إلهي : لقد أسبغت علينا فيض كرمك بهذا الشهر العظيم
وغمرتنا ببهائه ، ونور إنعامك به علينا
فاحيي قلوبنا الذابلة فيه بطاعتك وقرآنك ..
لتسترد رونقها ونضرتها وصفاءها،
وتجلو عن مرآتها ماشابها من كدر،
ولا تجعلنا ياربنا من ضحايا الأهواء والأوهام
بالأقدار التي تقدّرها في ليلة القدر تقديراً.
حياك شهر رمضان :
مرحباً بشهر الخير التام ، ومشرق أنوار القرآن ، وشذى نفح الجنان،
مرحباً واحة الاسترواح في صحراء العام،
وزادالأرواح بالصلاة والصيام ، والركوع والسجود والقيام.
مرحباً بشهرٍ يحقق تهذيب النفوس وعجنها بماء الطاعة والإذعان ،
ويبعدها عن مواطن التدنس برجس العصيان،
ويطهرها من غلّ الحقد والحسد والبغض والانتقام،
ويشفي الضمائر من شتّى الأمراض والأسقام .
وبعد .. !
ماذا نستطيع أن نقول إن تاقت الأرواح إلى تعريفه بالكلمات ؟!
نقول : - ونحن مفتقرين إلى الإحاطة بكل معانيه -
إنه مرتقى الأرواح ، ومصباح يضئ زوايا القلوب المعتمة،
وهاتف إيمان يطلق أغوار النفوس لترتاد آفاق الوجود ..!
هو شهر خلوة نفسيّة
يتجرد فيها الإنسان عن معظم مطالب المادة،
إلى عالم تزكو فيه نفسه ، وتتجدد فيه طاقته الروحية .
هو فاصلة العام.. يلحق النفس الإنسانية وقد غرقت في الصراع،
وزاولت عملاً شاقاً في مكافحة مايحيط بها من ظروف الحياة ومطالبها
فيسمو بها ، ويجردها من طغيان المادة،
ويطوف بها في ملكوت طالما تحنّ إليه ،
وتستروح المكوث في رياضه ومعانيه.
إنّه .. ساعة !!
وماأعذبها من ساعة تلك التي يخلو فيها الإنسان إلى نفسه بعد عناء يومه،
يفرغ فيها من جلبة الحياة وضوضائها،
إلى خلوة الروح فيسمو بها ويرتاح إلى متكئها.. !
تلك الساعة الحلوة هي رمضان بين الشهور ،
نتجرد فيها من المادة ، ولوازم الشهوات
ونفيء إلى عالم يفيض روعة وبهجة .. ذلك هو عالم الطاعات،
أخواتي المؤمنات :
إنّ علينا في هذا الشهر واجبات ،
فلتتهيأ نفوسنا بدءاً لاستقباله بعقد النيّةعلى التوبة الصادقة النصوح ، والتطهر الشامل :
(( ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاًعسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم
ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لايخزي الله النبي والذين آمنوا معه
نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم )).
ولنحرص على صوم الجوارح مع صوم الأبدان ، بالكف عن كل مايشوبه من منهيات ،
ولنضمر صدق التوجه ،ودوام التأمّل ، وكثرة الذكر ،
والتفكر في ملكوت السماوات والأرض.
ولنكثر من الغرف من منبع الطاعات ،
كتلاوة وحفظ وتدبر القرآن ،
وزيادة أعمال البرّ والإحسان ،
فإن الله به يرفع درجة المحسنين المتصدقين
ويرفع فيه درجات التالين المتدبرين .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود مايكون في رمضان ،
وكان أجود من الريح المرسلة .
ولنحافظ على التراويح والقيام ،
ونكثر التسبيح والتضرع والدعاء ، ومناجاة الملك العلّام ،
لتكون أيام شهر رمضان تدريباً وتعويداًعلى الخشوع والخضوع في الصلاة ..
فليست كل صلاة كصلاة الخاشعين ..
الذين إذا وقفوا بين يدي الله تعالى رهبوا ورغبوا
وإذا تلوا آياته خروا للأذقان سجداً .. وبكياً
إن للصلاة في قلوب الخاشعين مشارق لامعة ،وأنوار ساطعة.
ولذة في الطاعة لايدركها إلا العابدون المستغرقون المبتهلون المناجون
في جوف الليل .. حين توقد مصابيح الأرواح ..
فيسهرون على وهجها لتلاوة آيات الطاعة للرحمن ..!
حتى تتفتح براعم القلوب على أنفاس مناجات عبادك ،
واتجهت النفوس شاخصة إلى سمائك ، تستدر عطفك وغفرانك ..!
وهذه أيام شهر رمضان المعدودات.. جعلتها سرا بينك وبين عبادك
تسبغ عليهم فيها رحمتك ، وتغفر لهم فيها الذنوب
حتى كانت لهم مرفأً تأوي إليه نفوسهم المتعبة ، وتطمئن به قلوبهم ،
في دوام ذكرك ، ولذيذ مناجاتك ، وتلاوة سطور النور في كتابك ..
ركائز الصوم :
إن شهر رمضان مدرسة الروح والفكر والضمير ،
ودورة تكميلية للنواقص البشرية ، وحملة لتصفية النفس من الرواسب
التي علقت بها خلال أحد عشر شهراً..
وقد أقام الله تعالى الصوم .. كسائر العبادات ،
على دعائم من الخير، وقواعد من البر ، تفيدهم في الدنيا ،
وتنفعهم في العقبى، وتسبغ عليهم سعادة الآخرة ..
وهذه الركائز الأساسية في عبادة الصيام الكاملة المتقبلة هي :
1- حضور النيّة الصالحة ، والاخلاص فيها لله تعالى ، وهي الركيزة الأولى ،
فإنماالأعمال بالنيات ، ومالم تشترك خلجات الوجدان ،
وحضور القلوب ، وحركات الأبدان ،
ومالم يؤثر الصيام على النفوس فيطهرها، والأرواح فيتسامى بها ،
فلا قيمة لصومه ولا مثوبة ..
فكم من صائم لم يجن من صيامه إلا الجوع والعطش !
2- أما الركيزة الثانية في الصوم فهي رفع الحرج ، وإيثار اليسر ،
فليس في الإسلام من عبادات تشقّ على العابدين :
(( مايريد الله ليجعل عليكم من حرج ، ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم
لعلكم تشكرون )) .
تأمّلن التيسير في فريضة الصوم في قوله تعالى :
(( أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدّةٌ من أيّامٍ أِخر
وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له
وإن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون )).
3- وأمّا الركيزة الثالثة فهي مدى تأثير الصوم ،
والعبادات المرافقة له في حياة الفرد والجماعة،
فإلى جانب الطاعة والتعبد ، والربح الأخروي ،
يتحقق من الصوم الخير الدنيوي ، والتهذيب النفساني ،
فما أمر الإسلام إلا بطيّبٍ فيه خير للناس يظهر في حياتهم العملية أثره،
وما نهاهم إلا عن خبيث يصيبهم شرّه وضرره.
وهَجْ (*)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الصوم نصف الصبر ))
وقال : (( الصبر نصف الإيمان ))
وقال تعالى ؛ (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )).