وأخيراً نزلت الدمعة000

لقد بكيت كثيرا عندما قراًت هذه الكلمات التي كتبها اًبن مدينتي لفقده اًمه000 اساًل الله اًن يتغدها بواسع رحمته ويصبر قلب اًبنها 000 عاما مضى ثم تلاه عام وأنا متظاهرا بالتماسك ومتظاهرا بالصلابة وقلبي يتفطر من الألم في داخل أضلعي. فنبضاته أحيانا توشك على اقتلاعه خارج الصدر.
لم أحاول يوما أن اترك لقلبي الحرية في البوح بمكنونه، فمنعته وأوصدت عليه الأبواب كما فعلت الشيء نفسه مع عيني الذابلة من غير بكاء ولم اسمح لها بإرسال الدموع المتحجرة في مآقيها.
ولكن بعد مضي حولين وبعد أن اعتقدت إنني نجحت في السيطرة على مشاعري وعلى القلب والعين حدث ما لم يكن بحسباني ومن غير أن أكون مستعدا لذلك. لقد ثار القلب وهز الأضلع بعنف مصدرا زفرات ذات زمجرة شديدة متآمرا مع العين التي أرسلت دموعها مدرارا.
في تلك الليلة الحالكة السواد الكئيبة الشديدة البرودة وأنا مستلقيا على ظهري في غرفتي سبحت بي الأفكار بعيدا لتهرب بي من شدة البرد وكآبة الليلة لتفجر براكين خافقي وتنثر شلالات دمعي. لم تستطع الكفين كفكفة الدموع ولم تستطع المناديل مسحها فلقد تشربت بها حتى ارتوت وزادت. لم استطع حبس زفرات قلبي المريرة التي رضخت لحكمي عليها حولين.
ما كان مني إلا التسلل خارج الغرفة حتى لا أيقض من تحملتني وتحملت تصرفاتي الغريبة في الفترة الأخيرة وحتى لا أيقض صغارا لن يدركوا حجم ما أعانيه من الم يهز الأضلع المحيطة بالخافق المتمرد.
خرجت إلى خارج المنزل لأتمشى لعلي اطرد هذا الزائر الغريب وأعود إلى التحكم في الأعصاب والسيطرة على الخافق المتمرد والعين الذابلة ولكن هيهات.
لم اعد اشعر بالبرد ولم اعد اشعر بالوقت ولم اعد أدرك ما يحيط بي في هذا الليل البائس. عندها استسلمت لتلك النبرات والزفرات المحبوسة المكبوتة منذ مدة، استسلمت للدموع المحبوسة المتحجرة والتي أصبحت وكأنها جبل جليد ذائب. لقد تركت العنان للقلب لينبض بشدة وليحطم الأضلع وللعين لتسكب الدمع فما عساي أن اقدر على عمله الآن لقد فقدت السيطرة تماما فبكيت كما لم ابك في حياتي من قبل قط.
بكيتك أنتي ---- بكيتك يا أغلى من عاش في الوجود ----- بكيتك متأخرا ولكنني بكيتك كثيراً -----
لقد بكيتك يا أمي الغالية -----
لقد تذكرتك الآن وكأنني لا اتذكرك في كل لحظة من لحظات حياتي --- تذكرتك بطريقة مختلفة --- تذكرتك كما يتذكر الرضيع اليتيم أمه المرضعة --- تذكرتك يا أمي وبكيتك يا أمي البكاء الذي كان يجب أن يكون.
في تلك الليلة تذكرت صدرك الحنون الذي كنت انطوي فيه صغيرا والذي طالما تلقفني وضمني بين اذرعه عندما احتاج إليه كبيرا ----
في تلك الليلة تذكرت يديك الجميلتين اللتان طالما طبطبت بهما علي ظهري لتسكني روعي ----
تذكرت كيف كنت افرك كفيك الصغيرين الجميلين وانظر إلى الأوردة والشرايين البارزة بهما ثم الثمها تقديرا واحتراما لمقامك يا أمي.
تذكرت عينيك الجميلتين واللتان طالما كنت معجبا بهما على الرغم من ظهور أعراض السنون عليهما إلا أنهما ظلا أجمل عينين في عيني يا أمي.
تذكرت قوامك النحيل الذي لم يثنيه عن التعبد للرب مرض ولا سنين يا أمي.
تذكرت ثغرك الطاهر وابتسامتك التي لا تبارح وجهك البشوش خصوصا عندما تلاعبين أحفادك أبنائي يا أمي.
أماه إنني والله افتقدك ------
افتقد الحنان الذي ارتويت منه صغيرا وغمرتيني به كبيرا ---- افتقد ذلك الحنان الذي لا يعوض ----
افتقدت القلب الحنون العطوف الذي لا ينشغل عن طاعة الرحمن إلا بالتعبد للرحمن ----
افتقدت ذلك القلب المفعم بالحب والذي لم ينضب حبه للآخرين حتى في آخر نبضاته كان موزعا للحب ----
أكثر من كل هذا افتقدت تلك الدعوات الطيبة الصادقة التي كنت تحيطيني بها كل صبح ومساء والتي كانت لروحي بمثابة الغذاء للجسد يا أمي.

