هذا ما حدث لصديقي يوسف في المدينة المنورة

الملتقى العام



هـذا كتــابي فيه مــعذرتي :: ينبئكم اليوم عن سقمي وعن ألمي
أجللت ذكركم عن أن يدنسه :: لون المداد فقد سطرته بدمي



بسم الله الرحمن الرحيم ..
الحمد لله القائل في محكم التنزيل ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، القائل في الحديث الصحيح الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه ، وبعد ..


أحبتي الأكارم ..
لا أخال أحدا منا لم يفجع بفقد حبيب أو مفارقة خليل .. وكثير ٌ هم أحبابنا الذين وارينا أجسادهم التراب ودموعنا تودعهم قبل قلوبنا .. كثير هم أؤلئك الذين نسعد معهم فترة من الزمن ، تزيد أو تنقص ، نشعر أثناء تواجدنا معهم بأنا حُـزنا المجد من أطرافه وجمعنا أصول الخير والفضل لروعة الأثر الذي نخرج به في نفوسنا بعد الإتقاء بهم والإكتحال برؤياهم .. ثم تشغلنا الحياة عن أن نواصل معهم ما ابتدئناه في وقت سابق ، وتبقى الفرص العارضة هي التي تلم الشمل مجددا وتجمعنا بهم ، سواء مجالس في أفراح أو أحزان .. نتواصل معهم بحسب الظروف والأوقات الممكنة ، وقد يفرق بيننا الغائب المنتظر دون أن نشبع تعطشنا وشوقنا لمجالستهم والنهل من سلسبيلهم الدفاق ومعينهم الصافي ..


مِن هؤلاء الأحبة .. شخص يُدعى ، إسمه كإسمي ، وعمره كعمري ، بل زاملني في الدراسة من الصف الأول متوسط وحتى الثالث ثانوي ، لم نفترق طيلة هذه السنوات إلا في الإجازات الدراسية ، بل حتى طاولات الدراسة كانت متلاصقة نظرا لأن إسميّنا في مؤخرة القائمة ودائما ما نجلس وحدنا في غرفة الإختبار ، أو في غرفة الإنتظار للإختبارات الشفوية .. بإختصار ، كان شقي الآخر ونصفي الذي لا أتخلى عنه في المدرسة ، لا يكاد المدرس ينادي يوسف الأول إلا ويتبعه بيوسف الآخر .. كتب الله لي أن تتغير نظرتي تجاهه في الصف الأول ثانوي نظرا لأن يوسف كان رفيق سوء ولم أكن أنتبه لذلك في الصغر ، لكن منذ بداية المرحلة الثانوية وأنا أتأذى منه وأتضرر .. فقد كان سليط اللسان ، طويل اليد ، لا يكن لأحد إحتراما أو تقديرا .. يتحاشاه الطلاب ليس خوفا منه بقدر رغبتهم في عدم إستفزازه حتى لا يتكلم بالحديث الساقط والكلمات الشوارعية .. كانت إدارة المدرسة تحاول جاهدة فصله من المدرسة لسوء سلوكه ولصعوبة التعامل معه ، وكثيرة هي المرات التي تم عقابه فيها أمام الطلاب لسوء سلوكه ، وطالما تم إحضار والده كي يجد حلا لإبنه .. زاملني في الدراسة حتى الثالث ثانوي ، وكانت علاقتي معه في المرحلة الثانوية مصحوبة بشيء من الحذر والترقب من أن يتطاول أو يتمادى ، ولم أتنفس الصعداء إلا بعد أن استلمت شهادة الثالث ثانوي مبتعدا عن رفيق السوء هذا إلى الأبد ، إذ كنت مصمما على أن أقطع علاقاتي مع طلاب الفصل بشكل مؤبد إلا من بعض الذين يستحقون الوصال .. وكان لي ما أردت ..


