منحدر التنازلات

الملتقى العام

منحدر التنازلات


في جدال حول النقاب، أعلنت فتاة سعوديّة في أحد النقاشات أنّها تكشف وجهها في مصر، لأنّ العرف هناك يجعل هذا الوضع هو الأفضل، بينما لا تطالِب بمثل هذا في السعوديّة بل تعترض عليه!

لهذا كتبت ما يلي:

أنا لست عالما أو فقيها.. لهذا فأنا أبتعد بكلماتي عن الإفتاء.. ولا أتكلم إلا فيما هو ثابت ومعروف.

وموضوع الحجاب فيه اختلاف منذ الأزل.. وكبار علماء الأمة لم يحسموه (وإن كان التطبيق على أرض الواقع في مصر والمغرب العربيّ والشام والعراق والخليج كان يعطي إجماعا كاسحا في مسألة النقاب، فقد كانت نساؤنا تغطي وجهها طيلة تاريخنا، ولم تكشفه إلا منذ أقلّ من قرن، وبسبب الاستعمار وأزلامه، وليس بسبب الخلاف الفقهيّ!!).

لهذا فأنا أوفر طاقتي لنقاش جذور المشاكل.. والبحث عن اقتراحات الحلول.. لا عن الجدال في الأمور الخلافية.

لكن صراحة تضايقت من اعتراف الأخت الفاضلة بكشف وجهها في مصر.

تألمت لأن بلدي يجبر الأفضل على التنازل!

واستأت لأن أختنا تعلن مثل هذا، فلعلها تصير قدوة فيه!!

لكني متفق معها في نظرتها للعرف.. خاصة أن تغير أعراف السعودية في الوقت الراهن تدفعه حملة تغريب شرسة.. وهي لن تتوقف أبدا عند كشف الوجه.

وهو نفس ما حدث في مصر في مطلع القرن الماضي.. عندما استغل قاسم أمين ومحمد عبده نفس الخلافات الفقهية للمطالبة بنبذ الحجاب ومن ثم الخروج للتعليم الغربي ومن ثم الاختلاط.

ترون الآن إلى أين وصل الأمر!

دعونا إذن نتجاهل الخلافات الفقهية ونركز في هذه النقطة: في الفارق بين كشف الوجه لدعوة إسلامية، وبين كشفه لدعوة علمانية!

فإذا كان الألباني يؤكد جواز كشف الوجه من منطلق إيمانه بالحق والشرع، فإن ذلك يختلف تماما عمن ينادون بكشفه كخطوة في سبيل التغريب وتدمير الأخلاق والقيم.

وللأسف: الصنف الأخير مسيطر حاليا، ومعه صحف وقنوات ومناهج دراسية وقوانين ومؤسسات... لهذا فإنه يعرف تماما كيف يجذب الشعوب لمنحدر التنازلات بالتدريج.

إننا نتساءل في دهشة: كيف ترضى إحدى الفتيات أن تتعرى وترقص وتعرض عوراتها أمام الملايين عبر الفضائيات؟

هذا لأنّنا نقارنها بفتاة محتشمة خجول..

ولكنها لم تكن سوى نقلة تافهة بعد ارتدائها المايوه على الشواطئ..

التي لم تكن سوى نقلة تافهة بعد ارتدائها البدي والاسترتش في الجامعة، ورقصها في حفلات الزواج..

التي لم تكن سوى نقلة تافهة بعد كشف شعرها ولبس القصير والمثير..

التي لم تكن سوى نقلة تافهة بعد اختلاطها بالشباب منذ طفولتها في التعليم..

التي لم تكن سوى نقلة تافهة بعد اعتيادها مشاهدة كل هذا الفحش في التلفاز، منذ نعومة أظفارها..

.... وهكذا...

إن الفرق بين أول تنازل وآخر تنازل شاسع.. ولكنه ليس جُرفا حادا.. بل منحدر هين الميل!



ودعوني أقص عليكم هذا الموقف الذي حدث لي منذ فترة:

كنت عائدا من القاهرة إلى مدينتي.. وفي الحافلة، كانت تجلس في الصف التالي للذي فيه مقعدي فتاتان.. وكانتا تتكلمان بصوت وصل لمسامعي.. فكان مما قالته إحداهما للأخرى إنها خجول، ولا تدري إذا ما كان هذا صوابا أم أنه خطأ في شخصيتها.. ولكنها تتحرج أن تخاطب زملاءها الشباب في الجامعة إلا إذا كانت تحتاج من أحدهم لخدمة!

فقالت الأخرى إنها تختلف عنها تماما.. وإنها تثرثر مع الشباب وتمزح معهم بطريقة عادية تماما.. وذلك لأنّها كانت في مدارس مختلطة منذ طفولتها ـ بينما لم تكن الأخرى كذلك!!

