ملف من داخل عيادتي

الملتقى العام

:44:امية ضحية
التخمينات !!



لم تكن (سامية) مريضة نفسياً كما كان يعتقد أفراد أسرتها للوهلة الأولى، لكنها بسبب سوء التشخيص وكثرة الأدوية والمضادات التي تناولتها واستفحال الحمى عليها تأثر المخ بذلك، وأدى الأمر إلى نتائج سلبية جعلتها خائفة ومضطربة نفسياً، وفي وضع تم تصنيفها بموجبه، كحالة مرضية نفسياً، هكذا قالت والدة الطفلة سامية ذات الثلاثة عشر ربيعاً، والوجه الوضاء المتلألئ كأنه انتزع من جبين القمر، وذات الطرف الذابل، والعينين الغائرتين، والفم المتلعثم، دخلت إلي عيادتي هزيلة الجسد مكسورة النفس، خائرة الأطراف، غرس المرض أنيابه في جسمها الناعم النحيف، فغدت أشبه بشبح إنسان.

بعد أن فت المرض والتدهور النفسي في عضد الطفلة البريئة (سامية) تم تحويلها إلى قسم الأمراض النفسية في المستشفى، فباشرت حالتها بنفسي، ووجدت جسداً نحيلاً وقوى خائرة وأسناناً تكاد تبرز من بين الفكين، من قلة تناول الطعام، ووجدتني أمام فتاة صغيرة تمتلئ براءة وحلماً وأملاً، ورجاءً.. لكن الخوف تملكها خلال المرحلة السابقة، وقد خطف منها ابتسامة البراءة ونور العينين، وجمال الطفولة، فعلمت من خلال سرد أمها لقصتها أنها تعرضت إلى حمى تم إهمالها، حيث عولجت بمسكنات ومهدئات، قبل أن يتم تشخيصها بشكل سليم، وعندما تأثر المخ والأعصاب بتلك الحمى التي كانت تسري في جميع أجزاء جسدها النحيل، وأنواع العلاج المختلفة وربما المتضاربة، عرضت على طبيب شرعي باعتبارها مريضة نفسياً، وخضعت لجلسات من العلاج بالقرآن، حيث تعرضت للضرب، ورُقِيَ لها في محاولة لإخراج الجن المزعوم منها دون أن تكون هناك نتائج مباشرة.. ونقلت من مستشفى إلى آخر، وتناولت كميات كبيرة من العلاج تراكم مفعولها وتداخل أثرها، وكل هذا ونفس سامية تضيق بالألم وجسدها يضيق بالأدوية المتضادة والتفاعلات المختلفة، والآثار الجانبية التي لا يشعر بها أحد غيرها.

جُلَّ الذين من حولها من الأهل والأقارب وبعض من باشروا علاجها كانوا يعتقدون أنها تعرضت إلى مس أو شيء من هذا القبيل، خصوصاً عند اشتداد الحمى عليها، وفي لحظة كانت ترقد بمفردها سمعت مواء قط فنهضت تركض باكية تبحث عن أمها بصورة هستيرية مخيفة.

كانت تعيش كابوساً مرعباً بسبب ارتفاع حرارة جسمها، ولكن حركة العينين والبكاء المتواصل وتوهم أن القط يطاردها تخيله أهلها نوعاً من المس أو الجنون، وكان ذلك سبب التخبط في أساليب العلاج، وتأخر تشخيص حالتها بطريقة علمية صحية كما ينبغي.

صحيح أن المرحلة التي وصلت إليها (سامية) عند زيارتها لعيادتي كانت حالة نفسية.. لكنها لم تكن الأساس في المرض، ولم تكن الحالة التي ظهرت عليها منذ اللحظات الأولى، بل أصابها الخلل النفسي من جراء التعامل الغريب معها من قِبل الأهل ومن بعض الأطباء وشيوخ التداوي بالقرآن الذين لم يشخصوا حالتها جيداً، تفهمت حالتها جيداً بعد أن عرفت خلفيتها المرضية وظلت تتلقى العلاج البدني إلى جانب جلسات لعلاج الحالة النفسية، ولم أخف على (سامية) ما تعرضت له من مرض وضغوط وخطأ في التشخيص، وضرب وأثر ذلك على صحتها إنما قصصت عليها كل المراحل التي مرت بها وأقنعتها بأنها تتمتع بصحة جيدة، واستمرت تتابع العلاج معنا في عيادتنا بالمستشفى، واستجابت للعلاج بشكل جيد، وظلت حالتها تتحسن باستمرار، وخلال أيام قليلة استعادت (سامية) طبيعتها وغادرت المستشفى وهي في تمام الصحة والعافية.

هذه الحالة لم تكن الوحيدة التي ترد إلى عيادتي ثم تتماثل إلى الشفاء في وقت وجيز، ولكنها من الحالات النادرة التي لم تكن في بدايتها نفسية، بل تحولت إلى ذلك بفعل عوامل اشتركت فيها عدة جهات؛ فاستجابت حالتها إلى هذا التحول مما جعلها تحل ضيفة لدينا طيلة فترة العلاج، لكن ما أعجبني في الصغيرة (سامية) أنها كانت واقعية، فبعد أن أدركت ملابسات ما جرى لها بوعي تام، لم تتأثر نفسياً بما مضى، بل صارت تعيش يومها دون أن تنشغل بما حدث لها، كما أنها استوعبت نصائحي وتقريري حولها جيداً، وهذا –بالطبع- ساعدها على تجاوز تلك المرحلة وجعلها تعيش حياتها الطبيعية بكل حيوية ومعنويات عالية، كأن شيئاً لم يحدث.منقول
0
413

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

خليك أول من تشارك برأيها   💁🏻‍♀️