وفي منتصف السنة الجامعية الثانية ، تلقيت إتصالا من أحد الأحبة من طلاب الفصل الثانوي ، سأل عن الحال والأحوال والدراسة وأخذ يمازحني ويلاطفني ويذكرني بالأيام الجميلة التي قضيتها معه حتى شعر بأني قد سُررت ولن أرفض له طلبا يطلبه .. فدعاني لتناول طعام العشاء في منزله وأخبرني بأنه قد دعا مجموعة ليست قليلة من طلاب الفصل حتى نستذكر الأيام الجميلة التي قضيناها سويا في فترة مضت .. سألته عمن سيحضر ، فذكر لي فلان وفلان وفلان .. فسألته : ومن أيضا ؟ فأجاب .. تقريبا هؤلاء هم الحضور وربما أضيف واحد أو إثنين ، فسألته مصارحا : هل من بينهم يوسف ؟ فقال بتردد : نعم ولكن ..... قاطعته قبل أن يكمل معتذرا منه عن الحضور وأخبرته بأني لا أرغب في أن يظلني أنا ويوسف سقف واحد .. حاول معي وأقسم علي إلا أن أحضر أو أنه سيلغي الموعد ، ووعدني بألا يسمح ليوسف بالتطاول أو إساءة الأدب .. وافقت على مضض وأنا أشعر بأن اللحظات التي لا أحب أن أتذكرها ستعود إلى حياتي من جديد ..

توجهت إلى منزل الأخ الكريم بعد صلاة العشاء وقرعت الباب ثم دخلت بعد أن كان الأحبة قد وصلوا ، سلمت على الحاضرين وتفحصتهم فلم أجد من بينهم يوسف .. حمدت الله كثيرا على أنه لم يأت ِ ودعوت الله بصدق أن يعترضه عارض يمنعه من المجيء فلا أرغب في لقائه مطلقا .. تبادلنا الأحاديث والأخبار وأحوال دراساتنا الجامعية ، كلٌ يدلي بدلوه .. وفجأة ، رن جرس المنزل .. فذهب صاحبي لفتح الباب ثم عاد إلينا وقال للزائر .. تفضل تفضل يا أبو يعقوب ، زادت نبضات قلبي واستجمعت قواي ، ثم رسمتُ على شفتاي إبتسامة صفراء صغيرة أؤدي به واجبي تجاه يوسف حتى لا أقع في الإحراج معه أمام الطلاب إن أنا صددت عنه خصوصا وأن الحاضرين يعرفون ما بيني وبينه .. ثم دخل يوسف ..

والله أيها الأحبة حين رأيته لم أتمالك نفسي .. صافح يوسف الشباب واحدا تلو الآخر حتى وصل إلي .. صافحته بحرارة دون أن أنطق بحرف واحد ، بل كانت دموعي ودموعه خير تعبير لكل منا .. أصررت عليه أن يجلس بجواري وأخذت أحادثه وأحاوره وكأن المجلس لي وله دون سائر الأحبة ، بل نسيت تماما أين أنا ولماذا جئت ، لقد كان حضور يوسف بمثابة الحدث الجلل في ذلك المجلس الذي غيّرني على جلسائي وأشغلني عنهم وعن صاحب المنزل كذلك .. وبعد كفحلة ٍ قصيرة سألته : خير إن شاء الله يا أبو يعقوب ، أرى على حالك ومظهرك بعض التطورات الجديدة التي لم نعهدها من قبل ؟ اللحية ليست كماهي بل تم إعفاؤها ، والثوب لم أجده كما عهدته بل تم تقصيره ، والوجه مستنير بنور الطاعة والإيمان بعد أن كان ما كان .. أخبرني ما الذي غيّرك ؟ لقد كنت تتندر على الأستاذ الفلاني لأن لحيته طويلة ، والأستاذ الآخر الذي يطبق السنة في ثوبه .. فمالذي غيّرك على هذا الحال ؟

