سراب

سراب @srab_1

عضو نشيط

.... وداعـــــــــــــا ... أبــــــــي ...!!!؟؟؟!!! ( قصة حجازية )

الملتقى العام

منذ بضعة أيام مررت بسرادق عزاء .. فدخلت وجلست فيه دون أدنى تردد .. فأنا أعلم جيدا أن الوقوف مع أهل الميت بتقديم العزاء يزيح بعض الأسى من النفوس .. ويجعلها تعي أن قضاء الله لا راد له وأن الموت حق وأن في نهاية المطاف قبر .. وجزاء وحساب ..وأن الدنيا هي بداية المشوار والموت هو بداية أخرى لحياة أخرى .
ويقطع علي خلوة تفكيري رجل يحمل دلة قهوة وقدم لي فنجانا فشربته شاكرا إياه .. وعدت أدراجي إلى صومعة تفكيري ..
لا زلت أذكر جيدا عندما دخلت سرادق عزاء لأول مرة .. كنت يومها في التاسعة من عمري .. قالوا لي أن والدي قد مات .. استثقلت الكلمة الأخيرة في ذهني .. مات ؟! .. ما معنى مات ؟ لم أسألهم .. اخذوا بيدي يومها وأدخلوني في غرفة أمتلئت بنساء متشحات بالسواد .. وكان أبي ممدا في وسط الغرفة معصوب الجبين ، حدقت في الوجوه جيدا .. هذه أمي .. وهذه زوجة أبي .. وهذه امرأة لا أعرفها تنوح وهي تعد نقودها .. إن وجهها مخيف .. اقتربت مني وقالت بصوت خشن : اقترب يا ولدي وقبل أباك للمرة الأخيرة .. ومدت ذراعها نحوي تشدني بقوة نحو والدي الممدد أمام ناظري .. وتساءلت في داخلي .. لماذا لا يستيقظ أبي ويطرد هذه المرأة القاسية ؟ وهؤلاء النساء اللاتي يزعجنه في نومه بالبكاء ؟
وخرج نداء من شفتي يناجي الجسد المسجى أمامي .. أبي .. أبي .. واختنق النداء بدموعي التي سالت من عيني .. إن أبي لا يريد أن يستيقظ .. وامتدت أيد كثيرة تبعدني عن الجسد الواهن .. وكانت تتناثر حول مسمعي كلمات عابرة وهمسات طائشة من هنا وهناك .. فقد كنت أسمع من يقول : مسكين ، قدره أن يكون يتيما .. وعبارة طائشة أخرى صافحت أذني يقول صاحبها : لقد ترك المرحوم ثروة كبيرة سيتقاتل عليها أبناؤه العشرة .. لم أكن يومها أفقه شيئا مما يقولون.. يتيم ؟ .. ثروة ؟ .. مرحوم ؟ .. لا أدري معاني هذه الكلمات .. ولم يكن أمامي سوى عم عمر .. الرجل الطيب صديق والدي .. هو يستطيع أن يفسر لي ما حولي من بشر وأحداث .. جرتني قدماي نحوه ولم يكن على شفتي سوى سؤال واحد طرحته أمامه فقلت له : عم عمر .. إن أبي لا يريد أن يستيقظ .. لماذا ؟ .. فنظر ألي قليلا .. فلمحت في عينيه شيئا يلمع ..ابتسم في وجهي ابتسامة ظللتها سحابة حزن وآسى وقال : انه مسافر .. وسيتأخر في سفره قليلا ..قلت له : مسافر ؟ إذا تعال معي لنوقظه ونودعه .. ومددت يدي محاولا أن يرافقني .. ولكن رأيت بركان الدموع يتفجر في عينيه وينهمر على خديه وغاص وجهه بين كفيه يخفيه عن العيون .. ابتعدت عنه وشعور بالدهشة سرى داخلي وعدت إلي مقعدي مرة أخرى .. وبدأت أتفرس الوجوه من جديد .. بعضها صامت .. وبعضها يبكي بصمت .. وبعضها يتصنع البكاء .. بعضها يتأملني ويضرب كفا بكف ويقول كلمة واحدة : يتيم .. وفيما أنا على هذا الحال أتأمل الوجوه إذا بي أرى رجلين يحملان كرسيا طويلا ويهمان بدخول بيتنا .. فجريت نحوهما ببراءة وقلت : لدينا الكثير من هذا الكرسي .. هل تريدان مثله ؟ .. فدفعني أحدهما بيده مزيحا جسدي الصغير عن الدرب .. عدت إلى مقعدي والحزن يكاد يمزقني .. لم أكن أفقه شيئا مما يدور حولي .. ولم أحاول أن أحلل ما أسمع و ما أرى .. جلست في مقعدي وصور لا تبارح مخيلتي .. صورة النساء اللاتي اتشحن بالسواد وتجمعن حول أبي كالغربان عندما تحلق فوق الضحية .. صورة المرأة التي تذرف دموعها حسب الاتفاق بينها وبين أمي على النقود .. وصورة رجل قال عني : يتيم .. ورجل يبتسم لنكتة أطلقها الذي بجواره .. واخران انزويا وحيدين يتفقان على عقد بينهما .. واخران يتفقان على موعد زفاف ..وآنا .. أنا وحيد في مقعدي انظر إلى هذا وذاك أنتظر أبي أن يخرج ويستقبل ضيوفه .. ولكن انتظاري طال والضيوف ينتظرون .. فحاولت دخول البيت لاستعجاله ..فإذا بي أجد الباب مقفلا من الداخل .. استغربت .. لماذا يقفلونه ؟ .. قرعت الباب ففتح قليلا وأطل رجل برأسه ونظر ألي نظرة هلع لها قلبي فتراجعت قليلا .. أقفل الباب مرة أخرى .. فحاولت أن أقرعه ثانية ولكنني تذكرت النظرة المرعبة من الرجل فجلست على الأرض بجانب الباب .. انتظر .. وفجأة رأيت ماء يتسرب من تحت الباب يمر من بين قدمي .. كيف ؟ .. ومن أين ؟ .. رفعت رأسي نحو السماء ومددت يدي .. لا مطر .. إذن ماذا يفعلون بالماء في الداخل ؟ .. حاولت أن ابحث عن ثقب في الباب أرقب منه ما يجري في دهليز البيت .. وبالفعل وجدت ثقبا في زاوية الباب الخشبي .. ومددت عيني وبدأت أتلصص .. لكن عتمة الدهليز وظلمته جعلت الرؤية غير واضحة .. فلم أر سوى الرجلين الذين دخلا بالكرسي يحومان حول شيء وضع على الكرسي لم أتبينه من شدة الظلمة .. ويصبان الماء عليه ..
وفجأة شعرت بيد تمتد من خلفي وتجرني وصوت يقول : ليس بمستحسن أن ترى هذا المنظر يابني .. انه عم عمر .. آخذني وأجلسني على كرسي بجواره وأخذ يحكي لي حكاية كما كان يفعل عندما كنت أزوره مع والدي .. طالت الحكاية .. وطال الوقت .. وعيناي لا تهبطان عن الباب .. وعم عمر يحاول جاهدا أن يصرف انتباهي عما يحدث في الداخل .ز فكنت اسمعه بلا وعي.. وكاد النعاس أن يغلبني عندما فتح الباب وخرج الرجلان يحملان الكرسي على عاتقهما يساعدهما اخوتي وآخرون .. دققت النظر جيدا .. كأنه شخص نائم ملتحف بملأة بيضاء .. من هو ؟ .. إلى أين يأخذونه ؟ .. لماذا لا يسير مثلهم ؟ .. وأقتل أسئلتي وأحدق جيدا فإذا بي بفراش أبي الأخضر على الكرسي .. انه هو .. أبي .. وحاولت الجري خلف الجنازة ..فإذا بيد عم عمر تمسك بي ويقول : لا داعي لهذا .. بكيت .. صرخت .. أبي .. انتظرني يا أبي .. أرجوك .. كادوا أن يغيبوا عن ناظري .. فأفلت بقوة من بين يدي عم عمر .. وجريت في الشارع وحنجرتي الضعيفة تنادي : أبي .. أبي ..لا تسافر .. انتظرني .. وسقطت على الأرض متعبا .. وبعد جهد رفعت رأسي .. وألقيت نظرة أخيرة على الركب .. والدموع تغسل وجهي .. ورفعت يدي ملوحا : وداعا أبي .. سرقتني ذكريات هذه الحادثة عن سرادق العزاء الذي أنا فيه الآن .. ولم أشعر ألا بصوت يعيدني إلى حاضري قائلا : عذرا يا سيدي يكاد السرادق أن يخلو .. فانتبهت إلى الصوت .. وانتبهت إلي واقعي .. فقمت أقدم التعزية لأهل الفقيد وفي أعماقي طفل صغير في التاسعة من عمره يبكي بهدوء وهو يقول : وداعا أبي ..
7
986

