الحمد لله المحمود على كل حال , الموصوف بصفات الكمال والجلال ,له الحمد في الأولى والآخرة , وإليه الرجعى والمآل , الصلاة و السلام على محمد المبعوث رحمة للعالمين، عدد قطر السماء، و ذرات الرمال، و ما طلع عليه ليل أو نهار، صلاة و سلاما دائمين إلى يوم الدين . أما بعد :
فإن من عظيم نعمة الله على عباده المؤمنين أن هيأ لهم أبوابا من البر والخير والإحسان عديدة , يقوم بها العبد الموفق في هذه الحياة , ويجري ثوابها عليه بعد الممات , فأهل القبور في قبورهم مرتهنون , وعن الأعمال منقطعون , وعلى ما قدموا في حياتهم محاسبون ومجزيون , وبينما هذا الموفق في قبره الحسنات عليه متوالية , والأجور والأفضال عليه متتالية , ينتقل من دار العمل , ولا ينقطع عنه الثواب , تزداد درجاته , وتتناما حسناته وتتضاعف أجوره وهو في قبره , فما أكرمها من حال , وما أجمله وأطيبه من مآل .
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أمورا سبعة يجري ثوابها على الإنسان في قبره بعد ما يموت , وذلك فيما رواه البزار في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته :من علم علما, أو أجرى نهرا , أو حفر بئرا , أو غرس نخلا , أو بنى مسجدا , أو ورث مصحفا , أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته )) .
وتأمل أخي المسلم – مليا هذه الأعمال , واحرص على أن يكون لك منها حظ ونصيب مادمت في دار الإمهال , وبادر إليها أشد المبادرة قبل أن تنقضي الأعمار وتتصرم الآجال .
وإليك بعض البيان والإيضاح لهذه الأعمال :
أولا : تعليم العلم
المراد بالعلم هنا العلم النافع الذي يبصر الناس بدينهم , ويعرفهم بربهم ومعبودهم , ويهديه إلى صراطه المستقيم , العلم الذي به يعرف الهدى من الضلال , والحق من الباطل والحلال من الحرام , وهنا يتبين عظم فضل العلماء الناصحين والدعاة المخلصين , الذين هم في الحقيقة سراج العباد , ومنار البلاد , وقوام الأمة , وينابيع الحكمة , حياتهم غنيمة , وموتهم مصيبة , فهم يعلمون الجاهل , ويذكرون الغافل , ويرشدون الضال , لا يتوقع لهم بائقة , ولا يخاف منهم غائلة , وعندما يموت الواحد منهم تبقى علومه بين الناس موروثة , ومؤلفاته وأقواله بينهم متداولة , منها يفيدون , وعنها يأخذون , وهو في قبره تتوالى عليه الأجور , ويتتابع عليه الثواب , وقديما كانوا يقولون يموت العالم ويبقى كتابه , بينما الآن حتى صوت العالم يبقى مسجلا في الأشرطة المشتملة على دروسه العلمية , ومحاضراته النافعة , وخطبه القيمة فينتفع به أجيال لم يعاصروه ولم يكتب لهم لقيه . ومن يساهم في طباعة الكتب النافعة , ونشر المؤلفات المفيدة , وتوزيع الأشرطة العلمية والدعوية والمطويات فله حظ وافر من ذلك الأجر إن شاء الله . وكذلك نشر كل ما يفيد من محاضرات ومقالات ومقاطع فيديو وكتب وفلاشات عن طريق منتديات الإنترنت والمجموعات وعن طريق بريدك الإلكتروني , وتستطيع ايضا نشر العلم عن طريق جوالك ايضا ,وذلك عن طريق البلوتوث والرسائل النصية ورسائل الوسائط , هذه طرق ميسره لكل شخص في زماننا ولله الحمد والمنة والفضل .
ثانيا : اجراء النهر
المراد به شق جداول الماء من العيون والأنهار لكي تصل المياه إلى أماكن الناس ومزارعهم , فيرتوي الناس , وتسقى الزروع , وتشرب الماشية , وكم في مثل هذا العمل الجليل والتصرف النبيل من الإحسان إلى الناس , والتنفيس عنهم بتيسير حصول الماء الذي به تكون الحياة , بل هو أهم مقوماتها , ويلتحق بهذا مد الماء عبر الأنابيب إلى أماكن الناس , وكذلك وضع برادات الماء في طرقهم ومواطن حاجاتهم .
