وداعاً للقسوة
تتسم الشخصية القاسية عادةً بعبوس الوجه، وتقطيب الجبين، وغياب الابتسامة، وحينما يحاول صاحبها أن يبتسم تتجمد ملامحه، ويحسّ بالخجل، وقد يذهب به الوهم إلى أن البسمة تسبب له الازدراء وتزيل هيبته لدى الناس.
وكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- عناه حينما ضرب مثلاً للبخيل الذي لبس جبّة أو جنّة و"كُلَّمَا هَمَّ بِالصَّدَقَةِ انْقَبَضَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا وَتَقَلَّصَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ يَدَاهُ إِلَى تَرَاقِيهِ؛ فَيَجْتَهِدُ أَنْ يُوَسِّعَهَا فَلاَ تَتَّسِعُ" .
لقد تضخمت عنده (الأنا)، واكتمل لديه الترسم الإمبراطوري، حتى أضحى جلده كجلد التمساح، ودموعه كدموعه، وبالتالي ضعف إحساسه بالآخرين، وغابت روح الجماعة، وحينما يتحدث عن (التعاون)؛ فهو يريده من الآخرين، دون أن يضع نفسه معهم على قدم المساواة، وهذا ناتج عن ضعف سيطرته على نفسه، واسترساله وراء النوازع الشريرة، كحب الذات وسوء الظن بالناس.
وهو يعاني ولابد، من الجفاف العاطفي، وربما كانت العاطفة يوماً جذوةً قابلة للاشتعال، ولكن ضعف التعبير عنها رَاكَم عليها التراب حتى صارت في عداد الموتى. لا يستطيع لسانه أن يقول لولده : أحبك. أو أن يقول لزوجته كلمة ملاطفة أو وداد . هو يقول: هذا معروف، ولا يحتاج إلى تعبير أو حديث ، والحقائق تقول: الحب والعاطفة شجرة يسقيها التعبير عنها بالقول وبالفعل، ويقتلها الصمت .
الشخصية القاسية مفرطة الثقة بآرائها وقناعاتها ، عسيرة التحول عنها ، ولذا لا يستفيد الإنسان العنيف من آراء الآخرين ، ويفشل في إقناعهم بالرأي والمشروع الذي لديه، كما أنه يتعامل مع الناس بخوف وريبة ، ويتعامل مع الجديد بتوجس وحذر مفرط ، وينظر إلى الأشياء والأفراد والأفكار من جانبها السلبي دون الإيجابي .
هذا هو "أَلَدُّ الْخِصَامِ" الذي إذا "قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ "، "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا"، وقد نطقت هذه الآيات الكريمة بسماته وخصائصه النفسية والسلوكية؛ فسبحان من أنـزل الكتاب تبياناً لكل شيء !
إن شيوع هذه القسوة، كظاهرة اجتماعية سبب في ذبول الشخصية وضعفها، وتحطيم المواهب والطاقات والكفاءات، وإشاعة الجبن والتردد والارتباك، والخوف من المحاولة والخطأ ، والجزع من كلام الآخرين، وفقدان السعادة والاستمتاع بالحياة، والقسوة المنعكسة على نفسه ومن حوله، وبالتالي تفكك الأسر والدول والجماعات والمؤسسات والمجتمعات .
ولعل انتشار هذه الظاهرة في مجتمعاتنا الإسلامية من أهم أسباب تخلفنا، ولله درُّ عمرو بن العاص -رضي الله عنه- حين قال في وصف الروم: "وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ" ، وجعل هذا من أسباب بقائهم وكثرتهم ونفوذهم إلى يوم القيامة .
ولعل الحملة على القسوة بكافة صورها وأشكالها أحد محاور الإصلاح الصحيح في المجتمع المسلم ؛ فكيف نتخلص من العنف ؟
لعل من أهم ما يعين على ذلك :
1- التدريب على الحوار وآلياته وطرائقه وتقنياته.
- الحوار مع الصغار من الأطفال في التعليم والترفيه والتوجيه.
- الحوار مع المرؤوسين لتفهم وجهات نظرهم وكسب ثقتهم وتحقيق انتمائهم للعمل وشعورهم الصادق بالإخلاص فيه.
- الحوار مع الطلاب في قاعات الدراسة وغيرها، وفي قصة موسى والخضر أسوة وعبرة.
- الحوار داخل شرائح المجتمع وأطيافه للاتفاق على كلمة سواء .
- الحوار مع المنحرفين – أياً كان انحرافهم - لكشف الضلالات عن عقولهم، أو المؤثرات على سلوكهم .
المطلوب إصلاح شامل، وليس إصلاحاً سياسياً فحسب .
هب أن المرء ليس لديه أي قوة إدارية أو سلطوية، أليست لديه قوة العقل وقوة الأخلاق ليؤثر بها على الآخرين بالإقناع، وليس بالفرض والإجبار؟!
2- بناء مؤسسات المجتمع المدني، وإشراك الناس في تحمل مسؤولياتهم، والتفكير في حاضرهم و مستقبلهم ، والدأب على روح العمل الجماعي ، والعمل على إشاعة ثقافة الفريق ، وليس العمل الفردي المعزول .
3- العدل والإصرار على نشر لوائه بين الناس، ولتسقط الشفاعات والوساطات الجائرة التي تحرم الناس حقوقَهم؛ لتحوزها إلى الأقارب أو الأصدقاء أو من يدفعون أكثر.
