منذ زمن لم أقرأ قصيدة لشاعر يتغنى بالقمر ليلة البدر أو يتذكر "سويعات" الأصيل، ولا أحد اليوم يشبِّه من يحب بالظبي أو الغزال أو "عسيفٍ من الخيل" أو يناجي طيفه ويشكو طول السهر بسببه. نحن الآن نسهر الليالي الطوال من دون سبب، بوجود المحبوب أو "قلعته"، فكيف لنا أن نشتاق وصور المحبوب "قائماً وقاعداً وعلى جنب" تملأ أجهزتنا، والمسافة بيننا لا تتعدى رسالة "واتس آب" فورية، وإذا تحسنت الظروف "وكثيراً ما تتحسن" مكالمة مرئية أو صوتية، ولو كان المحبوب في جزيرة نائية وسط المحيط؟!.. اليوم لا تحس الأُسر بفقد أبنائها المبتعثين في شتى بقاع الأرض؛ فهم متصلون بهم بالصوت والصورة، ويعرفون تحركاتهم أكثر مما يعرفون عن أبنائهم في المنزل، الذين يرونهم بأعينهم، بينما هم يعيشون في عالم آخر.
مفردات كثيرة خرجت من قاموس أدبياتنا، وممارسات كثيرة ودّعناها إلى غير رجعة، وقلة من "الطيبين اللي راحوا" الآن يهدي من يحب "وردة" أو حتى كتاباً أو مطوية أو شريطاً إسلامياً كان أو خلافه، فنحن الآن نتهادى آلاف المقاطع "طيبها ورديئها"، ونرسلها "برودكاست" لمن نحب ولمن نكره، لمن نعرف أو لا نعرف، فيما تضم أجهزتنا "قروب" وحيداً، نظهر خلاله بقناعنا المزيّف، والعديد من "قروبات 18" تظهر فيها وجوهنا الحقيقية، والأكيد أنه لم يعد هناك معنى للشوق والوله والانتظار والذكرى والحنين والسهر... إلخ، ولم يعد هناك أي داعٍ لكتابة أو الاستماع إلى قصيدة أو قصة أو حتى خطبة ومحاضرة، في الوقت الذي أصبح فيه من الصعب علينا التركيز لقراءة نص يزيد على "140" حرفاً، أو متابعة فيديو يتعدى "36" ثانية.
الكثير ممن كنا نعتقد أنهم رموزنا الدينية والعلمية والأدبية والاجتماعية هجروا منابرهم ومحاريبهم ومكتباتهم، وأعرضوا عن أبحاثهم وخطبهم وتحقيقاتهم، واستقروا في "التويتر" وهم يتباهون بعدد "المتابعين"، يَحسَبونهم "أتباعاً"، وشتان بين هذا وذاك. والمضحك أنهم يعتقدون أنهم يقودوننا بينما هم في طليعة المنقادين
ماذا فعلت بنا التقنية؟
بالتأكيد أنها أفادتنا وسهَّلت الكثير من أمور حياتنا، ومخطئ بل مُتجنٍّ من يقول عكس ذلك.
ولكن..
التقنية.. قتلت المشاعر، وجففت الدموع، وأحرقت المتعة، وقسّت القلوب، وفضحت المستور.
التقنية.. قلبت الموازين، وألغت الاحترام، ودمرت الشخصيات، وألغت الرموز.
التقنية.. أفسدت اجتماعاتنا، وأشغلت مجالسنا، وقللت حاجاتنا لبعضنا، وفرّقت الأسرة في البيت الواحد.
كل ذلك مهم، ولكن الأهم أن التقنية فرضت علينا التمرد عن الانقياد لأي بشر، وكسْر كل القيود، وفي الوقت الذي أقنَعَتْ كلاً منا بأنه مشروع قائد بدأت تقودنا "بنواصينا" وبسرعة إلى ما لا نعلم "أين وكيف ومتى"، وننقاد بطواعية عجيبة كما لم ننقد لأحد من قبل.
السؤال: إلى أين تقودنا التقنية؟؟ يكذب من يقول إنه يعرف.
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
شكراً صاحبت الموضع