
وأدرت بصري نحو تلك الحزمة من الفراء الأشهب التي قفزت من العليقة المدغلة , بينما انزلق زيد عن شداده , وقفز نحو الأرنب وهو يدير القوس التى كانت مدلاة على غزالة الشداد فوق رأسه ليقذفه بها .
ولكنه لم يكد يشرع بذلك حتى تعثرت قدمه ببعض الجذور فوقع منبسطا على وجهه – واختفى الأرنب عن ناظريه . . . . . .
ها نحن نخسر عشاء طيبا ...... قلت له ضاحكا بينما كان ينهض وهو ينظر بحسرة وحزن الى القوس في يده . قلت : ولكن لا عليك يا زيد , واضح ان ذلك الارنب لم يكن من نصيبنا ........
فأجابني وهو شارد الذهن نوعا .. أجل لم يكن لنا فيه نصيب .
ولاحظت انه يعرج في مشيته متألما فسألته :
هل أصبت بأذى ؟
آه ... ليس في الأمر يستحق الاهتمام , لقد لويت رسخي فحسب , ولكن الألم لا يلبس ان يزول بعد قليل .
ولكن الألم لم يزل , وبع ساعة من الزمن كنت أستطيع ان أرى قطرات العرق على وجه زيد . وعندما ألقيت نظرة على قدمه , ألفيت ان الرسغ كان مصابا برضة قوية , وانه كان جد منتفخ .
فقلت : لا فائدة من الاستمرار على هذا الشكل يا زيد , دعنا نستريح هنا , فإن راحة ليلة واحدة لا بد ان تشفيك ...

واستبد الألم بزيد أناء الليل , واستيقظ قبل مطلع الفجر بوقت طويل : فأفقت أنا أيضا من رقادي القلق على الصوت الذي أحدثته حركته المفاجئة .
قال زيد : أرى ذلولا واحدا فقط !!؟؟..

عندما أجلنا أنظارنا في الأرض المحيطة بنا , وجدنا ان أحد الذلولين , وكان ذلول زيد , قد اختفى حقا . عندئذ أراد زيد ان يأخذ مطيتي للبحث عنه , ولكن قدمه المصابة جعلت حتى الوقوف عسيرا عليها , فكيف يمشي إذن, ويركب ويترحل ؟
استرح أنت يا زيد , وسأذهب بدل عنك . لن يكون من الصعب أن أعود إليك متتبعا آثار خطاي.
وهكذا , عند انبلاج الفجر , ركبت متتبع آثار الذلول الضائع , هذه الاثار التي استمرت ظاهرة واضحة عبر رمال الوادي, لتختفي وراء الكثبان . وطال ركوبي ساعة وثانية وثالثة , ولكن آثار المطية الشاردة استمرت ظاهرة كأنما قد اتخذت لنفسها وجهة معينة . وكان النهار قد تقدم كثيرا عندما وقفت لاخذ لنفسي قسطا من الراحة .
ترجلت عن مطيتي وأكلت بعض تمرات , ثم شربت بعض الماء من القربة المعلقة بغزالة الشداد, وكانت الشمس في كبد السماء , ولكنها قد فقدت شيء من قوتها , وكانت الغيوم الداكنة التي لا تظهر في مثل هذا الوقت من السنة , تطفو ساكنة في السماء , والهواء الثقيل إلى درجة مستغربة يغلف الصحراء ويلين معالم الكثبان فوق ليونيها المألوفة .
ولحظت فجأة حركة مفزعة عند التلة الرملية أمامي – هل هو حيوان ؟ ربما كان الذلول الشارد . بعد إنني أمعنت النظر , فوجدت أن الحركة ليس فوق الكثبان بل فوق قشرته ذاتها : كانت القشرة تتحرك ببطء ما بعده بطء وبفخر وتيه , الى الامام , ثم بدا لي انها تنحدر باتجاهي , وعلت السماء حمرة قاتمة , وشرعت الغبشة الحمراء بالانتشار في الصحراء , لتدوم من بعد غمامة من الرمال حولي وتصفعني في وجهي . وسرعان ما سمعت زمجرة الرياح من كل صوب مجتاحة الوادي من جميع أطرافه , ولم تلبث السماء ان أظلمت والهواء ان امتلا بغبار الرمال المدوم الذي يحجب الشمس والضياء كالضباب المحمر .لقد كانت هذه من غير شك عاصفة رملية .
أراد ذلولي , وقد هالته الطبيعة الهائجة ,ان ينهض من مجثته , ولكني منعته من ذلك مستعينا بالرسن , وانا احاول ان اتجنب السقوط من جراء الريح التي اصبح الان بقوة النوء , وان اعقل ساقيه الأماميتين , واحدى ساقيه الخلفيتين ايضا. ثم رميت نفسي على الارض , وغطيت رأسي بعباءتي , وضغطت بوجهي على إبط الذلول كي لا تصفعها الرمال المتطايرة ,ولكني شعرت ان الذلول , ولربما للسبب نفسه , كانت تضغط بدورها بخطمها على كتفي , كما شعرت بالرمال يغمرني من الجهة التي لم يكن يحميها جسم الناقة , وانه كان علية إبدال مكاني بين الفينة والاخرى كي لا ادفن في الرمال .