بكى وسالت دموعه بحرارة ، في مشهد شهده كل الحضور الذين تركوا الأحاديث الجانبية وتوجهت قلوبهم قبل أبصارهم وآذانهم إلى البقعة التي أجلس فيها مع سميي ، وبعد لحظات قليلة صامتة لم يتحدث فيها أحد إلا دموع يوسف .. تحدث السميّ فبكى مرة أخرى وأبكى ، ثم أخبرني بالخبر ، وأن الله سبحانه وتعالى قد منّ عليه بالهداية بعد طول إنتظار لها ، وأبلغني بأنه قد أصبح إماما لأحد المساجد وأن حياته تغيّرت 180 درجة وسألني بالله أن أتجاوز عن كل ما بدر منه وأن أعفو وأصفح فقد كان يشعر بمرارة ما كان يقترفه نحوي ونحو سائر الطلاب .. ثم تبادلنا أطراف الحديث وتناولنا طعام العشاء وأعطيته رقم هاتفي وبادلني بالمثل ، ثم أنصرفنا .. أو بمعنى أصح ، أنصرفت أجسادنا فقط ، أما قلوبنا فقد سُرت بما حدث وقررت البقاء مرفرفة في سماء الحب والإخاء لتجسّد الأخوة الإسلامية الزاكية في أصفى صورها وأحب معانيها ..


بعدها لا يكاد يمر أسبوع أو أكثر إلا ويتحفني برسالة من إنشائه يذكرنا بالله ويشحذ هممنا للدعوة إلى الله وبذل الخير والمعروف إلى الناس ، كنت أشاهده في الحرم النبوي بين الفينة والأخرى وأسعد بمجالسته والإستئناس معه ، فقد صار من أحب الأصدقاء إلي وأقربهم بعد أن كان في وقت مضى من أكثر الناس بغضا في قلبي .. ومرت الأيام تلو الأيام ، وعلاقتي معه لا تزال كما هي ، مقابلات في المسجد النبوي ، ورسائل جوال أو مكالمات يصلني به وأصله .. وأستمر هو في إمامته للمسجد وطلبه للعلم وتفرغه للدعوة .. وكان مابين الفينة والأخرى يجمعني مع بعض طلاب الفصل في منزله ، نصل بعضنا البعض ونتقرب إلى الله بصلة الأحباب ومجالستهم ..


تغيرت نظرات الناس نحو يوسف 180 درجة .. صار الشيخ يوسف بعد أن كان الصايع يوسف ، صار ينافس مؤذن المسجد في الأذان لصلاة الفجر بعد أن كان يقف بسيارته خارج المسجد وقت الصلاة .. صار حسن السيرة ، طيب المنظر والمعشر ، صادق الود والإخاء ، حبيبٌ قريبٌ أنيسٌ جليسٌ .. وآخر لقاء جمعني به كان قبل عدة أشهر في الإجازة الصيفية الماضية ، ألتقيته في الحرم النبوي وجلسنا قرابة النصف ساعة ثم أستأذنني في الإنصراف وصافحني بحرارة ولم يكتف بها بل ضمني إلى صدره وعيناه مغرورقة بالدموع طالباً الدعاء له بالإستمرار على الخير والطاعة والهداية .. وشعرت في مصافحته تلك ودموعه بأنها ليست ككل المصافحات ، بل هي مصافحة من نوع غريب لا يعجبني .. ولعلي كنت محقاً ..

إذ في شهر ذي القعدة الماضي 1425 .. أي قبل شهرين تقريبا ، سافر يوسف إلى الرياض لبعض شؤونه الخاصة ، وعاد منها في آخر الشهر ذاته .. وفي أثناء عودته وبعد أن أجتاز القصيم في طريقه إلى المدينة المنورة ، حدث مالم يكن بالحسبان .. إنفجر أحد إطارات سيارته مما أدى إلى إنقلابها عدة مرات ثم استوائها على سقفها جانب الطريق .. توقف المسافرون الذين كانوا خلف السيارة ليستعلموا الخطب ويحاولوا إنقاذ السائق ومن معه .. وتمكنوا بحمد الله وتوفيقه من إخراج جميع من كان في السيارة ، وكانوا كلهم بصحة جيدة سوى بعض الخدوش الطفيفة التي لا تذكر .. إلا شخص واحد ، أخرجوه والإبتسامة تملئ وجهه المشرق ، وجبينه الزاكي يتقطر دماً بعد أن تعرض لإصابة بليغة في الرأس ، وكانت سبابته مرتفعة إلى السماء ولسانه يلهج بتمتمات غير مفهومة .. حاول أحد المسافرين أن يحدثه لكنه لم يستطع بسبب تجاهل المصاب له ، فأقترب منه وألصق إذنه في فم المصاب ليسمع منه ما يقول .. فوجده يكبر ويهلل ويحمد الله ، ثم قال هذا المصاب بصوت خافت : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله ، ومات ..

