وقفات مع دعاء أيام زمان
--------------------------------------------------------------------------------
قبل ما يزيد عن أربعين عاماً كانت الخطبة الثانية لصلاة الجمعة لا تخلو من الدعاء التالي " اللهم ادفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنى، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها، وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يارب العالمين " وكان هذا الدعاء يُردد في جميع الخطب الثانية لصلاة الجمعة في ذلك الوقت - على الأقل - في المسجد الذي كنت أذهب إليه للصلاة مع والدي رحمه الله تعالى، وكان معظم ما يشمله هذا الدعاء من جوانب ما هو نادر الحدوث - إن لم يكن - غير موجود في ذلك الوقت، ولا نسمع عن حدوثه في مجتمعاتنا بشكل كبير. ومع ذلك يردد المصلون كلمة " آمين " وراء خطيب صلاة الجمعة، وهذا دليل على خوفهم الشديد من هذه المشكلات، وعلى إدراكهم للأثر السلبي لهذه الجوانب على المجتمع الذي يعيشون فيه في حالة حدوثها .
وفي وقتنا الحاضر نسمع كل يوم عن حدوث مشكلات مختلفة وتندرج تحت القائمة التي وردت في الدعاء السابق، ويمكن أن نناقش مكونات هذا الدعاء، ونحللها، ونقارنها بما كانت عليه في الماضي، والواقع الحالي . فعند الحديث عن الغلاء، فنحن في هذه الأيام نعاني كغيرنا من موجة غلاء ظهرت بشكل مفاجئ لكثير من المواد الضرورية التي يحتاجها الفرد، فقد شمل الغلاء أسعار الأراضي السكنية، والسيارات، والمواد الغذائية بجميع أنواعها، والأدوية، ومواد البناء، وغير ذلك من المواد الأساسية التي يحتاجها الفرد، وهذا الارتفاع شمل المواد الضرورية، والمواد الكمالية على حد سواء، وقد كان أفراد المجتمع في الماضي يدعون الله سبحانه وتعالى أن يدفع عنهم الغلاء لأن ظروفهم الاقتصادية في ذلك الوقت غير جيدة، ويدركون أثر الغلاء على مجتمعهم بشكل عام على الغني والفقير، مع أن الأسعار كانت مناسبة إلى حد ما في ذلك الوقت.
كما أن الدعاء يركز على أن يجنب الله المجتمع الوباء فكان في الماضي هناك بعض الأمراض ( الأوبئة ) المنتشرة، ولكنها قليلة إلى حد ما، وفي حالة ظهورها يكون أثرها محدوداً على موقع، أو مكان ما، فكان وباء الجدري، والحصبة، والملاريا من أكثر الأمراض التي تنتشر بين الناس في الماضي، ومع ذلك يدعون بأن يحمي الله المجتمع من هذه الأمراض التي تفتك به، أما في هذه الأيام ففي كل عام تقريباً نضيف مصطلحاً جديداً من الأوبئة التي تنتشر بسرعة، أو اسماً جديداً لقائمة الأمراض الوبائية، فالإيدز من الأمراض المنتشرة في وقتنا الحاضر، ولا يوجد له لقاح، أو علاج يحد من انتشاره، أو يقضي عليه، وراح ضحية هذا المرض العديد من الناس في كثير من الدول، كما أن رعاية الأشخاص المصابين بهذا المرض تكلف الدول مبالغ كبيرة، ويعد مرض جنون البقر من الأمراض الأخرى التي ظهرت في الأعوام القليلة الماضية، وكان له تأثير سلبي كبير سواء على المستوى الاقتصادي، أو الاجتماعي بشكل كبير . ثم ظهر وباء حمى الوادي المتصدع، وعانت منه منطقة جازان بالدرجة الأولى، وتمت مكافحة هذا المرض، والقضاء على العوامل التي تساعد على انتشاره، وبعد ذلك جاء وباء سارس وعانت منه بعض الدول لفترة من الزمن، ثم ظهر وباء أنفلونزا الطيور الذي فتك بالكثير من الطيور، وانتقل إلى الناس خاصة في بعض دول آسيا، ومن المعروف أن أي وباء يظهر في أي مجتمع، ويصيب الحيوانات يمكن أن ينتقل إلى الإنسان، ويكلف هذه المجتمعات الكثير سواء في المجال الوقائي، أو العلاجي.