لم أخف كثيرا فلم تكن هذه المرة الاولى التي تفاجئني فيها عاصفة رملية في الصحراء . لم استطع ان افعل شيء الا ان ابقى على الارض , ملتفا بعباءتي بإحكام , وان انتظر خمود العاصفة واصغي الى الرياح تزمجر وعباءتي تصفق – صفيق الشراع الملول او العلم المنثور – صفيق اعلام القبائل يحملها على الصواري جيش من البدو في ابان زحفه , تماما كما صفقت وزفرت منذ خمس سنوات تقريبا فوق الالوف من الركبان النجديين – وانا بينهم – عائدين من عرفات الى مكة بعد الحج .
لقد كانت المرة الثانية التي أؤدي فيها فريضة الحج , وكنت قبل ذلك قد قضية سنة واحدة في داخلية شبه الجزيرة , وسعيت الى ان اعود الى مكة في الوقت المعين تماما لاشترك في تجمع الحجيج في سهل عرفات , شرقي المدينة المقدسة .وفي اثناء عودتي من عرفات وجدت نفسي وسط من البدو النجديين بثياب الاحرام البيضاء – بحر من الرجال على مطايا صفراء عسلية او سمراء ذهبية او بنية سمراوية – الوف من الابل تتسابق وتتدافع الى الامام كموجة عارمة ,بينما الاعلام القبلية تزمجر في الهواء , والصرخات القبلية التي كان الناس يدلون بواسطتها على قبائلهم , وعلى ماثر اسلافهم في ساحات القتال تتماوج امام فصائل الرجال ,ذلك لان الحرب والحج في عرف النجديين ,ينبعان من مصدر واحد ... وينتشر الحجيج , الحجيج الذين لا عد لهم ولا حصر , والذين جاءوه من مختلف الاقطار الاخرى , من مصر والهند وافريقية الشمالية وجاوه , حيث لم يالفوا هذا الزحام من قبل , والذين تفرقوا مذعورين لدى اقترابنا : ذلك ان احد لم يكن ينجو من الموت اذا وقف في طريق ذلك الركب العاصف – تماما كما يموت الراكب فيما اذا سقط وسط الالف والالف من الهجان والرامحة .

يـــــــــتـــــــــــبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
الكتاب .. الطريق إلى الإسلام
الكاتب – محمد أسد
ومهما كان ذلك الركوب من الحمق , فقد أسهمت في الحمق في كل ما كان في تلك الساعة من هجوم زمجرة وتدويم , وكانت النشوة تغمر قلبي , وسمعت الرياح التي كانت تصفق في وجهي نغني وكأنها تقول : انك لن تبقى غريبا بعد الان .... لن تبقى ...بين قومك واهلك هؤلاء.
اذا كنت متمددا فوق الرمال وتحت عباءتي التي كانت الرياح تتلاعب بها , خيل الي ان زمجرة العاصفة الرملية كانت تردد صدى ذلك الغناء : انك لن تبقى غريبا بعد الان .
.....................
وعندما هدأت العاصفة اخيرا , اخرجت نفسي من الرمال التي كانت قد تجمعت حولي . وكانت ذلولي نصف مدفونه فيها , ولكن تلك التجربة لم تكن اسواء من التجارب العديدة التي لا بد انها كانت قد تعرضت لها في السابق , وقد خيل الي من اول وهلة ان العاصفة لم تصبنا بأي أذى سوى انها ملات فمي ومنخري بالرمل واطارت الجعد عن شدادي ,الا انني سرعان ما اكتشفت انني كنت على خطأ .
لقد بدلت جميع الكثبان من حولي معالمها , كما اختفت اثار ذلولي , والذلول الشاردة كلها : لقد ادركت انني واقفا على ارض ٍ بكر !!
ولم يبقى امامي الا ان اعود الى زيد – او على الاقل ان احاول العودة – بمعونة الشمس وشعور الاتجاه الذي كاد يكون غريزيا لدى من يألف السفر في الصحارى , ولكن هذين المساعدين لم يكن بالامكان الاعتماد عليهما اعتمادا كليا , ذلك ان الكثبان لا تمكنك من المسير في خط مستقيم كيما تحافظ على الاتجاه الذي اخترته لنفسك .
لقد شعرت بالضمأ بتاثير العاصفة , الا انني لم اكن اتوقع ان ابتعد عن زيد سوى مسافة ساعات قلائل , فقد كنت قبل هبوبها بوقت طويل قد اتيت على اخر قطرة من قربة الماء الصغيرة التي كانت معي , ولكن لابد انني لم اكن بعيدا عن المكان الذي حططنا فيه الرحال . وبالرغم من ان هجيني لم يشرب ماء منذ اخر وقفة لنا عند احدى الابار منذ يومين , فقد كان جنديا قديما يمكنني الاعتماد عليه في ارجاعي الى زيد . لقد وجه انفه نحو الحهة التي فكرت ان زيدا لا بد ان يكون فيها , وسرنا في خطوات رشيقة .
ومرت ساعة وثانية وثالثة , ولكني لم اقع على ايما اثر لزيد او للارض التي كنا نزلنا فيها , ولم يبدو لي اني قد الفت رؤية أي من التلال البرتقالية اللون . والحق انه كان من العسير جدا ان اكتشف فيها ايما شيء مألوف لدي حتى ولو لم تهب أي عاصفة .
وقبيل المساء مررت بطبقة سطحية من الصخور الصوان التي كانت نادرا جدا في قلب تلك القفار الرملية , فعرفتها حالا : لقد مررنا بها , زيدا وانا , بعد ظهر اليوم السابق قبيل توقفنا لقضاء الليل . وشعرت بفرح عظيم , بالرغم انه كان واضحا انني كنت بعيدا جدا عن المكان الذي كنت ارجو ان اجد زيدا فيه فقد بدا لي انه لم يكن من العسير علي الان ان اجده بمجرد مسيري باتجاه جنوب غربي , كما فعلنا امس
الكتاب .. الطريق إلى الإسلام
الكاتب – محمد أسد