الوقفة السادسة
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه
في حديث عظيم من جوامع الكلم , بيّن النبي صلى الله عليه وسلم مَعْلما من معالم النجاة , وأمارة من أمارات حسن الإسلام , ليزن العبد بها نفسه , ويعرف مدى قربه أو بعده عن الطريق المستقيم , والحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ).
فهذا الحديث قد جمع معانٍ عظيمة لا غنى للمسلم عن فهمها وامتثالها ، وهو أصل عظيم من أصول الأدب , ولذا عدَّه بعض أهل العلم ثلث الإسلام أو ربعه , وذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الورع كله في هذا الحديث , فهو يضع للعبد قاعدة عظيمة فيما يأتي وما يدع ، وفيه تنبيه على الركن الأول في تزكية النفس وتربيتها ، وهو جانب التخلية بترك ما لا يعني ، الذي يلزم منه الركن الثاني وهو التحلية بالانشغال بما يعني .
الناس قسمان :
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن ترك ما لا يعني من أسباب حسن إسلام المرء , وهذا يعني أن الناس ينقسمون في الإسلام إلى قسمين كما دل عليه الحديث : فمنهم المحسن في إسلامه ومنهم المسيء , فمن قام بالإسلام ظاهراً وباطناً فهو المحسن الذي قال الله فيه : { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا } ( النساء 125) , ومن لم يقم به ظاهرا وباطنا فهو المسيء , ومن علامات حسن الإسلام انشغالُ المرء بما يعنيه وتركُه ما لا يعنيه , ومفهوم الحديث : أن انشغال الإنسان بما لا يعنيه من علامات سوء إسلامه .
ومما يدل على معنى الحديث , أن الله وصف الله المؤمنين بالإعراض عن اللغو في غير ما آية من كتابه قال سبحانه : {والذين هم عن اللغو معرضون } ( المؤمنون 3) . واللغو هو الباطل , ويشمل الشرك والمعاصي وكل ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال والاهتمامات , ومن اللغو الاشتغال بما لا يعني من أمور الناس .
وقد جاءت الأحاديث بفضل منزلة حسن الإسلام ، ومن ذلك ماجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها حتى يلقى الله ) .
فقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما لا يعنيه ) أي : ما لا يهمه ولا يفيده في دينه ولا دنياه , ويدخل في الأمور التي لا تعني المحرمات والمشتبهات والمكروهات وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها الإنسان .
والضابط في معرفة ما يعني الإنسان مما لا يعنيه هو الشرع , وليس الهوى , فإن كثيرا من الناس قد يحلو له أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , بدعوى أن ذلك من التدخل في خصوصيات الآخرين , وأن ذلك مما لا يعني الإنسان , وقد يستدل بهذا الحديث على فهمه السيئ , وهذا من الخطأ واختلاط المفاهيم في هذه القضية , روى أبو داود أن أبا بكر رضي الله عنه قام في الناس خطيبا , فحمد الله وأثنى عليه , ثم قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } ( المائدة 105) , وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب )، وفي رواية: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب ) , ومما يعني الإنسان أيضا شؤون المسلمين وقضاياهم , ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .
فهذا الحديث معيار وعلامة يُعرف بها حسن الإسلام من ضده ، وأسباب كل منهما , وتزداد الحاجة لفهم هذا الحديث والعمل بمقتضاه , في زمن تزاحمت فيه الواجبات ، واختلطت فيه الأولويات ، فكانت الخطوة الأولى , هي تركيز الاهتمام فيما ينفع ، وترك كل ما لا يعني ، وهو ملحظ تربوي مهم , ينبغي أن يراعيه العبد في تربية نفسه والآخرين
الصفحة الأخيرة
الحلال بيِّن والحرام بيِّن
من الأحاديث الجامعة التي يذكرها أهل العلم , ويولونها المزيد من العناية والاهتمام , حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الحلال بيِّنٌ وإن الحرام بيِّنٌ , وبينهما أمور مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثير من الناس , فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه , ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام , كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه , ألا وإن لكل ملك حمىً , ألا وإن حمى الله محارمُه , ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كله , وإذا فسَدت فسَد الجسد كله : ألا وهي القلب ) رواه البخاري ومسلم .
قاعدة عظيمة
فهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة , وأحد الأحاديث التي يدور عليها الدين وقد عدّه بعض أهل العلم ثلث الإسلام أو ربعه , ويعنون أن الإسلام يدور على ثلاثة أحاديث أو أربعة منها هذا الحديث .
فقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الحلال بين وإن الحرام بين ) يعني أن الحلال والحرام الصريح الواضح قد بُيِّن أمره للناس بحيث لا يحتاجون معه إلى مزيد إيضاح وبيان , وليس لهم عذر في مخالفة الأمر والنهي بدعوى نقص البيان وعدم الوضوح , فإن الله عز وجل قد أنزل على نبيه الكتاب , وبين فيه للأمة ما تحتاج إليه من أحكام , قال تعالى : { ونزَّلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } (النحل 89) وقال تعالى في آخر آية من سورة النساء بعد أن ذكر فيها كثيرا من الأحكام الشرعية : { يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم } ( النساء 176) . وقال عز وجل : { ومالكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم } ( الأنعام119) . وهذا هو مقتضى عدل الله ورحمته بعباده فلا يمكن أن يعذب قوما قبل البيان لهم وقيام الحجة عليهم , ولذلك قال سبحانه : {وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } ( التوبة 115) .