هل عرفتم من هو هذا المصاب ؟

إنه يوسف .. نعم ، صديقي يوسف الذي حدثتكم عنه وعن أخباره في المدرسة ثم ذكرت لكم نبأ هدايته وصلاحه وإمامته للمسجد .. مات رحمه الله قبل شهرين من الآن ولا أزال أتذكر الحادثة كأنها وقعت بالأمس ، رحمك الله يا يوسف رحمة واسعة وأسكنك نعيم الجنان وجمعني بك مع النبي صلى الله عليه وسلم .. مات رحمه الله بعد أن كتب الله له الهداية والصلاح وقبضه عليها نحسبه كذلك والله حسيبه .. ولا أدري هل أقبل فيه التعازي لوفاته ورحيله عن دنيانا ، أما أقبل فيه التهاني بسبب هدايته وصلاحه وخاتمته الحسنة .. إلى جنان الخلد أيها السميّ الحبيب ، إلى جنان الخلد مع الحبيب صلى الله عليه وسلم وصحبه الأخيار من المهاجرين والأنصار ..


إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا مايرضى ربنا .. وإن على فراقك يا يوسف لمحزنون ..
رحمك الله يا يوسف لقد تركت في قلبي لوعة وحزنا وأسى لايطفئه إلا لقياك في جنان الخلد بإذن الله ..
سلام على روحك أيها الحبيب في الخالدين .. وجمعني الله بك مع النبي وآله وصحبه في جنات النعيم ..

كتبه بأدمـعه قبل حروفه ، والحزن يعتصر قلبه على فقد أقرب حبيب : سميّ العزيز .
أرجوكم إخوتي واخواتي ، أدعوا له ولا تنسوه من صالح الدعوات ، أسأل الله لي ولكم حسن الختام ..


.
.
.
.
.
كتبت ُ الموضوع بأحد المنتديات المجاورة وآثرت ُ أن أكتبه لكم هنا كي تعم الفائدة الجميع ،
ولكي يتعظ المرء قبل أن يكون عظة ، ويعتبر قبل أن يكون عبرة .. وجزاكم الله خيرا ..
10
1K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

مضيعة وعرموشة
الله يرحم جميع أموات المسلمين
& أسيــــــــــــــــل &
اللهم أرحم موتانا وموتى المسلمين

اللهم إنّا نسألك حسن الخاتمة
[£] شذا الزيزفون [£]
الله يرحمه رحمه واسعه ويغفر له ولجميع المسلمين..

والله بكيت يوم قريت القصه...

الحمدلله على كل حال....

سلاااااااااااااااااااااام...
روح المسك
روح المسك
أخي الفاضل ....:44:

والله ثم والله ثم والله أحسست كانني أنت ويوسف صديقي.... اندمجت بالقصة... وكم حزنت حزنا شديدا.... :06:

واحس بأنك اخترت لك هذا الاسم كنية عن حبك لصديقك يوسف غفر الله له ورحمه....:(

الله يصبرك اخي.... فإن كنت بالفعل تحب يوسف فكن على أثره..... واعمل له صدقة جارية مثلا حفر بئر او ما شابه..... ولا تنسى الدعاااااااااااااء فكم يحتاج إليه.....


يا الله كم محزن أن نفقد مثل هؤلاء الشباب....:06:

لله ما أعطى وله ما أخذ..... :(
اجا الليل
اجا الليل
قصه مبكيه حقا
اللهم ارحمه رحمة واسعه واغفر له وجميع المسلمين

اللهم انا نسألك حسن الختام...