إن القسوة تتجلى في مجتمع لا يأخذ الضعيف فيه حقه من أي كان، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: "لاَ قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لاَ يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ" .
وإنني أتطلع إلى اليوم الذي يصبح الناس فيه سواسية أمام حكم القانون العادل ( وليس القانون هنا شيئاً آخر غير الشريعة) ، فيتساوون في الوظيفة والفرصة، وإمكانية النقل أو الترقية أو غيرها، والعدل واجب حتى مع المخطئ، فللسجين حقوق، وللمحكوم عليه حقوق "إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ، وَلاَ يُثَرِّبْ عَلَيْهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلاَ يُثَرِّب ْ..." ، بل الذي يساق إلى حتفه له حقوق " فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ".
4- الترويح النفسي المعتدل، فإن النفوس إذا كلّت عميت كما يروى عن علي -رضي الله عنه-، وأن يكون للفرد أو المجموع أوقات وأماكن يستمتعون فيها بتسلية مباحة تزيل عن النفوس همومها وغمومها وتعيد توهجها وإشراقها، فذلك ينفي عنها شرّة الانفعال ويصنع لها التوازن والهدوء الضروري ويجدد الأنسجة والخلايا بعد تلفها أو عنائها ويبعث فيها الهمة والنشاط. .
5- إشاعة الكلمة الطيبة الهادفة والخلق الكريم والابتسامة والنظرة الحانية، وللقدوة دور كبير في ذلك، ولتكن أنت بالذات -قارئ هذه الأحرف- أحد النماذج والقدوات التي تتطوع لتقديم هذا العمل السهل الممتنع مهما يكن رد الأطراف الأخرى، إنها صدقة تملكها وإن كنت صفراً من أرصدة المال.
عوّد نفسك أن تبتسم ملء شدقيك، وبصدق وصفاء لمن تلقاه من إخوانك، محاولاً أن تكون الابتسامة تعبيراً عن شعورك القلبي، وليست ابتسامة صفراء .
6- نشر ثقافة التسامح والعفو والصفح (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا )(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، وهذا هو مظهر القوة الحقيقة، والسيطرة على المشاعر والانفعالات العدوانية، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ" . لم لا أجرّب العفو عمن ظلمني، ولو بعد ما تسكن حرارة الغضب وأن أسامحه حيث يعلم الناس أو لا يعلمون، ومهما تكن دوافعه لهذا الظلم؟!
وحينما أضع رأسي على الوسادة تهيؤاً لنوم عميق، لم لا أنخرط في دعاء صالح للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، دون أن أستثني؟ بل لم لا أخص أولئك الذين ظلموني أو أساؤوا إليَّ بدعوة خالصة صادقة أن يهديهم الله ويسامحهم...؟!
إنه موقف صعب...(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، لكن جرّب أن تقسر نفسك على هذا المعنى الرفيع، ثم انظر...
كم من الراحة وجدتها في نومك؟
وكم من السعادة قفزت إليك حالما استيقظت؟
إن التجربة تؤكد أنك الرابح الأول بلا تردد .
وحتى في الآخرة، فلن يضيع لك أجر .
وحينما تألّم أبو بكر من تنكر مسطح بن أثاثة لجميله وانهماكه في حديث الإفك، وحلف ألا ينفق عليه، أنـزل الله (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا. قَالَ فَلَقِي اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ"، وفي رواية للنسائي " إِنَّ رَجُلاً لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ وَكَانَ يُدَايِنُ...".
إنني أؤمن أن هذا المبدأ يجب أن يشاع بين الناس، لكنني لا أوافق أصحاب فكرة (اللاعنف) كما في كتاب (سيكولوجية العنف) للدكتور خالص جلبي وكما في موقع (اللاعنف) في الإنترنت.
فقد فشل الكتاب وتوابعه في صناعة توازن أخلاقي بين التسامح النابع من قيمة معنوية صادقة وبين القوة العادلة التي هي ضرورة وجودية تمثلت في قوة العقل أو المادة والتي هي سر من أسرار الإصلاح (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ) وهي حماية للإنجاز البشري من تسلط البربرية والوحشية المدججة بالسلاح.
إن تصور التاريخ كله بلا حرب... هو تصور أخرق قد يكون أي شيء آخر إلا أن يكون هو تاريخ البشرية .
7- إن الخطاب الديني مسؤول بصفة أساسية عن إشاعة الرحمة بين الناس، في الخطب والدروس والمحاضرات والكتابات؛ بل والممارسات كافة، وقد كان عبد الله بن المبارك يقول:
مَا يُصلحُ المِلْحَ إذا المِلحُ فسدْ!
يا مَعْشَرَ القُرَّاءِ يَا مِلْحَ البَلَدْ
قد تَحْمِلُنا النكاية أو الغيرة على الانتقام أو المواصلة إلى النهاية، لكن روح الإيمان الصادق تحجز المرء وتقيده، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن" .
ولنردد مع عمر بن عبد العزيز دعاءه الصادق "اللهم إن لم أكن أهلاً لبلوغ رحمتك، فإن رحمتك أهل لأن تبلغني، وسعت رحمتك كلّ شيء، وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين".
_______________
الشيخ : د. سلمان بن فهد العودة
~بنت السلاطين~ @bnt_alslatyn_4
محررة برونزية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
خليك أول من تشارك برأيها 💁🏻♀️