وعند الحديث عن الربا الذي حرمه الله سبحانه وتعالى كان بعض الأفراد في الماضي يتبعون بعض الأساليب التي يعتقدون أنه من خلالها يمكن تفادي الوقوع في الربا، مثل بيع بعض المواد بمبلغ معين ثم يبيعها المشتري بقيمة أقل على البائع نفسه وهي في مكانها، وفي الوقت نفسه، وكان ذلك محدوداً إلى حد كبير، أما في الوقت الحاضر فهناك العديد من الأساليب التي يتم اتباعها من قبل الكثير من الناس ليقنعوا أنفسهم بأنهم خارج إطار الربا، وهو الربا بعينه، ويتم ذلك من خلال التحايل في مجالات البيع والشراء، كما أصبح كثير من الناس لا يحتاط من الوقوع في الربا مع أن هناك كثيراً من المجالات، أو المعاملات التي درسها مجموعة من العلماء وأقروا بأنها لا تدخل تحت الربا، وهذه هي الأنشطة التي يجب البحث عنها، والاستفادة منها، كما يجب الابتعاد عن الأنشطة المشتبه بها، والدعاء بأن يدفع الله عن الناس الربا في الماضي يدل على الإدراك الصحيح لمفهوم الربا، وما يترتب عليه من مشكلات بشكل مباشر، أو غير مباشر.
أما الزنى فكان من الحالات النادرة، أو المعدومة أيضا في الوقت الماضي، ونادراً ما نسمع به في مجتمعنا، وقد يعود ذلك إلى أن عدد السكان محدود جداً، وفي المجتمع الواحد الكل يعرف الآخر، ومع ذلك يتم الدعاء بأن يجنب الله المجتمع الزنى بشكل مستمر، لإدراك أفراد المجتمع ما يترتب عليه من عقوبة حددها الدين الإسلامي، ومن يتورط فيه يعد منبوذاً في المجتمع، ولا يتم احترامه، أو تقديره، ويعد في عداد المفقودين في المجتمع . وفي الوقت الحاضر نقرأ بين الحين، والآخر عن وجود أطفال حديثي الولادة سواء أحياء، أو أموات عند أبواب المساجد، أو في صناديق النفايات، تم تركهم بعد ولادتهم مباشرة، وهذه هي الحالات التي لم يتم إجهاضها، أما الحالات التي تم إجراء عمليات إجهاض لها فقد تكون أكثر مما نتوقع، وهذه كارثة اجتماعية، وقد يكون السبب في ذلك عائداً للزيادة في عدد السكان بشكل كبير، وعدم معرفة الأسر لبعضها، ونتيجة سلبية لبعض ما يعرض في الكثير من القنوات الفضائية من تمثيليات، ومسلسلات غرامية تؤثر على البنين، والبنات على حد سواء، كما أن سهولة الاتصالات في وقتنا الحاضر من خلال الهاتف بأنواعه، أو من خلال الإنترنت كان لها الأثر الكبير في تواصل بين البنين، والبنات، ولنا أن نتوقع ما يترتب على ذلك من مشكلات اجتماعية على المدى القريب، أو المدى البعيد، حفظ الله بنات المسلمين، ورزقهن الستر، والعفاف، وهنا أرى أن الأسرة مسؤولة عن متابعة أبنائها، وبناتها بشكل مستمر .
