قضايا وحوارات
مشاهدات طبيب في الفلوجة..!
حوار: عامر الكبيسي
13/3/1425
02/05/2004
الفلوجة .. اسم مدينة سطرت بالدم عبارات المجد والنصر في معركة البقاء، ومعركة الصمود، المدينة التي أنهكت المحتل، وأصابته بالدوار والإعياء، ففقد سيطرته، وأخذ يهيج فيها كالثور المذبوح يقتل، ويسحل، ويأسر، ويعذب، حتى بدأ كل من حوله ينسحب من جواره من قوات ما تسمى بالتحالف معلنة استسلامها أمام هذا الصمود العجيب، ومن هناك انتهزنا فرصة وجود شاهد عيان على الفلوجة جاءنا إلى بغداد يحمل قصصًا من الواقع هو الطبيب/ مهند مؤيد حسن السامرائي، كان له ولزوجته الطبيبة بين دماء وأشلاء الجرحى جولات وصولات، جلسنا معهما يحدثانا عن حكايات الفلوجة كما رأياها عن قرب، فكان هذا الحوار الشيق والذي خصّا به موقع (الإسلام اليوم)..
كيف ترسم صورة الوضع الصحي في الفلوجة قبل وبعد حصارها من قبل قوات الاحتلال الأمريكي؟
الفلوجة مدينة صغيرة يسكنها من 350 إلى 400 ألف نسمه تقريبًا وتوجد فيها 3 مستشفيات رئيسة فقط: المستشفى العام الحكومي يقع عند طرف المدينة الغربي ويفصله عن المدينة الجسر القديم، والمستشفى الأردني الذي تبرعت بإنشائه الحكومة الأردنية يقع في المدخل الشرقي للمدينة، ومستشفى الدكتور طالب الجنابي وهو مستشفى أهلي صغير في وسط المدينة.
بعد حصار الفلوجة من قبل قوات الاحتلال عزل المستشفيان الرئيسان العام والأردني عن المدينة وبقي المستشفى الأهلي الوحيد الذي يعمل والذي لم يسلم من القصف والنيران العشوائية التي طالته في اليوم الثاني و الثالث من الحصار مما اضطر الكادر الطبي في المدينة إلى تحويل المراكز الصحية والعيادات الشعبية الخمس الموجودة في وسط المدينة إلى مستشفيات بديلة. تجرى العمليات الجراحية في مركزين منها فقط وسط أجواء من ضيق المساحة وانعدام الأمكانات وغياب وسائل التعقيم والنظافة وكثرة الجرحى والمصابين الذين تجاوز عددهم إلى وقت هذا الحوار الـ 650 شهيدًا و 1250 جريحًا.
من هم المستهدفون الحقيقيون من آلة الحرب الأمريكية؟ وماذا كانت أنواع إصاباتهم؟
معظم الإصابات التي جاء ت إلى مستشفانا البديل كانت في صفوف المدنيين وخاصة النساء والأطفال والشيوخ، أما المقاومون المسلمون فلم يبلغ مجموع المصابين شهداءً وجرحى الذين وصلوا المستشفى أكثر من 10% فقط.
أما بالنسبة لتقييم نوع الإصابات؛ فيكمن على النحو التقريبي التالي:
- 40% إصابات مميتة يتوفى بسسببها المصاب قبل وصوله إلى المستشفى أو بعد ذلك بقليل، وهذه معظمها إصابات في الرأس أو الصدر أو البطن.
- 30% إصابات معوقة تنتهي ببتر الأطراف أو استئصال بعض الأعضاء المصابة كالكلية والطحال والقولون.
- 30 % إصابات يرجى شفاؤها ككسور الأطراف وإصابات الشظايا المتعددة والجروح والقروح المختلفة.
يذكر أن هذه الإصابات ناجمة عن آثار القصف الانفجاري للصواريخ بالطائرات وشظايا القنابل العنقودية أو إطلاقات القناصين الذين تمركزوا فوق أسطح المنازل ومآذن المساجد في أحياء "الجولان.. نزال العسكري الصناعي" والتي كانت تستهدف الأماكن الحساسة من الرأس أو الصدر أو الظهر، وكانت تطال كل من يخرج إلى الشارع من شباب أو نساء أو أطفال أو شيوخ؛ بل حتى سيارات الإسعاف لم تنج من نيرانهم.
هل رأيت أحد المقاومين شهيدًا أو مصابًا بنيران الاحتلال؟
أجل لكن نسبتهم ضئيلة كما ذكرت لا تتجاوز 10 % من مجموع الإصابات.. أذكر منهم بعض الصور شاب مسلح من المجاهدين في عمر 18 إلى 20 سنة أتى المستشفى مصابًا في يده إصابة بليغة كان يصرخ في المستشفى خدروني خدورني حتى أعود فأقاتل، و فعلاً لم يلبث في
المستشفى أكثر من ساعة ليعود إلى ثغرته ويعود بعد 4 أيام مصابًا في رجله. وشاب آخر في الخامسة والعشرين من العمر كان مصابًا بإصابات كثيرة لكنها خفيفة جعلته مغطى بطبقة من الدم من رأسه إلى أخمص قدميه جاء ووضع سلاحه وهو يصرخ: الله أكبر الله أكبر الله أكبر.. قصفونا لكننا سننتصر.. نحن مع الحق نحن مع الحق.. لا إله إلا الله.
