كَان أحدُ الشُّعراءِ يَسيرُ في شَوَارعِ الكُوفَةِ ، يَبْحَثُ عَن خيَّاطٍ ليَخِيطَ لهُ ثَوبًا ، وبينَمَا هُوَ في الطَّريقِ ، قَابلَهُ الأصْمَعِيُّ ، فأَخَذَهُ إلَى خيَّاطٍ أعْوَرٍ يُسمَّى زَيْدًا .فَقَالَ الخيَّاطُ للشَّاعرِ
واللهِ لأخيطَنَّهُ خِياطةً لاَ تدْرِى أَعَباءةٌ هُوَ أَمْ قَمِيصٌ
فَقَالَ الشَّاعِرُ :
واللهِ لَو فَعَلتَ لأَقُولنَّ فِيكَ شِعرًا لاَ تَدرِى أَمدحٌ هُوَ أَمْ هِجَاءٌ . فلمَّا أَتمَّ الخيّاطُ الثَّوبَ أَخَذَهُ الشَّاعرُ ، وَلَمْ يَعْرِفْ هَل يلبِسُهُ عَلَى أنهَّ عَباءةٌ أَمْ قَمِيصٌ
فقَالَ فِي الخيَّاطِ هَذا الشِّعْرَ :
خَاطَ لِي زيـدٌ قـَباء لَيتَ عَيْنَيْهِ سَواء
فاسألِ النَّاسَ جِميعًا أَمَديحٌ أَم هِجـَاء
فَلم يدرِ الخيَّاطُ أَيدعُو الشَّاعرُ عَليهِ بِالعَمَى ، أَمْ يَدعُو أَنْ يَشْفِىَ اللهُ عينَهُ المرِيضَة
كَان أحدُ الشُّعراءِ يَسيرُ في شَوَارعِ الكُوفَةِ ، يَبْحَثُ عَن خيَّاطٍ ليَخِيطَ لهُ ثَوبًا ،...
ما أصدق السيف! إن لم ينضه الكـذب
وأكذب السيف إن لم يصـدق الغضـب
بيض الصفائح أهـدى حيـن تحملهـا
أيـدٍ إذا غلبـت يعلـو بهـا الغـلـب
وأقبح النصر... نصـر الأقويـاء بـلا
فهم.. سوى فهم كم باعوا.. وكم كسبوا
أدهى من الجهـل علـم يطمئـن الـى
أنصاف ناس طغوا بالعلـم واغتصبـوا
قالوا: هم البشر الأرقـى ومـا أكلـوا
شيئاً .. كما أكلوا الانسان أو شربـوا
ماذا جرى.. يـا أبـا تمـام تسألنـي؟
عفواً سأروي.. ولاتسأل.. وماالسبـب
يدمـى السـؤال حيـاء حيـن نسألـه
كيف احتفت بالعدى (حيفا) أو (النقب)
من ذا يلبـي؟ أمـا إصـرار معتصـم
كلا وأخزى من (الأفشين) (1) ماصلبوا
اليوم عادت علـوج (الـروم) فاتحـة
وموطن العـرب المسلـوب والسلـب
ماذا فعلنـا؟ غضبنـا كالرجـال ولـم
نصدق.. وقد صدق التنجيـم والكتـب
فأطفـأت شهـب (الميـراج) أنجمنـا
وشمسنا... وتحـدت نارهـا الخطـب
وقاتلـت دوننـا الأبــواق صـامـدة
أما الرجـال فماتـوا.. ثـم أو هربـوا
حكامنا إن تصـدوا للحمـى اقتحمـوا
وإن تصدى لـه المستعمـر انسحبـوا
هم يفرشون لجيـش الغـزو أعينهـم
ويدعـون وثوبـاً قـبـل أن يثـبـوا
الحاكمـون و«واشنطـن» حكومتـهـم
واللامعـون.. وماشعـوا ولاغـربـوا
القاتلـون نبـوغ الشعـب ترضـيـهَ
للمعتديـن ومـا أجدتـهـم الـقـرب
لهم شموخ (المثنى)(2) ظاهـراً ولهـم
هوى الى «بابـك الخرمـي» ينتسـب
ماذا ترى يا (أبـا تمـام) هـل كذبـت
أحسابنـا؟ أو تناسـى عرقـه الذهـب
عروبـة اليـوم أخـرى لاينـم علـى
وجودهـا اسـم ولا لـون.. ولالقـب
تسعـون ألفـاً (لعموريـة) اتـقـدوا
وللمنجـم قـالـوا: إنـنـا الشـهـب
قيل: انتظار قطاف الكرم مـا انتظـروا
نضج العناقيد.. لكـن قبلهـا التهبـوا
واليـوم تسعـون مليونـاً ومابلـغـوا
