
fraternity88 @fraternity88
عضوة فعالة
من كتاب التبيان في أقسام القرآن لابن القيم10
فصل ولنرجع إلى المقصود ثم قال الله تعالى ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) أما الرزق ففسر بالمطر وفسر بالجنة وفسر برزق الدنيا والآخرة ولا ريب أن المطر من الرحمة وأن الجنة مستقر الرحمة فرزق الدارين في السماء التي هي في العلو وقوله تعالى وما توعدون قال عطاء رضي الله عنه من الثواب والعقاب وقال الكلبي من الخير والشر وقال مجاهد من الجنة والنار وقال ابن سيرين من أمر الساعة
قلت كون الجنة والخير في السماء فلا إشكال فيه وكون النار في السماء وما يوعد به أهلها يحتاج إلى تبيين فإذا نظرت إلى أسباب الخير والشر وأسباب دخول الجنة والنار وافتراق الناس وانقسامهم إلى شقي وسعيد وجدت ذلك كله بقضاء الله وقدره النازل من السماء وذلك كله مثبت في السماء في صحف الملائكة وفي اللوح المحفوظ قبل العمل وبعده فالأمر كله من السماء وقول من قال من أمر الساعة يكشف عن هذا المعنى فإن أمر الساعة يأتي من السماء وهو الموعود بها فالجنة والنار الغاية التي لأجلها قامت الساعة فصح كل ما قال السلف في ذلك والله أعلم
فصل ثم أقسم سبحانه أعظم قسم بأعظم مقسم به على أجل مقسم عليه وأكد الأخبار بهذا القسم ثم أكد بتشبيهه بالأمر المحقق الذي لا يشك فيه ذو حاسة سليمة فقال ( فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ) قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد إنه لحق واقع كما أنكم تنطقون وقال الفراء إنه لحق كما أن الآدمي ناطق وقال الزجاج هذا كما تقول في الكلام إن هذا لحق كما أنك ههنا
والعجب كل العجب من غفلة من تعد علمه لحظاته وتحصى عليه أنفاسه ومطايا الليل والنهار تسرع به ولا يتفكر إلى أين يحمل ولا إلى أي منزل ينقل
عن الأوزاعي قال كان السلف إذا طلع الفجر أو قبله كأنما على رؤسهم الطير مقبلين على أنفسهم حتى لو أن حبيبا لأحدهما غاب عنه حينا ثم قدم لما التفت إليه فلا يزالون كذلك إلى طلوع الشمس ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتخلفون بأول ما يقتضون فيه أمر معادهم وما هم صائرون إليه ثم يأخذون في الفقه
فصل ومن ذلك قوله تعالى ( ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب ) الصحيح أن ق ون وص بمنزلة حم وألم وطس تلك حروف مفرد وهذه متعددة وقد تقدمت الإشارة إلى بعض ما فيها قبل.
وههنا قد اتحد المقسم به والمقسم عليه وهو القرآن فأقسم بالقرآن على ثبوته وصدقه وأنه حق من عنده ولذلك حذف الجواب ولم يصرح به لما في القسم من الدلالة عليه أو لأن المقصود نفس المقسم به كما تقدم بيانه ثم أخذ سبحانه في بيان عجب الكفار من غير عجيب بل بما لا ينبغي أن يقع سواه
كما قال سبحانه ( ألر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان الناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ) فأي عجب من هذا حتى يقول الكافرون ( إن هذا لسحر مبين ) وكيف يتعجب من رحمة الخالق عباده وهدايته وإنعامه عليهم بتعريفهم على لسان رسوله بطريق الخير والشر وما هم صائرون إليه بعد الموت وأمرهم ونهيهم حتى يقابل ذلك بالتعجب ونسبة ما جاء به إلى السحر لولا غاية الجهل والظلم وإن العجب كل العجب قولهم وتكذيبهم كما قال تعالى ( وإن تعجب فعجب قولهم )
فصل ومن ذلك ( حم والكتاب المبين ) وقوله ( ص والقرآن ذي الذكر ) وقوله ( يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين ) والصحيح أن يس بمنزلة حم والم ليست أسماء من أسماء النبي .
وأقسم سبحانه بكتابه على صدق رسوله وصحة نبوته ورسالته فتأمل قدر المقسم به والمقسم عليه وقوله تعالى ( على صراط مستقيم ) وجوز فيه ثلاثة أن يكون خبرا بعد خبر فأخبر عنه بأنه رسوله وأنه على صراط مستقيم وأن يكون متعلقا بالخبر نفسه أي أرسلتك على صراط وهذا يحتاج إلى بيان تقدير المجعولين على صراط مستقيم وكونه من المرسلين مستلزم لذلك فاستغنى عن ذكره
فصل ومن ذلك قوله تعالى ( والصافات صفا ) أقسم سبحانه بملائكته الصافات للعبودية بين يديه كما قال النبي لأصحابه ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها تتمون الصفوف الأول وتراصون في الصف وكما قالوا عن أنفسهم ( وإنا لنحن الصافون ) والملائكة الصافات أجنحتها في الهواء التبيان في أقسام القرآن
والزاجرات الملائكة التي تزجر السحاب وغيره بأمر الله ( فالتاليات ) التي تتلو لكلام الله وقيل الصافات الطير كما قال تعالى ( أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ) وقال تعالى ( والطير صافات ) والزاجرات الآيات والكلمات الزاجرات عن معاصي الله والتاليات الجامعات لكتاب الله تعالى وقيل الصافات القتال في سبيله فالزاجرات الخيل للحمل على أعدائه فالتاليات الذاكرين له عند ملاقاة عدوهم وقيل الجامعات الصافات أبدانها في الصلاة الزاجرات أنفسها عن معاصي الله فالتاليات آياته واللفظ يحتمل ذلك كله وإن كان أحق من دخل فيه وأولى الملائكة
وأقسم سبحانه بذلك على توحيد ربوبيته وإلهيته وقرر توحيد ربوبيته فقال ( إن إلهكم لواحد رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق ) من أعظم الأدلة على أنه إله واحد ولو كان معه إله آخر لكان الاله مشاركا له في ربوبيته كما شاركه في إلهيته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذه قاعدة القرآن يقرر توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية فيقرر كونه معبودا وحده بكونه خالقا رازقا وحده وخص المشارق ههنا بالذكر إما لدلالتها على المغارب وإما لكون المشارق مطلع الكواكب ومظاهر الأنوار وإما توطئة لما ذكر بعدها من تزيين السماء بزينة الكواكب وجعلها حفظا من كل شيطان.
فصل ومن ذلك قوله في قصة لوط عليه السلام ومراجعته قومه له ( قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك أنهم لفي سكرتهم يعمهون ) أكثر المفسرين من السلف والخلف بل لا يعرف عن السلف فيه إلا نزاعا أن هذا قسم من الله بحياة رسوله وهذا
من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته وهذه مزية لا تعرف لغيره ولم يوافق الزمخشري على ذلك فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط وأنه من قول الملائكة فقال هو على إرادة القول أي قالت الملائكة للوط عليه الصلاة والسلام لعمرك أنهم في سكرتهم يعمهون وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين بل ظاهر اللفظ وسياقه أنما يدل على ما فهمه السلف لا أهل التعطيل والاعتزال قال ابن عباس رضي الله عنهما لعمرك أي وحياتك قال وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره والعمر والعمر واحد إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لاثبات الأخف لكثرة دوران الحلف على ألسنتهم وأيضا فإن العمر حياة مخصوصة فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم
وقوله تعالى ( يعمهون ) أي يتحيرون وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة لأن سكرة العشق مثل سكرة الخمرة
فصل ومن ذلك قوله تعالى ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسما مؤكدا بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج وهو ضيق الصدر وتنشرح صدورهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض والتسليم أخص من انتفاء الحرج
وعند هذا يعلم أن الرب تبارك وتعالى أقسم على انتفاء إيمان أكثر الخلق والحمد لله رب العالمين
2
389
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

الصفحة الأخيرة
وجعل العسير برحمة عليكِ يسراً والحزن فرحاً
والضيق فرجاً والرزق رغداً والعيش هيناً
والجنة موعداً مع الصدقين والشهداء
وجميع المسلمين
عزيزتي ممكن تكبير حجم الخط:)