هل كانت المساعدات تصل لكم بسهولة؟
نعم كانت تصل في بداية الأمر حيث كان الطريق الترابي من منفذ المدينة الجنوبي مفتوحًا وكانت القوافل الإغاثية تدخل الفلوجة من هناك في بداية الأزمة وللتاريخ أذكر أن تفاعل الشعب العراقي عمومًا وأهل بغداد خصوصًا مع مآساة الفلوجة فاقت كل تصور؛ فلقد جمعت عشرات الملايين من الدنانير وعشرات الآلاف من الدولارات وعشرات الأطنان من المواد الغذائيه والدوائيه في بغداد والموصل والبصره وديالى والأنبار وحتى المدن الشعبيه كالشعله ببغداد والكوفه والنجف وغيرها، وبدأت قوافل الإمداد التي كانت تنقل المواد الغذائة والطبية والأطباء تدخل الفلوجة من ذلك المنفذ، وتخرج حاملة معها العوائل التي فرت من جحيم النيران الأمريكية، لكن القوات الأمريكية لم تلبث أن أغلقت هذا المنفذ واأحكمت الطوق حول المدينة، ومنعت بذلك كل أحد من أن يدخل إلا أن تكون سيارة إسعاف بها سائق واحد وثلاثة أطباء، وما تيسر حمله من مواد بسيطة في هذه السيارة التي سمح لها بإخلاء الجرحى من الفلوجة إلى مستشفيات بغداد والرمادي وغيرها أما العوائل التي فرت من جحيم المعركة؛ فقد سمح للنساء والأطفال دون سن 15 سنة والشيوخ فوق 50 سنه بالخروج فقط؛ أما الشباب فلم يسمح لهم بذلك مطلقًا حتى اضطر الأمر بكثير من العوائل مغادرة الفلوجة مشيًا على الأقدام عشرات الكيلومترات إلى بغداد وأبي غريب.
هل التزم الأمريكيون بوقف إطلاق النار أو ما اسطلح على أنه هدنة؟
لا بد من وصف الهدنة بالهشة؛ فكانت أصوات النيران والطائرات وحتى أصوات حاويات القنابل العنقودية تسمع بشكل يدوي في كل مكان أما تواجد القناصين في الأحياء المذكورة سابقًا؛ فقد ألحق خسائر فادحة في الأرواح كما أشرنا.. الأمر الذي ضرب بالهدنة عرض الحائط وأثار حفيظة الأهالي ونقمتهم على الوعود الأمريكية الكاذبة أصلاً.
ماذا عن المتطوعين ودورهم في تخفيف الأزمة؟ وهل كان للنساء حظ في هذا الميدان؟
نعم فقد كانت القلة القليلة ممن بقيت من ربات البيوت في الفلوجة يطهين الطعام للمجاهدين في ظرف الحصار العصيب الذي انعدم فيه الوارد، ونفذت فيه المؤنة إنه استعلاء الإيمان والشعور بالعزة التي تصبغ الفلوجة بالكامل في الجانب الطبي. هب أن المتطوعات أيضًا من الطبيبات والممرضات يسهمن بما يستطعن لتخفيف آلام المنكوبين.. زوجتي الدكتورة إيمان صباح هي طبيبة مقيمة في مستشفى الكاظمية ببغداد أصرت أن تاتي معي إلى الفلوجة وتدلي بدلوها لخدمة الناس هناك أتركها كي تحدثك.
تحدثنا الدكتورة أيمان زوجة الدكتور مهند - وكانت معه في الفلوجة المحاصرة كذلك – عن الصور التي تدور في رأسها حول مأساة الفلوجة؛ فتقول:
مع بداية الحصار على الفلوجة واشتداد القصف الوحشي وكثرة الضحايا المدنيين والأبرياء أحسست بألم ولوعه بالغين يخالجان قلبي؛ فقلت يجب تحويل هذا الألم إلى عمل إيجابي يرضي الله ويخفف عن أهل الفلوجة الباسلة.. تركت دوامي في مستشفى الكاظمية والتحقت مع زوجي في قافلة إغاثية عبر الطريق الترابي إلى الفلوجة حيث استغرقت الرحلة أكثر من ساعتين ونصف بمسافه لا تزيد عن 63 كم وجدت ثلاثة متطوعات في المستشفى البديل كلهن ممرضات، وكنت الطبيبة الوحيدة بينهم جميعًا. اسهمت مع إخواني الأطباء في علاج جرحى القصف العنقودي الوحشي ورصاصات القناصين الغادرة.. عشنا هناك ظرفًا قاسيًا؛ لكنه كان أحلى من طعم العسل على قلوبنا وأرواحنا، وأعجب ما شاهدته هناك الشعور اللاإرادي بالعزة والكرامة ورفعت الرأس ساعة الدخول إلى المدينة.
انتهى اللقاء الذي ودعنا فيه الدكتور مهند وهو يحضر نفسه للعودة إلى الفلوجة مرة أخرى..

ابي الاسلام @aby_alaslam
مفكرة المجلس
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️