سبحان الله الواحد القهار، القويّ العزيز الملك الجبار، أتى أمره فداهم السيلالناس، وفي سُويعات تحوّلت جِدّة التي تشكو شُحّ الأمطار وقِلّة المياه، إلىطوفان جارف!! إلى سيل جرار!! يكتسح ما أمامه، ويبتلع في جوفه ما يأتي عليه، حتى أضحىكارثة مؤلمة، ومأساة حقيقية، ستبقى ماثلة في ذاكرة كثير من الناس..
إنّ مِثْل هذه الآيات الكونية العظيمة لابد أن يكون للمؤمن معها وَقَفَات وتفكّر واعْتبار..وهذا مِن سِمَات أولي الألباب والمتقين الأخيار .
والمؤمن البصير يقف عند مواقعالعِبَر، وأحكام القدر، ينظر ويتدبّر .
كل شيء بقدر الله، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وليس ثَمّة شيءٌ يحول دون نفوذ قدر الله في خلقه سبحانه وتعالى، وبذا يطمئن قلب المؤمن الموحِّد؛ لأن أمر الله سبق، ومشيئته نفذت .
قالالله تعالى: { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَمَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون} .
وقال سبحانه : {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِيكِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.
لله الحكمة البالغة، فتقديره سبحانه مَبْنِيٌّ على حِكْمته وعدله، ذلكتقدير العزيز العليم، ولا يخرج شيء في الكون عن مقتضى هذه الحكمة .
ومن حِكْمتهسبحانه: جعل المصائب والكوارث سبباً للاتعاظ والتذكر والرجوع إليه {فَأَخَذْنَاهُمْبِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}.
كل شيء مسخربأمره ،فإذا قال لها أمطري، أمطرت، وإذا أمر الماء، اجتمع وسال، فالتقى الماء علىأمر قد قُدِر، والضرّ والنفع بيده سبحانه، وما يجري من سيول وزلازل وبراكين وسائرجنوده ، إنما هو بأمره وقدره لحكمة يريدها .
أنقل إليكم صورا من قلب الحدث (سيل جدة ) التي شاء الله أن نعايشها.. و نحن نتذكر السيل الماضي ولم نشاهده عيانًا، بل نقل إلينا، فها نحن نعيش الحدث!
>
>
>
ذهبنا صباحًا -كالمعتاد- للدوام في المدرسة، وفي الساعة الحادية عشرة إلا ربع بدأ المطر ينهمر خفيفًا، فرحنا به وسعدنا!
وبعده بِرُبْع ساعة تقريبًا في حدود الساعة الحادية عشرة تمامًا بدأ المطر يشتدّ غزارةً وبقوة إلى الساعة 3 ظهرا في انهمار متواصل!
بدأ منسوب المياه يرتفع تدريجيًّا.. الطابق السفلي من فصول و إدارة والساحات امتلأت بالماء، فاضطررنا إلى الصعود للطابق الأول والثاني
والحمد لله الكل بخير والمعنويات كانت ولله الحمد عالية بفضل من الله وحده .
احتُجِزنا بالمياه، من فوقنا ومن تحتنا، القلوب أصبحت تلهج بسؤال الله، والتضرع إليه ودعائه "اللهم حولينا ولا علينا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق، اللهم ألطف بنا وارحمنا وأخرجنا سالمين ، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم"...
فالحمد لله وحده، والفضل له لا غيره الذي ربط على قلوب الصغيرات من الطالبات، أنظر إليهنّ وأتأمّل، مجموعة يلعبن مع بعضهن.. والأخريات ينظرن من النافذة للمطر فرحات.. والبعض الآخر قد وضعن رؤوسهن للنوم والراحة استسلمن، وقمن المعلمات برعايتهن.. فاللهم احفظهم ورعاهم.
- إحدى الطالبات في الصف الأول الابتدائي أصرّت إلى الذهاب للأسفل لترى منسوب المياه، أُمسك بها لأمنعها، خشيتُ أن يصيبها الخوف والذعر إن رأت كثرة المياه! لكن حصل خلاف ما كنت أتوقع!! فأُفلتت من يدي وأخذت تقفز هي وزميلتها على الدرج.. وبسرعة.. ونظرتْ من بُعد إلى الماء وقالت: "الحمد لله قلّ الماء إن شاء الله سنخرج من هنا"، ورجعت تلعب مع زميلاتها بكل حماس!
جاء المساء وبدأت إحدى المعلمات بتلقينهن أذكار المساء يرددن خلفها، منظرٌ جميل يبهج القلب ويدخل الفرح والسرور مع أصواتهن البريئة الندية تردد وترتفع بذكر الله مع ما نحن فيه من الأجواء المخيفة، أُردد في صمت:
اللهم أخرجهم من هنا سالمين آمنين، وحفّهم برحمتك يا رب العالمين .
