لم تُعْنَ أمةٌ من الأممِ في القديمِ والحديثِ بآثار نبيِّها وحياته ، وكل ما يتصل به مثل ما عنيت الأمة الإسلاميةُ بسيرة نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والتي كانِ من آثارها هذه الثروة من الكتب المؤلفة في مولده وسيرته ، وحياته وشمائله ، وفضائله وخصوصياته ، ومعجزاته وأخلاقه وآدابه ، وأزواجه ونسبه ، وخدمه ومرضعاته وحاضناته .. بل بلغت العناية بالعلماء وكُتَّاب السيرة أن كتبوا عن وصف نعاله ومطهرته .. إلى غير ذلك ، مما يدل على غاية الحب والعناية بآثاره ، والدقة في تدوين كل شىء عن حياته وسيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
لقد فرضت سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفسها على المسلمين للعناية والاهتمام بها ، عن طريق حفظهـا وروايتها ، ومن ثم نشرها بين الناس ، وذلك لأهمية حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرتـه ، فأقواله وأفعاله المصدر الثاني للتشريع الإسلامي ـ بعد القرآن الكريم ـ ، إضافة إلى أن سيرة ـ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ تفسر الكثير من الآيات القرآنية وتبين أسباب نزولها ..
ومن المعلوم أن المسلمين الأوائل اهتموا بأحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسننه ومغازيه ، وقبل أن تُدوَّن الأحاديث تدويناً عاماً في آخر القرن الأول الهجري ، كانت مدونة في الصدور عند جَمْهَرةِ الصحابة والتابعين ، وكذلك كانت سيرة ومغازي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إذ كانوا يحفظونها كما يحفظون السورة من القرآن ، ويتواصون بتعلمها وتعليمها لأبنائهم ، فكان علي بن الحسين ـ رضي الله عنه ـ يقول : " كنا نُعلَّم مغازي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نعلم السورة من القرآن "..
وكان الزهري يقول : " علم المغازي والسرايا علم الدنيا والآخرة " ..
وكان إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ يقول : " كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا " ، ويقول : " يا بني هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها "..
السيرة والحديث النبوي :
شغلت السيرة النبوية حيِّزاً غير قليل من الأحاديث ، والذين ألفوا في الأحاديث لم تَخْلُ كتبهم غالبا عن ذكر ما يتعلق بحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومغازيه ، وخصائصه ومناقبه ، وقد استمر هذا المنهج حتى بعد انفصال السيرة عن الحديث في التأليف وجعلها علما مستقلا ، وأقدم كتاب وصل إلينا في الأحاديث وهو موطأ الإمام مالك (المتوفَّى 179هـ) لم يخل من ذكر جملة من الأحاديث فيما يتعلق بسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأوصافه وأسمائه ، وذكر ما يتعلق بجهاده ..
وصحيح الإمام البخاري (المتوفَّى 256هـ) ذكر فيه قطعة كبيرة مما يتعلق بحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل البعثة وبعدها ، كما ذكر كتاب (المغازي) وما يتعلَّق بخصائصه وفضائله ، وفضائلِ أصحابه ومناقبِهم ، وأيضا صحيح الإمامِ مسلم (المتوفى 261هـ) اشتمل هو الآخر على جزء كبير من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وفضائله وشمائله ، وفضائل أصحابه ، والجهاد والسِّيَر ..
وكذلك صنع الإمام أحمد (المتوفَّى 241هـ ) في مسنده الكبير ، وأبو داود ، والنسائيُّ ، والتِّرمذي ، وابنُ ماجه ، لم تخلُ كتبُهم من كتاب الجهاد ، وذكر طرف مما يتعلق بالسيرة ، وهذا يدل دلالة كبيرة على الصلة الوثيقة بين الأحاديث والسِّيَر ، فهي جزء منها ..
فكانت العناية بالسيرة أو بالمغازي تأتي ضمن عناية المحدثين بالحديث وجمعه ، فقد كان المحدث يجمع الأحاديث المتفرقة دون تبويب أو ترتيب ، إلا أن التطور والحاجة قادا إلى ترتيب الأحاديث في أبواب خاصة مثل : باب الجهاد ، باب الصلاة .. فتأثرت السيرة والمغازي بهذا التطور الجديد ، حيث جُمِعت في أبواب مستقلة كان من أشهرها باب أو فصل : " المغازي والسير " ..
غير أن المغازي والسير لم تلبث أن انفصلت دراساتها وأبوابها عن الحديث ، حيث أُلِفَتْ فيها الكتب الخاصة بها ، ومع ذلك ظل المحدثون يحتفظون بباب : " المغازي والسير " في كتب الصحاح المشهورة ..
التَّأليفُ في السِّيرةِ على سبيلِ الاستقلالِ :
وقد بدأ التدوين في السيرة النبوية في كتب خاصة مستقلة في النصف الثاني من القرن الأول الهجري .. وقد اعتمد العلماء في تدوينها على قواعد علمية لضبط الروايات والأخبار ، وهي نفس القواعد التي نهجوها في سبيل حفظ باقي المصادر الإسلامية ـ خاصة أحاديث السنة النبوية ـ كقواعد مصطلح الحديث ، وعلم الجرح والتعديل .. فهذه القواعد التي وُضِعت أساسا لحفظ السنة النبوية من الضياع والتحريف ، هي نفسها التي استثمرت لتدوين السيرة النبوية المطهرة .. ومن ثم فإن كتابة وتدوين السيرة تأتي من حيث الترتيب الزمني في الدرجة الثانية بعد كتابة السُنَّة ـ الحديث النبوي ـ ، إذ السنة بدأت كتابتها في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
وكان أول من اهتم بكتابة السيرة النبوية عروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ المُتَوَّفَّى ( 92 هـ) ، ثم وهب بن منبه المتوفى ( 110 هـ ) ، ثم شرحبيل بن سعد المتوفى ( 123 هـ ) ، ثم ابن شهاب الزهري المتوفى ( 124 هـ ) .. فهؤلاء يأتون في مقدمة من اهتموا بتدوين السيرة النبوية ..
ويأتي في مقدمة الطبقة التي تلي هؤلاء محمد بن إسحاق المتوفَّى ( 152 هـ ) ، وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يُعَدُّ من أوثق ما كُتِبَ في السيرة النبوية في ذلك العهد ، ويأتي من بعده محمد عبد الملك المعروف بابن هشام المُتوفَّى ( 213 هـ ) فروى لنا كتابه منقحا ، والذي قال عنه ابن خلكان : " .. وابن هشام هذا ، هو الذي جمع سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المغازي والسير لابن إسحاق ، وهذبها ولخصها ، وهي السيرة الموجودة بأيدي الناس والمعروفة بسيرة ابن هشام " ..
ثم تلت هؤلاء طبقة كتبت في السيرة كتبا كاملة في السيرة النبوية مثل المغازي للواقدي ، والطبقات لابن سعد ، والطبري في تاريخه ، وما تابعه عليه ابن كثير في البداية والنهاية ، وابن الأثير في الكامل في التاريخ..
وكان من نتائج هذه الحركة التدوينية النشطة أن تكونت ثروة غنية من المصنفات في السيرة النبوية ، واكتملت هذه المرويات نقلا ورواية ، وسنداً ومتناً ، فانصبت اهتمامات العلماء فيما بعد - إضافة إلى التأليف في هذا الميدان - على فكرة النقد والتعليق .. وهكذا توالت المصنفات في ذلك تأليفا ونقدا جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا ..
موقع مقالات اسلام ويب
ام الحكاوي @am_alhkaoy
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
*هبة
•
الصفحة الأخيرة