كنت أتمنى أن أقول للفتاة الأولى لا يجب أن تزدري حياءك.. ولا يجب أن تعتذري عنه لمثل تلك الزميلة.

ولكن طبعا لم أقل هذا.. لأنّه كان سيبدأ حوارا، مما يعني عكس ما أدعوهما إليه!

الآن أحب أن ألفت نظركم لشيء هام:

الفتاة الأولى ضعفت أمام الضغوط.. لأن الاختلاط والعبث هما السمة السائدة في الجامعة.. ناهيكم عن الضغوط العاطفية في هذه المرحلة!

وبقولها لزميلتها إنّها لا تدري إن كان خجلها صوابا أم خطأ، فإنّها كانت توعز إليها لتحرضها على الاندماج في هذا الوسط.. وبهذا تقول لنفسها في النهاية: أنا لم أكن أريد هذا.. ولكنها هي التي شجعتني!.. هذه حيلة نفسية معروفة يخدّر بها الإنسان ضميره!

ملاحظة أخرى: هل أرسل أهل هذه الفتاة بنتهم لمدينة بعيدة لتتعلم أم لتصاحب الشباب ـ والاحتمالات كثيرة في هذا المسار؟

وما النتيجة المتوقعة من زجّ فتاة في وسط موبوء في مدينة بعيدة بدون رقابة؟.. أضعف الاحتمالات هو أن تتغير فطرتها ويضيع حياؤها وتختلف قيمها.

كل هذا في مقابل شهادة عقيمة لا معنى لها.. لم تعد تضمن وظيفة حتى!!!

هنا أتذكرّ قصة أخرى عايشتها منذ عامين.. فتاة من الأقاليم تدرس في القاهرة صادقت شابين نصرانيين.. وقد أخذها في تنصيرها عن طريق دفعها للإلحاد أولا، مستعينين بكتب فكرية وفلسفية جعلت الأمور تبدو لها براقة وإبداعيّة!!.. وقد بدأ الأمر بتشكيكها في قيمة أداء العبادات، وسذاجة التمسك بالأخلاق (والنقطة الثانية كانت أخطر ما في الأمر، لأنّ كلّ شيء يمكن إصلاحه ما عدا شرف الفتاة)!!.. بعد هذا دفعاها للشك في وجود الله.. بعد هذا دفعاها للإيمان ببعض الأفكار البوذيّة عن تناسخ الأرواح ووحدة الوجود وأنّ الإله هو جزء من كلّ الأشياء.. وهذه مقدمة عبقرية لإقناعها بعد هذا أنّ الله ثالث ثلاثة (أب وابن وروح قدس)، فمن المستحيل تقريبا أن يقبل عقل المسلم هذه التصورات غير المنطقيّة بعير هذا المسار!!

في هذه الأثناء نقلت زميلتها في الغرفة في المدينة الجامعية هذا الأمر لأحد أصدقائي، الذي أخبرني به.. ولم أكن مستقرّا في القاهرة، ولم أستطع أكثر من أرسل لها أسطوانة عليها الكثير من الملفات المكتوبة والمسموعة والمرئية عن الإعجاز العلميّ في القرآن وبعض محاضرات د. زغلول النجار وعمرو خالد (ومنها محاضرته الرائعة في نلقى الأحبّة عن الباحث عن الحقيقة: سلمان الفارسي رضي الله عنه).. ولا أعرف ماذا حدث بعد هذا، فقد انقطعت أخبارها عنّي.. أسأل الله أن تكون قد ثابت لرشدها وابتعدت عن هذا الوباء.. بأقّل الخسائر!

عموما هذه التجربة أكّدت لي أكثر من شيء.. أهمّها أنّني لن أكون المغفل الذي يرضى بالارتباط بفتاة تغرّبت عن مدينتها في فترة المراهقة.. لأنّ هذا معناه ـ مهما كانت أخلاقها ـ أنّ أهلها قصّروا في تربيتها وتركوها وحيدة ضد نقاط ضعفها في وسط فاسد!.. وأنا لا يسعدني أن أصاهر أناسا بهذه الاستهانة!

أمر آخر تأكّدت منه ـ ولم أكن في حاجة لتأكيده! ـ هو أن العلمانيين قد فهموها جيدا:

وفّر ظروف الفساد، والباقي مسألة وقت!

إنهم يعرفون جيدا نقاط الضعف الإنساني!



لهذا أقول لكم: منحدر الألف تنازل يبدأ بخطوة..

لقد سبق أن شبّهتُ هذا برصّة دومينو تسلسليّة.. حيث يؤدي سقوط أول قطعة، لسقوط باقي القطع.. لا محالة.
1
504

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

الفضاء الرحيب
للرفع.