وما لم يرد بيانه مفصلاً في كتاب الله تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بينه في سنته تحقيقا لقوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } ( النحل 44) .
ولكن هناك أمور تشتبه على كثير من الناس , فلا يعرفون حكمها هل هي من الحلال أم من الحرام ؟ , وأما الراسخون في العلم فلا تشتبه عليهم , ويعلمون من أي القسمين هي , وهذه هي الأمور المشتبهات التي قال عنها صلى الله عليه وسلم ( وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ) .
ثم قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالنسبة إلى هذه الأمور المشتبهة إلى قسمين:
القسم الأول : من يتقي هذه الشبهات ويتركها , طلبا لمرضاة الله عز وجل , وتحرزا من الوقوع في الإثم , فهذا الذي استبرأ لدينه وعرضه , أي طلب البراءة لهما , فحصل له البراءة لدينه من الذم الشرعي , وصان عرضه عن كلام الناس فيه , وفيه دليل على أن من ارتكب الشبهات , فقد عرض نفسه للقدح والطعن , كما قال بعض السلف : "من عرَّض نفسه للتُّهم فلا يلومنَّ من أساء الظن به " .
والقسم الثاني : من وقع في هذه الشبهات مع علمه بأن هذا الأمر فيه شبهة , فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من فعل ذلك فقد وقع في الحرام , بمعنى أن الإنسان إذا تهاون وتسامح في الوقوع في الشبهات , وأكثر منها , فإن ذلك يوشك أن يوقعه في الحرام ولا بد , وهو لا يأمن أن يكون ما أقدم عليه حرامًا في نفس الأمر , فربما وقع في الحرام وهو لا يدري .
المثل المضروب
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا لمن يقع في الشبهات , وهو أن كل ملك من ملوك الدنيا له حمى يُضرب حول ملكه , ويُمنع الناس من دخوله أو انتهاكه , ومن دخله فقد عرض نفسه للعقوبة , فمن رعى أغنامه بالقرب من هذا الحمى فإنه لا يأمن أن تأكل ماشيته منه , فيكون بذلك قد تعدى على حمى الملك , ومن احتاط فابتعد ولم يقارب ذلك الحمى فقد طلب السلامة لنفسه , وهذا مثل حدود الله ومحارمه , فإنها الحمى الذي نهى الله عباده عن الاقتراب منه أو تعديه , فقال سبحانه : { تلك حدود الله فلا تقربوها } (البقرة 187) , وقال : { تلك حدود الله فلا تعتدوها } ( البقرة 229 ) , فالله عز وجل قد حدَّ للعباد حدودا بين فيها ما أَحَلَّ لهم وما حَرَّم عليهم , ونهاهم عن الاقترب من الحرام أو تعدي الحلال , وجعل الواقع في الشبهات كالراعي حول الحمى أو قريبا منه يوشك أن يدخله ويرتع فيه , فمن تعدى الحلال ووقع في الشبهات , فإنه قد قارب الحرام وأوشك أن يقع فيه .
ثم ختم النبي صلى الله عليه وسلم الحديث بذكر السبب الذي يدفع العبد إلى اتقاء الشبهات والمحرمات أو الوقوع فيهما , ألا وهو صلاح القلب أو فساده , فإذا صلح قلب العبد صلحت الجوارح والأعمال تبعا لذلك , وإذا فسد القلب فسدت الجوارح والأعمال , فالقلب أمير البدن , وملك الجوارح , وبصلاح الأمير أو فساده تصلح الرعية أو تفسد , فإذا كان القلب سليما حرص العبد على اجتناب المحرمات وتوقي الشبهات , وأما إذا كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع الهوى والشهوات , فإن الجوارح سوف تنبعث إلى المعاصي والمشتبهات تبعا له , فالقلب السليم هو عنوان الفوز عند الله عز وجل قال تعالى : {يوم لا ينفع مال ولا بنون . إلا من أتى الله بقلب سليم } (الشعراء 88-89) .
ففي هذا الحديث العظيم حث للمسلم على أن يفعل الحلال ، ويجتنب الحرام ، وأن يجعل بينه وبين الحرام حاجزا وهو اتقاء الشبهات ، وأن يحتاط المرء لدينه وعرضه ، فلا يقدم على الأمور التي توجب سوء الظن به , وفيه أيضا تأصيل لقاعدة هامة من قواعد الشريعة , وهي قاعدة سد الذرائع إلى المحرمات وتحريم الوسائل إليها , وفيه كذلك تعظيم أمر القلب , فبصلاحه تصلح أعمال الجوارح وبفساده تفسد , نسأل الله أن يصلح قلوبنا وأن يثبتها على دينه.