وبدأت ألملم جراحي المتناثرة ( قصة أرجو أن تصل لكل من فقد حبيباً )

________________________________________

وبدأت ألملم جراحي المتناثرة ..
فهذا بدري وقد بدأ نبض قلبه يضعف بين يدي ..
وهذا أباه وقد لفظ أنفاسه الأخيرة في هذه الدنيا أمام عيني ..
وأنا أنظر إلى بقية الجراحات المتناثرة
فقد أصيب الجميع في هذا الحادث كل أبنائي وبناتي .. فهذا كسير وهذا جريح وهذه تنزف ،
إلا أنا فلم يصاب جسدي !!
لكنني أُصبت بأكبر الجراح إنه جرح قلبي والذي كنت أشعر به يُنتزع من مكانه ..
وأنا أرى أبا بدري الرجل الصالح والزوج الحنون والسند بعد الله في هذه الحياة وقد فارقنا ..
وأرى قرة عيني ولدي البكر الحافظ لكتاب الله البار بوالديه الضوء الذي يملأ بيتنا وقد بدأ نوره يخبو وينطفئ ..
وتوقف الشعور وفاضت المشاعر ..
وبدأت تنمهر أدمعي أنهاراً .. وهل لي أن أمنعها ؟؟
واجتمع علي إبليس وجنده يحاولون الوصول إلى إيماني من حيث نقطة ضعفي ..
نفسي المبعثرة .. وحزناً يحيط بها .. وموقف موجع .. لا يوصف .. إنها فرصته ..
لكن !!
عند المصائب يتفضل الله على من يشاء سبحانه بمنه وكرمه بأكبر نعمة بعد نعمة الإسلام وهي نعمة الثبات والصبر ..
أقسمت عليك نفسي أن احبسي حزنك فليس هذا وقت الضعف وأنت وحيدة أمام إبليس وجنده .. فإن ضعفتِ الآن ستظلين ضعيفة أبد الدهر ..أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
اللهم أسألك الثبات .. اللهم اربط على قلبي ..
( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ..
( اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها ) ..
اللهم إن المصاب جلل لكنني أقسمت ألا ترى مني إلا ما تُحب ..
اللهم إنه فضلك علي إن ثبتني ..
اثبتي يا أم بدري فها قد جاء زمن التمحيص الذي كنتِ دوماً تسألين نفسكِ عنه !! هل قبلنا الله ؟ وكيف نعلم أننا من عباده المخلصين ؟
أنظر إلى السيارة مقلوبة وأبنائي وبناتي تناثروا هنا وهناك ..
لكلٍ منهم أنين !! إلا بدري وأباه ..
اجتمع الناس علينا ..
ومر الوقت وأنا أستمع إلى الأصوات .. والكلمات ..
أحدهم يصرخ : اتصلوا بالإسعاف ..
والآخر يدعو ويسأل الله لنا الثبات ..
اللهم نرضى بما ترضى لنا ..
اللهم أسألك الثبات ..
لا أعرف كم من الوقت مضى !!
وأنا أحلق تارة في السماء !!
وتارة في الأرض .. أو الفضاء ..
هل كنت أحاول أن أغض بصري عن مصابي في أسرتي ؟
هل كنت أتجنب النظر إلى الدماء التي تسيل من أجساد أطفالي ؟؟
هل كنت أحاول سد أذني حتى لا أسمع أنينهم ؟؟
لكن الحقيقة توقف الشعور وإن كانت المشاعر تختلط .. أنه وقت اللا شعور يتفضل به الله علينا فنصاب بحالة جمود بعد الصدمة ..
لا .. لا .. بل بعد الصبر عند المصيبة ..
نعم أصبحت واجمة أسمع كلمات وأرى وجوه ..
أثبت نظري على حُسن بدري وهو مسجى بين يدي .. والنور يملأ وجهه .. وابتسامة تضيء محياه ..
وكأنه نائم يحلم حلم جميل .. هل سينجو ؟
أم هي علامات الفراق ؟
في جميع الأحوال ، مع الله ، سوف ينجو ..
بعدها لا أذكر كيف انتقلنا إلى المستشفى جميعاً ..
تم إعطائي مسكناً وعندما استيقظت .. حاولت الطبيبة أن تخبرني بالتدريج
وفرت عليها المهمة .. أعلم أن زوجي توفي !!
هل لحق بدري بأباه ؟؟
أجابت : بل لا يزال هناك نبض خفيف لا يدل على شيء فهو للحق في عداد الأموات فلا تؤملي كثيراً ، أما بقية الأبناء والبنات فبخير ولله الحمد إلا من بعض الكسور والرضوض والإصابات البسيطة ..
أجبتها : الأمل في رحمة الله في جميع الأحوال ..
وظل على حاله بنبضه الضعيف .. وقلبه الذي لم يعد يحتمل .. وكأنه سراج جف وقوده ..
صباح يوم الأحد .. استقبلتني الطبيبة !!
قالت : عظم الله أجرك يا أم بدري وجعل الله بدري وأباه ذخراً لكِ في الجنة ..
