لقد أقبلت من بعيد متزينة متعطرة، وقد بلغت في الجمال منتهاه، وفي الحسن غايته، ومع هذا فهي تتبرج وتتلون، تتعرض للغادي والرائح، تتفنن في الإغواء والتزيين؛ عيناها تقذف بشرر كالسحر بل هو أعظم، وتقاسيم وجهها تنبئ عن عبارات الفتنة وشعارها: "هَيتَ لك". فكم من هائم في حبها ومغرور بعَرَضها وغارق في لجج الهيام والصبابة لها. إنها تملك دخول كل بيت دون إذن أو قرع باب، إنها تسكن العقول وتعانق سويداء القلوب، تسعى ويجري الناس خلفها، تشاركهم المأكل والمشرب، تخاطبهم إن تحدثوا، وتشغل تفكيرهم إن صمتوا، هي حديث القوم وسمير مجالسهم، تنام معهم، وتستيقظ بيقظتهم.
عشقها العاشقون، وهام بها المحبون، كم لها من عاشق متأوه ومتيّم متحسر ومحب متألم، ظهرت في زينتها، وعرضت في فتنتها، وتبدّت في محاسنها، فخُدع بها أُناس، وافتتن بها فئام، ظنوا أنها صادقة في الحب مخلصة في الشّوق توّاقة للغرام وفيّةٌ للأحباب ناصحة للأصحاب، فتنافسوا في كسب ودها، واقتتلوا للظفر بقربها، فأردتهم صرعى، وتركتهم هلكى، وذلك جزاء الحمقى. والعجب أن خُطّاب ودها وطلاب مجدها لم يعتبروا بإخوانهم من العشاق القدامى، ولم يتعظوا بمن خدعتهم من النّدامى، فارتموا في أحضانها، وتسابقوا في ميدانها، وهي لا زالت تتفنن لهم في إبداء زينتها، وتتحبّب لهم ببعض مباهجها، حتى إذا أحكمت الزمام، غدرت وفجرت وفتكت وقتلت. كم لها من محروم يتألم ومهضوم يتظلّم، كم ذبحت من فارس على مخدة الترس وعروس على منصة العرس، فمن هي هذه الفاتنة؟! ومن تكون تلك الخائنة؟!
إنها الدنيا، الدنيا التي لها من اسمها نصيب، الدنيا التي عشقناها بل هِمنا في حبها وتنافسنا في قربها، وأمهرناها أنفسنا ومشاعرنا وقلوبنا إلا من رحم ربك.
لو تأمّلنا أحوالنا بل وأحوال من سبقنا لوجدنا أن الدنيا وحبها والحياة وطيبها هي سبب رئيس في كل نازلة وعنصر مهم في كل قارعة، فما طغى فرعون وأمثاله إلا حينما أخلدوا إلى الأرض ومباهجها وخُدعوا بالحياة وزينتها، وما بغى قارون وأمثاله إلا حينما فُتنوا بنعيم الحياة وغرهم المال والجاه، قال الله تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ . إنها الدنيا بشهواتها وشبهاتها وملذاتها.
وهكذا على مرّ العصور تجد أن عِشق الحياة والتعلق بأذيال الدنيا سبب في الشقاء وطريق للعناء، كم ذهب لأجلها من نفوس، وكم تطاير من رؤوس، وكم سُحق من جماجم، وكم أُريق من دماء، وكم شُرّد من أناس، وكم عُذب من أقوام، وما ارتقى المسلمون إلا حينما تجافوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة، وما خُفِضت رؤوسهم ونُكّست أعلامهم وذهبت عزتهم إلا حينما رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فأقبلوا عليها، وتنافسوا فيها، وتركوا الجهاد، وأكلوا الربا، وأخذوا بأذناب البقر.
أيها المؤمنون، تعالوا بنا نقف وقفة تأمل وعظة وتفقه وعبرة مع هذا العدو اللدود والغاشم الغادر، فقد فَنِيَت أعمار كثير منا وانصرمت أيام فئام منا ونحن لا نزال في غمرة الدنيا وسكرة الحياة، فيا عجبًا لمن جاءه العام تلو العام ومرّت به السنة بعد السنة، تُذّكره بالحياة الآخرة، وتدعوه إلى النعمة الدائمة، وهو في غفلته وشروده وبُعده وجحوده.