- ذهبت إلى طالبات المتوسط والثانوي أسمع إحدى المعلمات -بارك الله فيها- تذكرهنّ باللجوء إلى الله وحده فلا منجي غيره، وأراهنّ يؤدّين الصلاة، فقلت في نفسي:
في أصعب اللحظات، وأحلك الساعات، يحتاج المرء إلى من يذكره بالله، ويربط على قلبه
فإن رزقك الله من يبصرك وإلى طريق الحق يرشدك، فاعلم أنه من نِعم الله عليك ، يستحق منك أن تشكره.
- نظرت من النافذة لأرى فناء المدرسة وقد غطى أكثره الماء ولم يبقى إلا رُبعه! فهالني منظره، وتذكرت المكتبة وكيف حالها!! وقد كان آخر عهدي بها قبل هطول الأمطار، نرفع الكتب من الرف الأسفل إلى الأعلى كي لا يصلها الماء، خرجنا مسرعين منها عندما بدأ الماء يدخل بها وبقوة ، كي لا نغرق هناك، خرجنا واستودعناها الله... وقلوبنا تعتصر ألماً لفراقها!
اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على ما أصابنا لمحزونون .
- دخل الليل وبدأ الظلام، والكهرباء منقطعة، نسير في الممرات والظلام حالِك، أخذنا نبحث عن بصيص نور مِن شمعة! فيا ترى كيف حالنا يوم القيامة؟!! وإذا وضعنا في قبورنا! وسِرْنا على الصراط والظلام دامس!!
وجدتُ شمعتان واحدة وضعتها في غرفة الطالبات الكبيرات، والأخرى في غرفة الصغيرات، فرح الطالبات بضوئها وإن كان ضعيفًا! وأكملن ينظرن من النافذة إلى المياه التي تملأ الشوارع، فالحمد لله وحده الذي آمنهم من خوف، وطمأن قلوبهن.
- بدأ منسوب المياه يقل تدريجيا والفضل لله وحده، و في الساعة الثامنة ليلاً جاء الدفاع المدني وأرسل إلينا بالطعام -فجزاهم الله خيرا-.
- وبعده بنصف ساعة بدأ يأخذ الطالبات والمعلمات في سيارته الكبيرة إلى إحدى الفنادق، ليكن في مكان آمِن ويتمكن الأهالي من أخذهن .
فالحمد لله وحده الذي يسّر خروجنا سالمين جميعًا، وبكامل حجابنا وستر علينا، فاللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك .
شعرت يوم الحدث كأننا كالجسد الواحد، كل واحد تسأل عن الأخرى ، من لم تتمكن الذهاب إلى بيتها لانقطاع الطرق استضافتها إحدى الأخوات ، فاستشعرت قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْوَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُسَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))
فهذا وحده من نِعم الله علينا، يستحق منا مزيدا من الشكر ، أن سخر لنا أناس يشدون من أزرنا ، يذكرونا، يعينونا ، يقفون بجانبنا في أصعب اللحظات التي تمر بنا ، فالمؤمن يتألم لألم إخوانه .
- مِن الدروس المستفادة لمن رزقه الله تأمّلاً وفهمًا إذا نظر إلى ما أصاب الناس أن ينطقبقلبه قبل لسانه: الحمد لله الذي عافاني ويستحضر تفضيل الله له.
فإذا نظرفيمن ذهبت أسرته استحضر نعمة الله عليه بحفظ أهله له .
وإذا شاهد صور تلفالأموال والممتلكات انتقل من هذه الصورة إلى معاينة نعمة الله عليه بحفظها له .
وإذا نظر إلى مصائب الآخرين الكثيرة هانت عليه مصائبه الصغيرة، فامتلأقلبه بحمد الله، ولهج لسانه بشكره سبحانه، واستحيت جوارحه من أن تعصي هذا المنعمالكريم، أو أن تقصر في شيء من حقوقه سبحانه.
وكما قال شيخ الإسلام رحمهالله: "مصيبة تقبل بها على الله ، خير لك من نعمة تنسيك ذكر الله".
في كل زاوية من الزوايا عبرة لمن اعتبر، وتبصرة لمن كان له قلب واذّكر .
سطر قلمي بعض تلك الصور .
{إن في ذلك لذكرى لمن كان له فلب أو ألقى السمع وهو شهيد }.
فيا أهل جدة مُصابكم جلل، وهولكم عَظُم ، فصبرا صبرا .
وإن انقطعت كل السبل ، و ذهبت بكم الأسباب ، فلا يبقى إلا حبل الله المتين والركن الشديد ، فلا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه ، ولا نرجو إلا سواه ، إن ربي لطيف لما يشاء.
كان الحدث اختبارا لنا بل لقلوبنا ، في توحيدنا وتثقتنا وصبرنا وحسن ظننا بالله ، فهل نجحنا في الاختبار ؟
اللهم أريتنا قدرتك ، آمنا بك وبرسلك ، فعفوك وواسع رحمتك .
كتبته: إحدى المعلِّمات التي كانت في الحَدَث -بارك الله فيها-..
بعد أحداث سيول جدة يوم الأربعاء 22/ 2/ 1432
سبحان الله العظيم