اللهم لك الحمد والشكر ..
هل هذا هو موضع الشكر ؟ ( وقليل من عبادي الشكور )
لا اعلم لكنني أعلم أن الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ..
وذهبت لرؤيته !!
وتساقطت قطرات أدمعي على وجهه الوضاء ..
آآآآآآآآآآه كم أحبكَ يا بدري ..
اللهم أبدل حبه في قلبي صبراً !!
سبحان الله هل الموت قريباً إلى هذا الحد ؟ كم استبعدناه !!
قبل الحادث بدقائق كنت في نقاش مع أبا بدري لشراء بعض ضروريات المنزل … فقال لي : أبشري يا أم بدري لكن اليوم جمعة لنأخذ الأبناء إلى البحر أولاً وبعد ذلك يصير خير ..
كانت هذه قبل لحظات من الحادث أكبر همومي المنزلية والأسرية .
لم أكن أعلم أنني سأحمل هم أسرة بلا أب ولا مصدر رزق .. لكن الرزاق هو الله ..
هل هذه هي الدنيا ؟ تمضي بنا يوماً وكأنها ما كانت ..
ذهب أبا بدري وكأنه لم يكن !!
ذهب بدري وكأنه لم يكن !!
دخلت المنزل لكنه دخول يختلف عن خروجي منه ..
ها هو مصحف بدري الكبير هدية حفل التحفيظ قبل أيام عندما تم اختياره لإمامة أحد المساجد في اختبار أجري لعدد من حفظة كتاب الله وفاز بدري ..
كم كانت سعادتي ذلك اليوم !!
دخل بدري سعيداً يملأ النور وجهه ..
هنئيني يا أماه ..
فقد فزت ولله الحمد والشكر ..
ما أسعدني ببدري ..
أهداني مصحفه وقال : أنتِ من يستحقه يا أمي ولست أنا .. لقد كان هذا حلمك وقد تحقق الحلم يا أمي الحبيبة ..
هل حقا تحقق الحلم ؟
حلمي ببدري حافظ كتاب الله منذ ولدته وأنا أمني نفسي وأربي بدري على حفظ كتاب الله ..
بدري وما أدراكم ما بدري ..
أكبر أبنائي أنجبته وأنا صغيرة سن فقالوا لي أنجبته ( بدري ) أي باكراً وأنت لا تزالين صغيرة وأسموه بدري ، وكان بدري ..
أما أباه الرجل الصالح فكان معي يحلم بكل الخير والصلاح لهذا البدري نرجو الله أن يرزقه من فضله ليكون نجماً صغيراً بين عظماء النجوم في تاريخ الإسلام ..
أما البر فليهنأ بك البر يا بدري يا قرة عين أمك وأباك .. وقد رافقت أباك إلى دار الخلود بإذن الله .. أكرم الله أباك فلم يذق ألم فراقك ..
أما حُسن الخلق فاسألوا عنه جماعة المسجد ..
اسألوا عنه معلميه وزملاء الدراسة ..
اسألوا عنه الحي وأهل الحارة ..
يكفي أن تسألوا صديق دراسته ..
كان أحد أصدقاء بدري وكان أحبهم إلى نفسه بكى عليه بكاء شديداً .. افتقده كثيراً .. ومن ثم رآه في النوم يؤم الناس جميعاً في الآخرة ويرفع يده إلى السماء بعد أن أمهم ويقول ( الحور ملئ عيوني ) فسأل أحد معبري الرؤى فسأله المعبر : كيف مات هذا الشاب ؟ فأخبره بخبره فقال : نحسبه من الشهداء ..
فكانت بشارة لي ونعمة تفضل بها علي المولى سبحانه ليطمئن قلبي .. ولله الحمد لم أعترض يوماً على قضاء قضاه الله علي .
أما أبا بدري .. فلن أزد عن أن أقول إنه رجل صالح بما في الكلمة من معنى ( ولا أزكيه على الله ) .. لا أزال أرى صلاح حاله في أبنائي وبناتي.. تركنا في منزل مستأجر صغير به أرملة وأطفال صغار أيتام .. مرت سنوات لم نمد فيها يدنا لغير الله ولم نحتاج لغيره سبحانه ..
سبحان الله الذي لم يضيع إسماعيل وأمه في وادياً بلا شجر ولا بشر ولا ماء .. لن يضيعنا .. سبحانه ..
تذكرت وأنا في شدة الفقد والوجد ..
في شدة الفقر والحاجة ..
قصة هاجر وابنها إسماعيل .. أحسنت التوكل على الله أولاً وأخيراً ..
ثم تذكرت صلاح أبا بدري ..
ووعد الله بأن من يحفظ الله يحفظه ..
كان أبا بدري حافظاً لحدود الله متقياً لله في كل قول وعمل ..
كان الأبناء والبنات صغار ..
وكلما زاد حجم المسئولية .. وزادت الحاجة .. جاء الفرج من المعطي سبحانه..
سبحان الذي ثبتني في شدة البلاء .. ورزقني في شدة الحاجة .. وأعانني في شدة العناء ..
أسأله أن يعينني على ذكره وشكره وحسن عبادته ..



منقـــــــــــــــــول