فيا من قَضيت العمرَ وراء شهواتها، ألم يأن لك أن تنظر في أمرك؟! ويا من انصرمت أيامه في الدنيا وملذاتها، ألم تبك على عمرك؟! يا من أقبلت على الدنيا بحلالها وحرامها وفُتِنتَ في غرامها، ألم تفكر في النهاية وتتأمل في النتيجة؟!
إنها الدنيا؛ إذا وصَلَتْ فتبعات موبقة، وإذا فارقت ففجعات محرقة، ليس لوصلها دوام، وما من فراقها بدّ، وصفها خالقها وموجدها بأنها لعب ولهو وزينة، فقال جل وعلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ . إنها لعب وضياع، لهو وتفاخر، غرور خادع وأمل كاذب وظل زائل، قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً .
مر النبي بالسوق والناس على جانبيه، فمرّ بجدي أسَكّ ميت فتناوله، فأخذ بأذنه ثم قال: ((أيكم يحبّ أن هذا له بدرهم؟))، فقالوا: ما نحبّ أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! ثم قال: ((أتحبون أنه لكم؟))، قالوا: والله، لو كان حيًا كان عيبًا فيه لأنه أسّكَ، فكيف وهو ميت؟! فقال : ((فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) رواه مسلم، ويقول : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)) رواه الترمذي. يقول علي بن أبي طالب : (مثل الدنيا مثل الحية؛ ليّنٌ مسّها، قاتل سمها، فأعرض عما أعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما أيقنت من فراقها، وكن أحذر ما تكون لها وأنت آنس ما تكون بها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أبعده عنها مكروه، وإن سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش).
هذه هي الدنيا؛ لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تُخْلي من محنة، نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وتبعاتها تبقى، قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ . من نظر إليها بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء وحياتها عناء وعيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل؛ إما بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية.
إنها الدنيا؛ حلالُها حساب، وحرامها عقاب، المكدود فيها شقيٌّ إن ظفر، ومحروم إن خاب، إن أخذ مالها من حلّه حوسب عليه، وإن أخذه من حرام عذِّب به، من استغنى فيها فتِن، ومن افتقر فيها حزِن، ومن أحبَّها أذلّته، ومن تبعها أعمته.
هي الدار دار الأذى والقذى ودار الفنـاء ودار الغِيَـر
فلو نـلتهـا بحذافيـرهـا لَمُتَّ ولَم تقض منها الوطَر
إنها ظل الغمام وحلم النيام، من عرفها ثم طلبها فقد أخطأ الطريق وحُرم التوفيق، قال : ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالمًا ومتعلمًا)) رواه الترمذي. قيل لأحدهم: ترك فلان بعد وفاته مائة ألف درهم، فقال: ولكنها لا تتركه. فالسعيد من اعتبر بأمسه واستظهر لنفسه، والشقي من جمع لغيره وبَخَلَ على نفسه. ليس لك ـ يا ابن آدم ـ من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت. فالعاقل لا ينخدع بها، بل يعتبر بمن مضى من الأمم السابقة والقرون الماضية؛ كيف عفَت آثارهم واضمحلت أنباؤهم.
نبكـي على الدنيا وهل من مَعشر جَمعتهم الدنيـا فلم يتفرقـوا
أين الأكـاسرة الجبـابرة الأولَى جمعوا الكنوز فما بقينَ ولا بَقوا
من كلّ من ضـاق الفضاء بجيشه حتى ثـوى فحواه لحدٌ ضيِّـقُ
يقول : ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)) رواه مسلم.
إنها الدنيا؛ إذا حلّت أوحلَت، وإذا كست أركست، وإذا جلَت أوجلت، وإذا أينعَت نعَت، وإذا دنت أودنت. قال ابن رجب رحمه الله يصف الدنيا: "ما يعيب الدنيا بأكثر من ذكر فنائها وتقلّب أحوالها، وهو أدلّ دليل على انقضائها وزوالها، فتتبدل صحتها بالسقم، ووجودها بالعدم، وشبيبتها بالهرم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت فتفارق الأجسام النفوس، وعمارتها بالخراب، واجتماعها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب".
هي الدنيا تقول بملء فيها حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسـام فقولِي مضحِك والفعل مبكي
احذر أن تفتن بها وأن تنقاد لزهرتها، وكن من الذين فطنوا لحالها والتزموا بأوامر خالقها وباريها.