هذا الموضوع مغلق.

yamama
yamama
سراب ،،

كلماتك نسجت حول قلبي شباكها ،،لا أعرف ربما لأنني أمر في هذا الوقت بنفس السرداب والسرداق الذي مررت بهِ قديما ،،

الفقد واحد مهما اختلفت صوره ، ، يظل المعنى الراسخ ُ والنابض فينا معناً واحد ،، يأبى أن يمحى من ذاكرت ِ الروح ِ والمشاعر ،،

سراب،،، أشعر بأنني حتى وإن لم أكن أمر بهذه الفترة ، فكلماتك ستظل محتفظة ً بذات الألق الذي أحدثته الآن ،،

أريد الحديث أكثر ولكن،،

المكان ليس مكان الحديث ،، أشعر بالغربة ِ وأنا أتحدث ،، فالمكان هنا ليس مكان البوح ،،

لا فمكاننا الذي تتناغى فيه أخيلة ُ الشعر والقصة ِ والخاطرة ،، وهو واحتنا الغناء ,,

نعم يا سراب ،، انتقل بما تحمله من مشاعر ٍ إلى الحضن الأصيل انتقل بقصتك هذه إلى الواحة ،، حيث ستستقبلها فاطمة ،، ونينا ،، ووديان ،، ،،،،،، وفي أخر الركب ستكون اليمامة ،،،

لا تخطأ خطأي فتقتلع الإبداع من مكانه لتلقي به بين تيارات الحياة المؤلمة ،،

ارجع إلى قصيدتي (( للهوى شرف ُ )) واقرأ كلامي كله ،، ستجد أنني أشعر بمرارة ِ أنينها بعيدا ً عن الواحة ،،

المجلس العام هو جامع ٌ لشتى المواضيع ِ ،،

وليس متخصصا في كلام الروح ،، فكلام الروح مكانه الواحة ،، الواحة ُ فقط هي القادرة ُ على أن تضمد الجرح ،

وهي وحدها القادرة على أن تسمع حديث أروحنا ،، وترجع الصوت من خلفنا ،،

فارجع إلى الأصل كي يزهر الفرع ،،

يمامه


------------------
ولنسل كل كرامةأنا أنتمي * عربيةٌ ، تاقت إلى استسقاء
fahad
fahad
السلام عليكم

جزاك الله خيرا أخي / سراب

وتقبل الله منا ومنك وكل عام وانت بخير

أخي لقد ابكيتني والله وجعلتني ارجع الى الخلف

واتذكر جدتي العزيزة رحمه الله

ويعجز السان عن قول شيء فأنت لم تترك شيء الا وقلته

لكن هناك نقطه مهمه ذكرته وهي
حال الناس الذين حضرو الى العزاء او المقبره
عجب امرهم بدل من أن يتعضو ويستغفرو الله ويسئلون الله الرحمه للميت والرحمه لهم اذا صارو الى ماصار اليه هاذا الميت
تجدهم مشغولين بتفكير بدنياهم الله المستعان
والحديث يطول في ذالك واترك المجال لباقي الاعضاء في التعليق

------------------
التوقيع
فـــــهــــد
*** *** ***
-كان عند المعتمد بن عباد ( أحد حكام الأندلس ) زوجة وبنات وكانوا في النعيم والترف والقصور والحبور ، وفي يوم من الأيام اشتهت هذه المرأة أن تخوض في الطين !!! – لاحظ أذواق المترفين فهي عندها من الطعام والشراب والفراش الوثير والجواهر والدرر والجواري والخدم الشيء الكثير وأشياء كثيرة لكنها اشتهت أن تحمل قربة ماء على كتفها وتخوض في الطين لتملأها مثل الجواري والخدم – ولكن أين الطين الذي ستخوض فيه زوجة الحاكم ؟؟؟!!!
قام المعتمد بن عباد وأمر الحاشية بأن يؤتى بالمسك والكافور ويعجن بماء الورد ويوضع طينا على مسافات هائلة من الأرض ويرش عليه ماء الورد ثم أُعطيت زوجته قربةً فاخرة فيها خيوط من الحرير وصارت تحملها على كتفها وبناتها ووصيفاتها من خلفها وتمشي في ذلك الطين فحققت بذلك لذتها !!
هذه لذات المترفين ، وماذا بعد .... ؟
سبق أن قلت عن المعتمد بن عباد أنه مات في ( أغمات ) مأسوراً وبناته كن في الأطمار البالية لا تكاد تجد الواحدة منهن ما يستر عورتها فلما رأى والدها هذا المشهد وكان شاعراً فحلاً قال أبياتاً كثيرة يتذمر فيها من حاله ومآله ، ومن ضمن هذه الأبيات يقول مخاطباً نفسه :
فيم مضى كنت بالأعياد مسرورا
فجاءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا

من بات بعدك في ملك يُسر به
فإنما بات بالآمال مغرورا

هذه عاقبة الترف والمترفون المسرفون نسأل الله السلامة والعافية وألا يفتنا بهذه الدنيا ...... آمين .



<font face="MS Dialog">تم تعديل الموضوع بواسطة fahad (بتاريخ 02-01-2001) </font>
الفتاة الشامية
القصة جميلة بكافة جوانبها و مؤثرة و موفقة من حيث تصوير الجانب النفسي للطفل الصغير بدقة
وفقك الله
سراب
سراب
اخي الفاضل
fahad
اشكر لك تفاعلك مع هذه القصة و هي على أي حال تروي تجربة عاشها صديق لي فأحببت أن ارسمها بقلمي و كلماتي ..
سراب
سراب
اختي الكريمة
yamama
اشكرك من اعماق قلبي على كل ما تفضلتي به من كلمات و مشاعر .. اما ان انتقل بقصتي الى الواحة فأرى ان خربشاتي هذه لا تليق بذاك المكان الذي تكتب فيه اقلام متميزة .. ما اكتبه مجرد محاولات .. و لن يرتفع عن ذلك .. و لك الشكر و التقدير .