أماه اعذريني يا أمي ----
اعذريني وسامحيني على خطأي في حقك يا أمي ----
اعذريني يا أمي عندما لم استطع نثر دمعي حال انتقالك إلى جوار الرحمن يا أمي ------
اعذريني عندما لم استطع أن أكون أنا كما عرفتيني --- عطوفا شفيقا تدمع عينه عندما يشاهد شخصا يتألم حتى ولو لم يعرفه ---- ولكنني رغم هذا لم استطع أن انثر دمعي على اكبر شيئا أثر فيني وهو وفاتك يا أمي.
لقد تجمدت فيني المشاعر والأحاسيس حينها يا أمي ---- خيل إلي أن ذلك ما كان يجب أن افعله لأكون وأنا الأكبر قدوة لأخواني وأخواتي الأصغر في الصبر والجلد ----
إنني الآن اغبطهم لأنهم بكوك كثيرا عندما لم تذرف مدامعي عليك شيئا---- واليوم هاهم يلتهون بحياتهم ومدارسهم وأنا أعاني تبعات ذلك الخطأ الذي ارتكبته أنا بحقك يا أمي. ها انذا يا من وضعت نفسي لهم قدوة في الصلابة ورباطة الجأش عندما تحل المنون لم اعد استطع الصمود فلا العين توقفت عن البكاء ولا الصدر توقف عن النحيب.
إنني أكاد أحطم أضلعي كل ليلة من جراء النحيب الذي انتحبه عليك متأخراً يا أمي.
لقد مر على وضعي هذا أسابيع وأنا أعاني متلذذا بدموع العين وزفرات القلب وكأنهما يعاقباني على ما اقترفته من جرم بحقك أيتها الطاهرة عندما حبست الدمع وكتمت القلب عن بكائك والحزن عليك ظاهرا وأبقيتهما في داخلي يكابدان معي ما أكابده.
ولكنني والله بكيتك يا أمي في داخلي كثيراً ومازلت أبكيك يا لغالية ولكن القلب والعين يرفضان ذلك ويرفضان تركي وشأني
لقد بكيتك يا أمي صامتا -------
لقد بكيتك صامتا أثناء تغسيل جسدك النحيل الطاهر -----
لقد نحت عليك صامتا أثناء الصلاة عليك حتى خيل إلي أن المصلين يرددون بكائي من حولي ولم اعد اعرف إن كنت اصلي أو أرثيك يا أمي -------
لقد بكيتك صامتا وجثمانك الطاهر على كتفي حتى خيل إلي أن الناس من حولي يرددون ورائي قصيدة في رثاك يا أمي ------
أماه لقد ترددت كثيرا في استلام جثمانك الطاهر وأنا في داخل القبر لأنني لم احتمل أن أضعك في تلك الحفرة المظلمة يا أمي -----
لقد نزلت دموعي المالحة على ذلك الشاش الأبيض الذي يلف جسمك الطاهر فقمت بتجفيفها من القماش ليبقى ناصعا أبيضا وحتى لا تؤذيك ملوحة دمعي ----- أماه ألم تسمعيني وأنا أخاطب ذلك الشاش الأبيض بأن يكون لطيفا بجسدك الطاهر ؟ ----
أماه لقد كدت اضرب في الناس حول القبر لأنهم نثروا عليك التراب فلم استطع تحمل منظر ذلك التراب ينهال على جسد الإنسانة التي طالما أزاحت التراب والغبار عن جسمي ----- كيف يكون ذلك؟
أماه لقد كنت طوال ذلك الوقت ابكي عليك أي وربي كنت ابكي ولكن بصمت كنت ابكي -----
أماه في طريق العودة من المقبرة بكيتك وكان بكائي لك هو صمتي ----
أماه خلال أيام العزاء لم أتواجد مع الناس أبدا حيث لم يتواجد معهم إلا جسدي الخاوي من الروح ----- كان جسدي هو الموجود أما روحي فلقد كانت تسبح في فضاء الخيال مع روحك الطاهرة ----- ألا تذكرين ذلك يا أمي؟

أماه لقد أطلقت العنان الآن وبكل حرية للقلب والعين على السواء فللقلب أن يحزن كيفما يشاء إلى أن يفقد مهجته وللعين أن تذرف الدمع كيفما تشاء إلى أن تفقد بصرها ---- كيف لا وهما يفعلان ذلك لفراقك يا أعظم إنسانة يا أمي.

أماه اطلب من الله الغفور الرحيم أن يغفر لك وأن يرحمك برحمة واسعة وأن يسكنك فسيح جناته.