إنّ لله عـبـادًا فُـطَنًـا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلمّا علمـوا أنها ليسـت لحيّ وطنًـا
جـعلوهـا لجّة واتخذوا صالح الأعمال فيها سُفُنا
معاشرَ المسلمين، الدنيا مَهلَكة، والفرح بها مَتلَفَة، والانخداع بها مصيبة، فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى .
لقد فُتح على الناس من زهرة الدنيا وزينتها في أيامنا المتأخرة ما لم ترَ البشرية زينة ولا فتنة ولا بهرجًا قبلها، فتنٌ محدقة، وشهواتٌ مغرقة، وقنوات هابطة، وشاشات مدمرة، زُيّنت الشهوات، وقُرّبت الملذات، وأصبح الملتزم بدينه والمحافظ على نفسه وأهله كالقابض على الجمر، فيا بشرى لمن صان نفسه، وحفظ دينه، وطهّر بيته، وصدَق في تربيته، قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ .
تلك هي الدنيا؛ تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت، شدةٌ ورخاءٌ، سراءٌ وضراءٌ، دار غرور لمن اغترَّ بها، وهي عبرةٌ لمن اعتبر بها. إنها دار صدقٍ لمن صدقها، وميدان عملٍ لمن عمل فيها، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ . تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، ويُبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ .
أيها المسلمون، لا يُقصد بذم الدنيا تركُها بالكلية والتجافي عنها تمامًا، وإنما القصد من ذلك تركُ بهرجها الزائف وبريقها الخادع، وعدم الاغترار بها. ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فالمؤمن يتخذها طريقًا للجنة ومزرعة للآخرة وتزودًا للتقوى.
ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب فقال له: (الدنيا دار صدق لمن صَدَقها، ودار نجاح لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ومهبِط وحي الله ومصلى ملائكتِه ومسجد أنبيائِه ومتجَر أوليائه، ربحوا منها الرحمة، واحتسبوا فيها الجنة). قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ، قال : ((والله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) رواه البخاري. سئل النبي : من أكيس الناس؟ فقال: ((أكثرهم ذكرًا للموت وأشدهم استعدادًا له، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)).
يقول علي بن أبي طالب : (يا أيها الناس، اتقوا الله الذي إن قلتم سَمِع وإن أضمرتم عَلِم، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم وإن أقمتم أخذكم).
فخذ ـ يا عبد الله ـ من نفسك لنفسك، وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك وزد في حسناتك، فإنك راحل لا محالة، وسائر في الطريق الذي سار فيه الآباء والأجداد والأصحاب والأحباب.
ما للمقابر لا تجيب إذا دعاهنّ الكئيبُ؟! حُفرٌ مسقّفة عليهنّ الجنادل والكثيب، فيهن ولدان وأطفالٌ وشبان وشيب. كم من حبيب لم تكن نفسي بفرقته تطيب، غادرته في بعضهن مجندلاً وهو الحبيب، وسلوتُ عنه وإنما عهدي برؤيته قريب.
أيها المسلمون، إن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن اغتنامه فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء اغتنامه بارتكاب المعاصي والسيئات حتى لقي الله عز وجل على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يُحاسب، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سببًا في هلاكه
والخوف من سوء الخاتمة هو الذي أخاف قلوب الصدّيقين وأرهب أفئدة الصالحين، ولماذا لا يخافون من ذلك والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟! كم سمعنا عمن آمن ثم كفر، وكم رأينا من استقام ثم انحرف، ولذلك كان صلوات الله وسلامه عليه كثيرًا ما يردد: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)). لقد ارتدّ في زمن النبي بعض من آمن فخرج من النور إلى الظلمات، ولذا فقد كان يشتد خوف السلف الصالح من سوء الخاتمة، وإذا تأملنا أقوالهم عند الاحتضار أخذنا من ذلك العبرة والعظة:
لما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: يبكيني بُعدُ السّفر وقِلَّة الزاد وضعف اليقين والعَقَبة الكؤود التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار.
