقائق متمثلة في دينا الواقع
يخوضها شعب أعزل أمام تحالف الكفر والنفاق .
وبدأت الأسئلة تنهال على لسانها :
وأين أفغانستان ؟ هل هي من الأرض ؟
فأجاب :
إنها بلد مسلم يعيش فيه شعب رفض ان يعطي الدنية في دينه
ودفع ضريبة عزته غالية باهظة
فهناك على سفوح الهندوكوش وعلى ضفاف الهلمند وفي سهول هرات
يسقط شهيد كل أربع ساعات ويغادر شيخ أو امرأة منزله كل دقيقة .
يستعـدون مناياهـم كأنـهـم * * * لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا
قالت : ولكن هذه البلاد جد بعيدة ؟!
فأجابها : أولسنا المسلمين ؟ أوليست أرض الإسلام كالبقعة الواحدة ؟
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم * * * لأيــة أرض أو أي مـكــانِ
وطفق فيصل يرتب نفسه ويعد للأمر عدته ويتخذ له أهبته
وفاض الغرام واحتراق الكبد بالشوق وزاد الشجى
وإذا به ذات يوم يحضر سيارة كبيرة من السوق ويضع جميع أمتعته
( رياش العرس وفراش الزواج وأثاثه )
ولم يبق في البيت كرسياً ولا أريكة إلا أخذها
وأنطلق إلى سوق الحراج
وطلب من السمسار أن ينادي عليها بالبيع وصاح الدلال ..
فقال قائل : هي عليّ بثلاثة آلاف
فلم يتردد عن الإجابة بالقبول وباعها بهذا الثمن البخس
بعد أن دفع ثمنها سبعة عشر ألف .
لقد كان بيع الأثاث إعلاناً صارخاً عن العزم الوامض
والتصميم الحاسم على طلاق الدنيا ثلاثاً لا رجعة فيها .
وتعلقت أمه به
لابد أن أرافقك مسيرة طريق العرق والدماء
ولا بد أن أسير فوق جادة الجهاد رغم الأشواك والعقبات .
ويعجب فيصل :
وهل لمثلك دور في هذا الدرب المضني ؟
سيّما وقد نيفت على السبعين وثقل اللحم وقد لحب الجنبان واحدودب الظهر ! .
وتجيب الأم :
نعم استطيع أن أغسل ثياب المجاهدين وأن أطبخ لهم الطعام .
وصار النقاش يشغل قسماً من الوقت في مجيئها أو بقائها في بيتها ..
وفي النهاية
وعدها فيصل أن يأتي لمعرفة الدور الذي يمكنها القيام به في أرض الجهاد
ثم يرجع إليها .
وذهب فيصل إلى أرض الجهاد فترة ثم عاد ليرتب أموره نهائياً
ويستقيل من وظيفته ويخلص بنفسه إلى الله
وينسلخ من دنياه التي يعيش فيها نهائياً
وهنا .. تصر الوالدة على القدوم إلى أرض الجهاد ..
وذكرته بالوعد .. فذهبا سوياً إلى أرض الجهاد
وقدمت فاطمة إلى بيشاور وزارت الأرامل والأيتام
وبعد مُضي أسابيع حاول ابنها أن تعود إلى جدة
وبعد جهد جهيد توصلا إلى قبول تحكيمي فقالت له :
لن أرجع حتى أسأل ( الشيخ ) .
وجاء فيصل بأمه لتطمئن إلى جواز رجوعها إلى جدة
وإلى الحكم الشرعي أن الله يعذرها بالعودة ..
فأفتى ( الشيخ ) بجواز رجوعها
فغادرت وهي مطمئنة أنها من أصحاب الأعذار .
يقول ( الشيخ ) :
نظرة إلى هذه العجوز بإكبار وانبهار .. ثم قلت في نفسي :
إنها مكيّة ولعلها قرشية فلا غرو في هذا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده )
متفق عليه .
إنها تريد أن تسير على نهج أم حرام بنت ملحان زوج عبادة بن الصامت
حيث نام صلى الله عليه وسلم في بيت عبادة فاستيقظ وهو يضحك
فقالت أم حرام : ما يضحك يا رسول الله ؟
قال : ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله
يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة
فقالت : يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم , فدع لها
فركبت أم حرام بنت ملحان البحر في زمن معاوية فصرعت عن دابتها فهلكت . رواه مسلم .
تريد فاطمة أن تنسج على منوال أم سليط التي كانت تنقل قرب الماء يوم أُحد .
وتود أن تلحق بالربيع بنت مسعود رضي الله عنها التي قالت :
كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي القوم ونخدمهم
ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة .
- نموذج فقط -
وليست القصة هي قصة فاطمة – أم فيصل – وحدها
ولكنها قصة الكثيرات اللواتي يتقلبن على اللظى شوقاً لرؤية الجهاد
كل واحدة منهن بفتى أحلامها أن يكون ممن يمتشقون السلاح
ويمتطون صهوات الجياد ويحيون في قمم الجبال .
هذه أم سعيد الجزائرية :
يستأذنها ابنها في الجهاد فتقول له :
يا بُني أنت خريج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة
وتعلم الشرع أكثر مني .. فأي أمر شرعي فلا تستأذني فيه .
أما بالنسبة للجهاد .. فتقول أم سعيد :
فقد قام الجهاد في الجزائر ولم يكن عندي أولاد
وكنت أتمنى أن يكون لي أولاد أقدمهم في هذا السبيل .
والآن فقد رزقني الله أحد عشر ولداً فلا بد أن أقد بعضهم في سبيل الله .
وأرسلت سعيد وعبد الرحمن إلى الجهاد بعد أن دعت لهما حول الكعبة بالشهادة .
إنها ليست قصة فاطمة ولكنها قصة عشرات الألوف من الفواطم
اللواتي ولدن في هذا الدين الذي لن يعقم أن يقدم النماذج عبر الأجيال .
قصص جميله ورائعه ..الله ينصر دينه