نضجاً.. وقد عصر الزيتـون والعنـب
تنسى الرؤوس العوالي نـار نخوتهـا
اذا امتطاهـا الـى أسيـاده الـذنـب
(حبيب) وافيت مـن صنعـاء يحملنـي
نسر وخلف ضلوعـي يلهـث العـرب
ماذا أحـدث عـن صنعـاء يـا أبتـي
مليحـة عاشقاهـا: السـل والجـرب
ماتت بصندوق «وضـاح»(3) بلاثمـن
ولم يمت في حشاها العشـق والطـرب
كانت تراقب صبح البعـث.. فانبعثـت
في الحلم.. ثم ارتمت تغفـو وترتقـب
لكنهـا رغـم بخـل الغيـب مابرحـت
حبلى وفي بطنها «قحطان» أو «كرب»
وفي أسـى مقلتيهـا يغتلـي «يمـن»
ثانٍ كحلم الصبـا... ينـأى ويقتـرب
«حبيب» تسأل عن حالي وكيـف أنـا؟
شبَّابـة فـي شفـاه الريـح تنتحـب
كانت بلادك (رحـلاً) ظهـر (ناجيـة)
أمـا بـلادي فـلا ظهـر ولاغـبـب
أرعيـت كـل جديـب لحـم راحـلـة
كانت رعته ومـاء الـروض ينسكـب
ورحت من سفـر مضـن الـى سفـر
أضنى... لأن طريـق الراحـة التعـب
لكن أنـا راحـل فـي غيـر ماسفـر
رحلي دمي.. وطريقي الجمر والحطـب
اذا امتطيـت ركابـاً للـنـوى فـأنـا
في داخلي.. أمتطـي نـاري وأغتـرب
قبري ومأساة ميـلادي علـى كتفـي
وحولـي العـدم المنفـوخ والصخـب
«حبيب» هـذا صـداك اليـوم أنشـده
لكن لمـاذا تـرى وجهـي وتكتئـب؟
ماذا؟ أتعجب من شيبي على صغـري؟
إني ولدت عجـوزاً.. كيـف تعتجـب؟
واليوم أذوي وطيـش الفـن يعزفنـي
والأربعـون علـى خــدي تلتـهـب
كذا إذا ابيـض إينـاع الحيـاة علـى
وجـه الأديـب أضـاء الفكـر والأدب
وأنت من شبت قبـل الأربعيـن علـى
نـار (الحماسـة) تجلوهـا وتنتخـب
وتجتـدي كـل لـص متـرف هـبـة
وأنت تعطيـه شعـراً فـوق مايهـب
شرقت غربت من (وال) الـى (ملـك)
يحثـك الفقـر.. أو يقتـادك الطلـب
طوفت حتى وصلت (الموصل) انطفـأت
فيك الأمانـي ولـم يشبـع لهـا أرب
لكـن مـوت المجيـد الفـذ يـبـدأه
ولادة مـن صباهـا ترضـع الحقـب
«حبيب» مـازال فـي عينيـك أسئلـة
تبـدو.... وتنسـى حكاياهـا فتنتقـب
ومـا تـزال بحلقـي ألـف مبكـيـة
من رهبة البوح تستحيـي وتضطـرب
يكفيـك أن عدانـا أهــدروا دمـنـا
ونحـن مـن دمنـا نحسـو ونحتلـب
سحائـب الغـزو تشوينـا وتحجبـنـا
يوماً ستحبل مـن إرعادنـا السحـب؟
ألا تـرى يـا «أبـا تمـام» بارقـنـا
إن السمـاء ترجـى حيـن تحتجـب)
(1) (حيدر الأفشين): كان قائد جيش المعتصم، فخانه فصلب وأحرق، وقال أبو تمام في حرقه: رائيته الشهيرة: الحق أبلج والسيوف عواري...الخ.
(2) المثنى بن حارثة الشيباني.. الفارس الشهيد.
(3) هو: عبدالرحمن بن اسماعيل.. شاعر يماني غلب عليه لقب وضاح لإشراق وجهه ووضوحه.. أحبته (أم البنين) زوجة الخليفة (الوليد بن عبدالملك) وعندما اكتشف أمره في ساعة وصل، خبأته في صندوق.. وعندما عرف الخليفة أخذ الصندوق ورماه في بئر كان تحت بساطه..
- من ديوان «لعيني أم بلقيس»