كنت أُعدّ مقطع (حين أرحل) من برنامج (وسم) اليوتيوبي عندما ألحَّت عليَّ فكرة اللحظة الأخيرة في الحياة، وماذا سيكون إحساسي تجاهها؟ ما الذي سيتغيَّر في رؤيتي وتفكيري وأولوياتي؟ ولذا كتبت تغريدة: (أتمنى أن أكون رتَّبت أولوياتي بشكل مختلف).. بينما اقترح الجميل أبو زياد: (أتمنى أن أكون قلت الكلمة الأخيرة)!
وظلَّ هذا الشعور يلاحقني وأنا أردد حديثاً نبوياً كريماً حفظته في الصِّغَر ضمن الأربعين النووية: « كُنْ فِى الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ »، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. (رواه البخاري).
حين قرأتُ ملخصات لكتاب: (أكثر خمسة أشياء تندم عليها عند موتك)؛ للممرضة الاسترالية (بروني وير)، أحسست أني ظفرت بكنز، فهي كانت تصحب المرضى وكبار السِّن؛ الذين يعيشون أواخر أيامهم، ويحتاجون إلى العناية الخاصة أو ما يسمى بـ(الرعاية التلطيفية)، وتسألهم عن أحلامهم وأمانيهم، وتُدوِّن ما تسمع.
توصَّلت إلى خمسة أشياء يتمنَّاها المرء عند موته:
1- أتمنى أن أكون عشت حياتي كما أريد أنا لا كما يريد الناس، أن يكون سعيي لتحقيق أحلامي وليس لتحقيق أحلام الآخرين.
بمعنى: تحجيم أو عزل تأثير من حولك عليك حين يكون سبباً في تجاهل متطلبات الذات، وحاجاتها، وأمانيها، وأحلامها.
2- أتمنى أن أكون عملت بشكل أقل، فالانهماك المفرط في العمل يكون على حساب الراحة والسعادة، وقد تكسب المال أو المنصب أو الشهرة وتخسر ذاتك!
3- الحفاظ على الأصدقاء، فهم أشجار الحياة وعُدَّة النوائب، ولا يجب أن يشغلك عنهم شاغل؛ خصوصاً النجاح، والثروة، والحضور الاجتماعي.. وحين تقابل الناس وأنت في طريقك للصعود فعليك أن تهتم بهم؛ لأنك ستقابلهم في طريقك للنزول! فـ« حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لاَ يَرْتَفِعَ شَىْءٌ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ وَضَعَهُ ».
4- التعبير عن المشاعر؛ سواء الإيجابي منها؛ بالإفصاح عن الحب، والرضا، والإعجاب، والشوق، والامتنان.. أو السلبي؛ بالعتاب، والنقد على مواقف حدث فيها أن أساء إليك أحدهم أو تخلَّى عنك أو غدر بك، فلا تترك الألم (يُقرقِع) بقلبك بل أفصح عنه بنوع من البوح؛ الذي يُخفف الضغط والكبت الذي تشعر به.
5- الإحساس بالسعادة والاستمتاع بالأشياء المتاحة، وإدراك أن السعادة ليست شيئاً ننتظره بل علينا أن نذهب إليه ونكتشفه في تفاصيل الأشياء وصغائرها!
هذا تلخيص من الذاكرة، ولم يتح لي أن أطَّلع على الكتاب كاملاً، ولذا فما كتبته اقتباس أضفت إليه وفسَّرته حسب معلوماتي السابقة.
وبقي أن أشير لثلاثة أمور لابد أن يعاتب المتهيئ للرحيل نفسه بشأنها:
الأول: الإيمان بالله وطاعة أوامره والتزام شريعته، فالمؤمن المستقيم الصادق تتنزَّل عليه الملائكة في لحظة الفراق: {أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (30) سورة فصلت.
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أن رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: « مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلاَّ نَدِمَ ». قَالُوا وَمَا نَدَامَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: « إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ ازْدَادَ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لاَ يَكُونَ نَزَعَ » (رواه الترمذي).
قد يغفر الله ذنوبك، ولكنك قد لا تغفر لنفسك حين تضيق عليك الفرص وتتذكر صحائف مملوءة بالذنوب والموبقات تخجل من ملاقاة الله بها!
الثاني: الإحسان للخلق، ونفع الناس، وفعل الخير لهم.. فالله يحب المحسنين، و{هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (60) سورة الرحمن.
أن تُحسِنَ لهم بعقلك؛ بالمشورة الصادقة، وبقلبك؛ بحب الخير لهم، والسلامة من الحسد، والحقد، والشماتة، وبلسانك؛ بالمواساة، والتعزيز، والدعم المعنوي، والدعاء، والثناء، وصنوف السخاء، والكرم اللفظي الجاد والمعبِّر عن مكنون صافٍ، وباليد؛ بالمساعدة والعطاء بكل صوره بحسب ما أقدرك الله عليه: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} (10) سورة المنافقون.
حفر الربيع بن خثيم في داره قبراً، وكان إذا وجد في قلبه قساوةً دخل فيه واضطجع ومكث ما شاء اللّه، ثمّ يقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) يردّدها ثمّ يرد على نفسه: يا ربيع، قد رجعناك فاعمل!
في العادات السبع وتجارب الناجحين من أمثال "ستيف جوبز" أن من أسرار النجاح أن تنطلق للقمة وعينك على نهاية الحياة؛ ليكون الموت حادياً للإنجاز والعمل والتسامي، وليس مدعاةً للقعود والزهد السلبي.
الثالث: التزام الأخلاق الكريمة ومنها: الصفح، والتسامح، والنسيان، واجتناب الطواحين الكلامية؛ التي لا تُقدِّم ولا تُؤخِّر، ولكن فيها يبيض الشيطان ويُفرِّخ، ويدق إسفين العداوة بين المتحابين أو المتجانسين، قال تعالى: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (85) سورة الحجر.
أغلبية ساحقة من الناس تعيش لحظتها وكأنها السرمد ولا تفكر في العواقب، ولذا مدح الله -سبحانه وتعالى-: {إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}، وقال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} سورة ص.
د.سلمان العودة
ام الحكاوي @am_alhkaoy
محررة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️