من الذي يروّج لهذه التجارة القاتلة؟

لو تحّدثت عن الجرائم الطبية التي ترتكب باسم الخلطات السرية والتطبب الشعبي في المملكة لكتبت مجلدات من القضايا التي تتألم لها القلوب.. امرأة لديها أكزيما خفيفة ولكنها تحتاج طبياً إلى فترة علاج طويلة متدرجة، ولكنها استعجلت النتائج فذهبت لأحد الدجالين واشترت كريماً خاصاً أذهب عنها الأكزيما في يومين فقط!! ولكن بعد أسبوعين اكتشفت جفافاً وتشققاً بالجلد وبوادر سرطان الجلد، بعد أن أحضرت العينة للتحليل ثبت أن الذي صنع الخلطة السرية وضع نسبة عالية من الهيدروكورتيزون المسرطن تفوق المسموح به دولياً بأحد عشر ضعفاً!! ورجل اشترى أعشاب لعلاج السكر وحصل لديه مضاعفات طبية سيئة كادت أن تودي بحياته، ووصلت به على حد الإغماء بسبب انخفاض السكر بدرجة شديدة وجاء إلى غرفة الطوارئ بحالة مزرية، وبعد أن أحضر العينة وجد الباحثون أن صانع تلكم الخلطة قد اشترى حبوب خفض السّكر الدوائية التي تباع في الصيدلية وقام بطحنها مع بعض البرسيم لكي يوهم المريض أنها علاج عشبي، ويبيعها بأضعاف سعرها بالصيدليات.

شاب لديه بهاق من الدرجة الخفيفة ويمكن التعامل معه طبياً عبر أدوية متاحة طبياً وقد تمت دراسة هذه الأدوية وأثبتت الدراسات أن مخاطرها خفيفة جداً، ولكن هذا الشاب تجاهل كلام الطبيب، وبناء على إشاعة شعبية لجأ إلى خلطة سرية (مجهولة) تباع لدى بعض أدعياء الطب الشعبي، وكانت تحوي السموم وبعد أشهر من استخدام تلك الخلطة تحّول البهاق إلى سرطان جلدي (وقد يكون السبب استخدام تلك الخلطات المجهولة).. وشابة أرادت تبييض بشرتها فلجأت إلى كريم مجهول الهوية يباع بواسطة إحدى الآسيويات بطريقة سرية تشبه بيع المخّدرات وسعر العبوة خمسمائة ريال!! فقط لا غير، وبعد سنة ونصف السنة جاءت الفتاة إلى عيادة الجلدية ولديها تبّقع شديد ومشوّه للجلد وتجمعات نسيجية تشبه الكتل الورمية وتدمير كامل لطبقة الكولاجين، ولا زالت تعاني من تلك الحالة رغم العمليات التجميلية المتكررة والمعاناة النفسية والتوتر والقلق والخسائر المادية، وقد أحضرت عيّنة من تلك الخلطة فوجد الباحثون أن تلك الخلطة تحوي على بعض المبيّضات الخطيرة والممنوعة دولياً بسبب سمّيتها واحتمال كونها مسرطنة, وغالباً ما تحتوي معظم كريمات تفتيح البشرة التجارية على مواد معدنية ثقيلة كالزئبق الذي يتسبب في الفشل الكلوي والكبدي وكذلك التأثير العصبي وهشاشة العظام وتدمير بعض الخلايا الهامة بالجسم واحتمال حدوث السرطان بعد عدة سنين من الاستخدام, ففي دراسة للزميلة إيمان الصالح الباحثة في مركز الأبحاث بمستشفى الملك فيصل التخصصي ثبت أن أكثر من 60% من كريمات تفتيح البشرة الموجودة بالأسواق حالياً تحتوي على نسب عالية جداً من الزئبق تفوق الحد المسموح به صحياً.