ويروى أن عمرو بن العاص لما دنا من الموت دعا بحراسه ورجاله، فلما دخلوا عليه قال: هل تغنون عني من الله شيئًا؟! قالوا: لا، قال: فاذهبوا وتفرقوا عني، ثم دعا بماء فتوضأ وأسبغ الوضوء، ثم قال: احملوني إلى المسجد، ففعلوا، فقال: اللهم إنك أمرتني فعصيت، وائتمنتني فخنت، اللهم لا عذر فأعتَذِرُ، ولا قويّ فأنتَصِرُ، بل مذنب مستغفر، ولا مصر ولا مستكبر.
فإذا كان هذا هو حال الصالحين والأبرار فنحن أجدر بالخوف منهم، وإنما أمِنّا لجهلنا وقسوةِ قلوبنا.
قال الله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذالِكَ نُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .
فالدنيا وجميع ما فيها من الخضرة والبهجة والنضرة تتقلب أحوالها وتتبدل ثم تصير حطاما يابسا، وأجسام بني آدم وسائر الحيوانات كنبات الأرض، تتقلب من حال إلى حال، ثم تجف وتصير ترابا.
قال بعض العلماء: "كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا".
وهذا هو الفرق ـ يا عباد الله ـ بين حالنا وحال الرعيل الأول والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم؛ فإن الدنيا كانت بأيديهم ولم تكن في قلوبهم، بل كانت قلوبهم لهذا الدين ولهذا الإسلام، وأما نحن فأصبحت الدنيا في قلوبنا، وأصبح الدين في أيدينا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
دخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟! فقال: إن لنا بيتًا نتوجه إليه، فقال: إنه لا بد من متاع ما دمت ها هنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا.
وكان علي بن أبي طالب يقول: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل).
أيها المسلمون، إذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطن فينبغي عليه أن يكون فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب في بلد غُربَةٍ، فلا يتعلق بها قلبه، بل همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو في سير دائم في الليل والنهار إلى بلد الإقامة.
فحيَّ على جنـات عدن فإنها منازلك الأولى وفيهـا المخيَّم
ولكننـا سبْي العدوّ فهل ترى نعـود إلى أوطـاننـا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطـانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التِي أصبحت لها الأعداء فينا تحكم
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة؟! وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يومٌ مضى بعضك.
نسير إلَى الآجال فِي كل لحظة وأيـامنا تُطـوى وهنّ مراحل
ولَم أر مثل الْموت حقًـا كأنه إذا مـا تخطّته الأمـاني بـاطل
وما أقبح التفريط في زمن الصّبا فكيف به والشيب للرأس شاعل
ترحّل من الدنيا بزادٍ من التّقى فعمـرك أيّـام وهـنّ قلائـل
يا معاشر المسلمين، إلى متى الركون إلى هذه الدنيا؟! إلى متى هذا التكالب عليها؟! وإلى متى التسويف بالتوبة؟! فالواجب علينا أن نبادر بالأعمال الصالحة قبل أن لا نقدر عليها أو يحال بينها وبيننا بمرض أو موت أو غير ذلك من الأشغال. ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية، قال الله تعالى: حَتَّىٰ إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ .
النفس تبكـي على الدنيـا وقـد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنهـا إلا التِي كـان قبل الْموت يبنيهـا
فإن بناهـا بخير طـاب مسكنـه وإن بنـاهـا بشرّ خـاب بانيـها
أين الملوك التي كانـت مسلطنـة حتَّى سقاها بكأس الْموت ساقيهـا
أموالنـا لذوي الميـراث نجمعهـا ودورنا لِخـراب الدّهـر نبنيهـا
كم مـن مدائن في الآفاق قد بُنيت أمست خرابًا وأفنى الموت أهليهـا
لا تركنن إلى الدنيـا ومـا فيهـا فالموت لا شـك يفنينـا ويفنيهـا
واعمل لدار غدًا رضوان خـازنها الْجـار أحمـد والرحمـن بانيهـا
قصـورها ذهب والمسك طينتهـا والزعفران حشيـش نابت فيهـا
فالتوبة التوبة عباد الله، فإن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
يا ابن آدم، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
أيها المسلمون، اسمعوا إلى كتاب ربنا يحكي قصة أهل الدنيا المتمسكين بها الذين لم يرعَوا حق الله فيها، متمثلة في شخص قارون: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يٰلَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ ٍوَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ .
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودَرَك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، ونسألك اللهم خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة...
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة
والله يخرجنى منها على خير