ثالثا : حفر الآبار
وهو نظير ما سبق وقد جاء في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بينما رجل في طريق فاشتد عليه العطش , فوجد بئرا فنزل فيها فشرب , ثم خرج , فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش , فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني , فنزل البئر فملأ خفه ماء فسقى الكلب , فشكر الله له فغفر له , قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم أجرا ؟ فقال : في كل ذات كبد رطبة أجر " متفق عليه . فكيف بمن حفر البئر وتسبب في وجودها حتى ارتوا منها خلق , وانتفع بها كثيرون .
ولنتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "أفضل الصدقة سقي الماء" حسنه الألباني
رابعا : غرس النخل
من المعلوم أن النخل سيد الأشجار وأفضلها وأنفعها وأكثرها عائدة على الناس , فمن غرس نخلا وسبل ثمره للمسلمين فإن أجره يستمر كلما طعم من ثمره طاعم , وكلما انتفع بنخله منتفع من إنسان أو حيوان , وهكذا الشأن في غرس كلما ينفع الناس من الأشجار , وإنما خص النخل هنا بالذكر لفضله وتميزه .
قال صلى الله عليه وسلم "ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا ، فيأكل منه طير ، أو إنسان ، أو بهيمة ، إلا كان له به صدقة" رواه البخاري
خامسا : بناء المساجد
والتي هي أحب البقاع إلى الله , والتي أذن الله جلا وعلا أن ترفع ويذكر فيها اسمه , وإذا بني المسجد أقيمت فيه الصلاة , وتلي فيه القرآن , وذكر فيه الله , ونشر فيه العلم , واجتمع فيه المسلمون , إلى غير ذلك من المصالح العظيمة , ولبانيه أجر في ذلك كله , وقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة " متفق عليه . وإن لم تستطع بناء مسجد بأكمله , فاحرص على أن تساهم ولو بالقليل من مالك في بناء مسجد .
سادسا : توريث المصحف
وذلك يكون بطباعة المصاحف أو شرائها وقفها في المساجد , ودور العلم حتى يستفيد منها المسلمون , ولواقفها أجر عظيم كلما تلا في ذلك المصحف تال , وكلما تدبر فيه متدبر , وكلما عمل بما فيه عامل . وتستطيع ايضا شراء مصاحف وتوزيعها على الحجاج والمعتمرين عندما تذهب للحج او العمره وغير ذلك من طرق توزيع المصاحف .
سابعا : تربية الأبناء
وذلك بحسن تأديبهم , والحرص على تنشأتهم على التقوى والصلاح , حتى يكونوا أبناء بررة وأولاد صالحين , فيدعون لأبويهم بالخير , ويسألون الله لهما الرحمة والمغفرة , فإن هذا مما ينتفع به الميت في قبره .
وقد ورد في الباب في معنى الحديث المتقدم مارواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره , ولدا صالحا تركه , ومصحفا ورثه أو مسجدا بناه , أو بيتا لابن السبيل بناه , أو نهرا أجراه , أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته "
وروى أحمد والطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم " أربعة تجري عليهم أجورهم بعد الموت : من مات مرابطا في سبيل الله , ومن علم علما أجرى له عمله ما عمل به , ومن تصدق بصدقة فأجرها يجري له ما وجدت , ورجل ترك ولدا صالحا فهو يدعو له " .
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية , أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " وقد فسر جماعة من أهل العلم الصدقة الجارية بأنها الأوقاف , وهي أن يحبس الأصل وتسبل منفعته , وجل الخصال المتقدمة داخلة في الصدقة الجارية .
وقوله : " أو بيتا لابن السبيل بناه " فيه فضل بناء الدور وقفها لينتفع بها المسلمون سواء ابن السبيل أو طلاب العلم , أو الأيتام , أو الأرامل , أو الفقراء والمساكين . وكم في هذا من الخير والإحسان .
وقد تحصل بما تقدم جملة من الأعمال المباركة إذا قام بها العبد في حياته جرى له ثوابها بعد الممات , وقد نظمها السيوطي في أبيات فقال :
إذا مات ابن آدم ليس يجري *** عليه من فعال غير عشر
علوم بثها , ودعاء نجل *** وغرس النخل , والصدقات تجري
وراثة مصحف , ورباط ثغر *** وحفر البئر , أو اجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي *** إليه , أو بناء محل ذكر
وقوله : " ورباط ثغر " شاهده حديث أبي أمامة المتقدم , وما رواه مسلم في صحيحه من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه , وأمن الفتان " أي ينمو له عمله إلى يوم القيامة , ويأمن من فتنة القبر .
رفيف 22 @rfyf_22_1
محررة برونزية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
عزه العمري
•
جزاك الله خير
الصفحة الأخيرة