وهناك بدائل للزئبق وهي الهايدروكوينون وهو أخطر من الزئبق لأنه من المواد المسرطنة ولا يسمح بوضعه إلا في حدود قليلة مدروسة طبياً.. وقد تم منعه حديثاً في بعض الدول الأوروبية لثبوت خطورته على الصحة العامة، ويقوم الهايدروكوينون بمنع صبغة طبيعية بالجسم وهي الميلانين، لكي تبيّض البشرة بسبب منع هذه الصبغات وبالتالي يكون الجلد أكثر حساسية للضوء لأن صبغة الميلامين وضعها الله في الجلد لكي تمنع سرطان الجلد، وعند إزالتها تزداد خطورة الإصابة بسرطان الجلد، ويكون مفعولها عكسياً بعد فترة من الاستخدام، وللأسف تروج تجارة تفتيح البشرة وما يكتنفها من سموم ومسرطنات بعيداً عن رقابة الجهات الرسمية، فمن المسؤول؟.. أعتقد أن المسؤول بصفة مباشرة هو المواطن والمواطنة الذين يتعاملون مع هؤلاء الدجالين ويدفعون لهم الأموال بسبب الجهل أو الأمل الوهمي ببعض الصفات العلاجية. ويتم ترويج الكثير من السموم لأغراض طبية، فهذا دجال آخر يعلن أن لديه علاجاً للسرطان 100% (وكأن السرطان ميكروب صغير سيقضي عليه بجرعة واحدة من خلطة سامة) فيتراكض المحبطون واليائسون فيدفعون الأموال لهذا الدجال، وتسجل عيادات الأورام الكثير المضاعفات لدى مرضى السرطان من حالات الفشل الكلوي وتسمم الدم وتدمير الكبد بسبب تلك الخلطات العلاجية المجهولة, ورغم أن بعض حالات السرطان قابلة للشفاء بإذن الله بموجب الأدوية المتوفرة من علاج جراحي وكيميائي وإشعاعي وهرموني وحيوي... إلخ، وهي أدوية ثبت نجاحها مع بعض الأورام (حسب نوع الورم وموقعه ومرحلة المرض وحالة المريض.. إلخ من العوامل المحيطة بالسرطان)، إلا أن الوهم وتهاون المرضى روّج لسوق الدجالين والمتاجرين بالصحة فراح المواطن يدفع للكذابين لكي يقتلوه!! اليس هذا قتل للنفس؟ وهناك من يروّج لأدوية النشاط الجنسي وهي سوق رائجة تكثر في الدول التي يزداد فيها الجهل مثل إفريقيا (وهي مصدر للكثير من تلك الأعشاب الوهمية السامة) وقد يكون لأحد تلك الأدوية مفعول وقتي سريع ولكن الأخطر هو المضاعفات التي تعقب استخدام تلك الأدوية من تدمير مستديم للقوى الطبيعية بالجسم وكذا التأثير العصبي والسمي لهذه الأدوية على المدى المتوسط والطويل منها العقم ومنها المشاكل العصبية, وهناك الترويج لأدوية علاج العقم وعلاج السحر وعلاج ال..... كل شيء عندهم له علاج، بل إن أحدهم وضع خلطة واحدة لجميع الأمراض!! وهي خلطة لم يجر عليها أي بحث أودراسة طبية، ومن المعروف أن الدراسات البحثية والطبية تستغرق وقتاً طويلاً بدأ من الدراسات الكيميائية وتحليل المواد ثم تجربة تلك المواد على الميكروبات أولاً ثم الأنسجة ثم حيوانات التجارب وبعد أن يثبت سلامتها وعدم وجود السموم فيها، تبدأ تجربة الدواء على خلايا الإنسان أولاً ثم الأنسجة ثم تجارب محدودة على فئة من المتطوعين تحت إشراف طبي دقيق وصارم بضوابط أخلاقية ومهنية.

ثم تطرح للجميع، وتستغرق تلك الدراسات خمس سنوات أوأكثر لكي تصل إلى النتيجة النهائية، ولا ننسى أن بعض المواد تكون سامة خارج الجسم ولكن طريقة الجسم في التعامل معها تبطل مفعولها السام، وبالعكس قد يكون هناك مواد آمنة ولكن عندما تدخل الجسم تتغير بسبب الأيض والاستقلاب الهضمي، لذا لابد أن تجري تلك البحوث في منظومة متكاملة وننتظر هيئة الغذاء والدواء السعودية لتقوم بدورها في هذا المجال.

ولابد من الإشارة إلى أن صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز قد كوّن لجنة خاصة للطب الشعبي والأعشاب تقوم بالتدقيق واستقبال الشكاوى والملاحظات التي ترد للإمارة عن هؤلاء الدجالين، وهذه بادرة جميلة وجهد رائع لا يستغرب من سمو الأمير سلمان، ولكن يجب علينا جميعاً مواطنين ومسؤولين التعاون مع هذه اللجنة وتحقيق أهدافها عبر التبليغ عن هؤلاء الدجالين، وكذا التعاون مع هذه اللجنة لما فيه مصلحة الوطن والمواطنين، فالذي مر بتجربة سلبية مع هؤلاء الدجالين يجب عليه احتساب الأجر لكي لا يقع مواطن آخر في فخ هؤلاء الدجالين فيقوم بالتبليغ لكف شر هؤلاء عن بقية المجتمع.

وأود الإشارة إلى أنه ورغم وجود اللجان والجهات الرسمية والتوعوية إلا أن العامل الرئيسي في منع هذه السموم والأدوية القاتلة هو وعي المواطن أولاً وثقافته وأن لا يكون إمعة وسوقاً رائجة لهذه الإشاعات والتجارة السامة وأكل أموال الناس بالباطل.

وعندما يهتم المواطن بصحته عبر الطرق الرسمية المأمونة ولا يلتفت لتلك الإشاعات والتجارة القاتلة فإن المرحلة الثانية هي الإبلاغ عن هؤلاء الدجالين والتعاون مع الجهات الرسمية للقضاء على هذه التجارة القاتلة.

ولنا أن نتسائل مجدداً: من الذي يرّوج ويشجع هذه التجارة القاتلة؟ أليس أنت أيها الزبون؟.

(*) مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث