من كتاب القول المفيد على كتاب التوحيد

ملتقى الإيمان

باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
· مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد :

أن الأقتناع بالحلف بالله من تعظيم الله ، لأن الحالف أكد ما حلف عليه بالتعظيم باليمين وهو تعظيم المحلوف به ، فيكون من تعظيم المحلوف به أن يصدق ذلك الحالف ، وعلى هذا يكون عدم الاقتناع بالحلف بالله فيه شيء من نقص تعظيم الله ، وهذا ينافي كمال التوحيد ، والأقتناع بالحلف بالله لا يخلو من أمرين :

الأول : أن يكون ذلك من الناحية الشرعية ، فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعي عليه فحلف ، فيجب الرضا بهذا اليمين بمقتضي الحكم الشرعي .

الثاني : أن يكون ذلك من الناحية الحسية ، فإن كان الحالف موضع صدق وثقة ، فإنك ترضي بيمينة ، وإن كان غير ذلك ، فلك أن ترفض الرضا بيمينه ، ولهذا لما قال النبي r لحويصة ومحيصة : " تبرئكم يهود بخمسين يميناً . قالوا : كيف نرضي يا رسول الله بأيمان اليهود ؟ " (1). فأقرهم النبي r على ذلك .

عن ابن عمر ، أن رسول الله r قال : " لا تحلفوا بآبائكم ، من حلف بالله ؛ فليصدق ، ومن حلف له بالله ؛ فليرض ، ومن لم يرض ، فليس من الله " . رواه ابن ماجه بسند حسن (2).

قوله في الحديث : " لا تحلفوا " . " لا " ، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون ، وآباؤكم " : جمع أب ، ويشمل الأب والجد ، وإن علا فلا يجوز الحلف بهم ، لأنه شرك ، وقد سبق بيانه.

قوله r : " من حلف بالله ؛ فليصدق ، ومن حلف له بالله ، فليرض " . هنا أمران :

الأمر الأول : للحالف ؛ فقد أُمر أن يكون صادقاً ، والصدق : هو الإخبار بما يطابق الواقع ، وضده الكذب ، وهو : الإخبار بما يخالف الواقع ، فقوله " من حلف بالله ، فليصدق " ، أي : فليكن صادقاً في يمينه ، وهل يشترط أن يكون مطابقاً للواقع أو يكفي الظن ؟

الجواب : يكفي الظن ؛ فله أن يحلف على ما يغلب على ظنه ؛ كقول الرجل للنبي r : والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني . فأقره النبي r .

الثاني : للمحلوف له ، فقد أمر أن يرضي بيمين الحالف له .

فإذا قرنت هذين الأمرين بعضهما ببعض ، فإن الأمر الثاني يُنَزّل على ما إذا كان الحالف صادقاً ؛ لأن الحديث جمع أمرين : أمراً موجهاً للحالف ، وأمراً موجها للمحلوف له ، فإذا كان الحالف صادقاً ؛ وجب على المحلوف له الرضا .

فإن قيل : إن كان صادقاً فإننا نصدقه وإن لم يحلف ؟

أُجيب : أن اليمين تزيده توكيداً .

قوله : "ومن " لم يرض ، فليس من الله " . أي : من لم يرض بالحلف بالله إذا حلف له ؛ فليس من الله ، وهذا تبرؤ منه يدل على أن عدم الرضا من كبائر الذنوب ، ولكن لا بد من ملاحظة ما سبق ، وقد أشرنا أن في حديث القسامة دليلاً على أنه إذا كان الحالف غير ثقة ؛ فلك أن ترفض الرضا به ؛ لأنه غير ثقة ، فلو أن أحداً حلف لك ، وقال : الله ؛ إن هذه الحقيبة من خشب . وهي من جلد ، فيجوز أن لا ترضي به لأنك قاطع بكذبه ، والشرع لا يأمر بشيء يُخالف الحس والواقع ، بل لا يأمر إلا بشيء يستحسنه العقل ويشهد له بالصحة والحسن ، وإن كان العقل لا يدرك أحياناً مدى حسن هذا الشيء الذي أمر به الشرع ، ولكن ليعلم علم اليقين أن الشرع لا يأمر إلا بما هو حسن ، لأن الله تعالى يقول : ) ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ( ، فإذا اشتبه عليك حُسن شيء / من أحكام الشرع ؛ فاتهم نفسك بالقصور أو بالتقصير ، أما أن تتهم الشرع ، فهذا لا يمكن ، وما صح عن الله ورسوله ، فهو حق وهو أحسن الأحكام .

· فيه مسائل

الأولى : النهي عن الحلف بالآباء . الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضي . الثالثة : وعيد من لم يرض .

· فيه مسائل

· الأولى : النهي عن الحلف بالآباء . لقوله " لا تحلفوا بآبائكم " ، والنهي للتحريم .

· الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضي . لقوله : " ومن حلف له بالله ، فليرض" ، وسبق التفصيل في ذلك .

· الثالثة : وعيد من لم يرض . لقوله : " ومن لم يرض ، فليس من الله " .

· الرابعة : ولم يذكرها المؤلف أمر الحالف أن يصدق لأن الصدق واجب في غير اليمين ، فكيف باليمين ؟ !

وقد سبق أن من حلف على يمين كاذبة أنه آثم ، وقال بعض العلماء : أنها اليمين الغموس.

وأما بالنسبة للمحلوف له ، فهل يلزمه أن يصدق أم لا ؟

المسألة لا تخلو من أحوال خمس :

الأولى : أن يُعلم كذبه ؛ فلا أحد يقول : إنه يلزم تصديقه .

الثانية : أن يترجح كذبه ؛ فكذلك لا يلزم تصديقه .

الثالثة : أن يتساوي الأمران ؛ فهذا يجب تصديقه .

الرابعة : أن يترجع صدقه ، فيجب أن يصدق .

الخامسة : أن يعلم صدقه ؛ فيجب أن يصدقه .

وهذا في الأمور الحسية ، أما الأمور الشرعية في باب التحاكم ، فيجب أن يرضي باليمين ويلتزم بمقتضاها ،لأن هذا من باب الرضا بالحكم الشرعي ، وهو واجب .





--------------------------------------------------------------------------------

(1) البخاري : كتاب الأدب / باب إكرام الكبير ، ومسلم : كتاب القسامة ، باب القسامة .

(2) ابن ماجة : كتاب الكفارات / باب من حلف له بالله فليرض ، وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ( 2/143) : " هذا إسناد صحيح ، رجاله ثقاة " ، وقاله ابن حجر في " الفتح " (11/535) : " سنده حسن
1
547

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

( شـــذراتـ الـذهـبـ)
الله يعطيك العافيه