مقالة مهمة لكل من سولت نفسه تسور المحراب واجترار الخطاب من دون أخذ رسمه من أهله

الملتقى العام

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم هيِّئ لنا الخير، واعزم لنا على الرشد، وآتنا من لدُنكَ رحمة، واكتب لنا السلامة في الرأي، وجنِّبنا فتنةَ الشيطان أن يقوى بها فنضعف، أو نضعفَ لها فيقوى، ولا تدَعْنا من كوكب هداية منك في كل ظلمة شك منا، واعصمنا أن تكون آراؤنا في الحق البيِّن مكان الليل من نهاره، أو تنزل ظنوننا من اليقين النَّيِّر منزلة الدخان من ناره، نسألك بوجهك، ونتوسل إليك بحمدك وندعوك بأفئدة عرفتك حين كذَّب غيرها فأقرّت، وآمنت بك فزُلزل غيرها واستقرت.

جاء في وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لكميل بن زياد النخعي رحمه الله:
روى كميل بن زياد النخعي قال: "أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه بيدي فأخرجني ناحية الجبانة، فلما أصحر جعل يتنفس ثم قال: "يا كميل بن زياد القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، احفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق"

قال أبو بكر الخطيب رحمه الله تعالى:
"هذا حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى، وأشرفها لفظاً وتقسيم أمير المؤمنين للناس في أوله، تقسيم في غاية الصحة، ونهاية السداد؛ لأن الإنسان لا يخلو من أحد الأقسام التي ذكرها، مع كمال العقل، وإزاحة العلل. أما أن يكون عالماً أو متعلماً، أو مغفلاً للعلم وطلبه ليس بعالم ولا طالب له. فالعالم الرباني هو الذي لا زيادة على فضله لفاضل، ولا منزلة فوق منزلته لمجتهد، وقد دخل في الوصف له بأنه رباني وصفه بالصفات التي يقتضيها العلم لأهله، ويمنع وصفه بما خالفها.

وقوله (أتباع كل ناعق): أي من صاح بهم ودعاهم تبعوه، سواء دعاهم إلى هدى أو إلى ضلال، فإنهم لا علم لهم بالذي يدعون إليه أحق هو أم باطل، فهم مستجيبون لدعوته، وهؤلاء من أضر الناس على الأديان، فإنهم الأكثرون عددا، الأقلون عند الله قدرا، وهم حطب كل فتنة، وسمي داعيهم ناعقا تشبيها لهم بالأنعام التي ينعق بها الراعي.

وقوله (يميلون مع كل ريح): شبه عقولهم الضعيفة بالغصن الضعيف، وشبه الأهواء والآراء بالرياح والغصن يميل مع الريح حيث مالت، وعقول هؤلاء تميل مع كل هوى، ولو كانت عقولا كاملة كانت كالشجرة الكبيرة التي لا تتلاعب بها الرياح.

وقوله (لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق): بين السبب الذي جعلهم بهذه المثابة، وهو أنهم لم يحصل لهم من العلم نور يفرقون به بين الحق والباطل، فهم ليس عندهم نور العلم، ولم يتبعوا عالما من علماء السنة يدلهم على الحق.

فينبغي للمسلم أن يأنف لنفسه من أن ينعق مع الناعقين، ويسدر مع السادرين، ويحمل المباخر للعصاة الظالمين، ويسير في ركابهم، متخليًا عن دينه وعقيدته، تائهًا في زحامهم، بل ينبغي له أن يقاوم الذوبان في هذه اللجة، مستعينًا بالله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا".

عندما يتطاول الأقزام على من هم أبلغ منهم علما، يمسك بتلابيبك العجب وفي زمن العجائب لا عجب !

يدعون العلم وهم لا يفقهون شيئا، إمعات لا فكر خاص بهم، ولا جدوى من الحوار معهم، لا يرجى منهم خير أو نفع فأذاهم لا محالة واقع بكل من حولهم !

يعيشون على بقايا مقالات الآخرين، وعلى محاولات النيل منهم يصعدون، ناعقون بالخراب، مطبلون لأوهامهم مزمرون لأهدافهم !

يسلقونك بألسنة حداد شحاح لا يخافون ولا يستحيون ومن أمن العقاب أساء الأدب !

يظنون – وقد وهموا - أنهم حين يهاجمون من هم أفضل منهم أن الجو سيخلو لهم، وأنهم سيواصلون غيهم واستغلالهم للضعفاء دون ردع أو مقاومة !

نسوا أن الله مطلع على الأفئدة يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وأنه سبحانه وتعالى بصير بعباده يمهلهم ليتوبوا ويقلعوا عن الخطأ وهو قادر على أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر

نقول لهم كما قال الرافعي رحمه الله:
والفكرة لا تسمى بأسماء الناس، وقد تكون لألف سنة خلَت ثم تعود بعد ألف سنة تأتي، فما توصف من بعد إلا كما وُصفت من قبل ما دام موقعها في النفس لم يتغير، ولا نظنه سيأتي يوم يُذكر فيه إبليس فيقال: رضي الله عنه !

ونقول لهم:
دونكم واجترار البذيء من الكلام فهو ديدنكم وهي شنشنة نعرفها من أخزم !

فالزموا أوكاركم ولا تخرجوا منها، فالخفاش يؤذيه نور النهار، والغراب لن يصبح طاووسا وإن قلد مشية الطاووس !

وموتوا بغيظكم فمن أخلص النية لله وفوض أمره إليه وابتغى مرضاته لن يضره البشر ولا شياطينهم الذين يستعينون بهم وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه بشيء إلا قد كتبه الله عليه

ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
والحمد لله رب العالمين

المراجع:
ــــــــــــــــــــــــ
(1) مفتاح دار السعادة / ابن قيم الجوزية (1/126-133)
(2) تحت راية القرآن / مصطفى صادق الرافعي
(3) فضل العلماء وصفات العلماء / أحمد فريد

منقول
1
454

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

راقية الفكر
راقية الفكر
اللهم علمناماينفعناوانفعنابماعلمتنا
وزدناعلما