وفي الماضي كان عدد الزلازل التي نسمع عنها في العالم قليلة بشكل كبير، وقد يكون السبب في ذلك قلتها، أو لأن أساليب الاتصال كانت محدودة جداً، وتحد من انتشار أخبارها، وكانت الزلازل في حالة حدوثها في الماضي مدمرة حيث إن المباني غير مصممة لتتحمل آثار الزلازل، وفي الوقت الحاضر نسمع بين الحين والآخر في وسائل الإعلام المختلفة حدوث زلزال في مكان ما، وحدوث هزة أرضية في مكان آخر وتكون آثارها مدمرة، ومن الكوارث في هذا المجال ما حدث قبل عدة سنوات في بعض دول شرق آسيا، أو ما يعرف بـ " تسونامي " الذي هو نتيجة لزلزال، أو هزة أرضية داخل المنطقة المغمورة بالماء، وفي هذه الأيام قل الدعاء المتضمن أن يجنب الله البلاد الزلازل بالرغم من كثرتها.
وجاء ضمن هذا الدعاء أيضاً أن يدفع الله عن المجتمع المحن، وتفسيري لذلك هو ما يمتحن الله به خلقه، والأمثلة على ذلك عديدة ؛ فقلة الأمطار هذه الأيام، والشح الكبير في المياه الذي تعاني منه كثير من البلدان من أهم ملامح امتحان الله لخلقه، ففي الماضي كانت الأمطار تسقط على كثير من المناطق في أغلب أيام العام، وكانت الأودية شبه أنهار، وكان يعيش بعض أنواع السمك في مياهها، أما في الوقت الحاضر فكثير من الأودية لم تمر به مياه السيول لمدة تزيد عن عشرين عاما، وقد تغيرت معالم كثير من هذه الأودية، كما أن تباعد الناس عن بعضهم البعض حتى على مستوى الأسرة الواحدة، وتباغضهم، والافتقار إلى التواد، والتراحم، والتواصل من الأمثلة على هذا المجال، ففي الماضي كان الناس أكثر تواصلاً، وتعاوناً، وتكاتفاً، أما الآن فلا الجار يسأل عن جاره، ولا القريب يسأل عن قريبه، ولا يتابع وضعه، وكل مشغول بحاله، وهذه من المظاهر، أو الأمثلة على الجوانب التي شملها الدعاء السابق، كذلك قد تكون الأعاصير، والفيضانات التي نشاهدها بين الحين والآخر في وسائل الأعلام المختلفة من ضمن مجال " المحن" التي تمر بها بعض الدول.
وجاء مفهوم " سوء الفتن " من ضمن هذا الدعاء، وحقيقة الأمر أن الفتن في الماضي كانت قليلة جداً مقارنة بها في وقتنا الحاضر، ومع ذلك كانت درجة الخوف منها عالية والدعاء مستمر بأن يحمي الله المجتمع من الفتن ؛ فمن ضمن الفتن في وقتنا الحاضر كثرة جرائم القتل العمد، فكانت جريمة القتل العمد في الماضي من الجرائم التي تهز المجتمع، وتكون حديث الوطن بأكمله، ويعرف عنها القريب والبعيد، أما في وقتنا الحاضر فالقتل شبه يومي، ولأتفه الأسباب، وأصبحت جرائم القتل من الجرائم العادية، وهذه من الفتن التي يعاني منها المجتمع في هذا الوقت وبشكل كبير، كما أن الحروب التي تعاني منها بعض الدول، وما يترتب عليها من مشكلات مختلفة من الفتن التي تواجه كثيراً من المجتمعات، ويعد الإرهاب أيضاً الذي تعرضت له كثير من الدول من ضمن هذه الفتن التي نعيشها في الوقت الحاضر.
وما تم إثباته كأمثله على ما تضمنه الدعاء الذي تم ذكره في بداية المقال من جوانب ما هو إلا تفسير مختصر، وقد تكون الأمثلة عديدة، ومتنوعة، وشاملة، واللافت للنظر أنه في الماضي كان حدوث هذه الأشياء محدوداً جداً، والدعاء بأن يدفع الله عن المجتمع هذه المشكلات بشكل مستمر، وفي هذه الأيام نلاحظ أن المشكلات منتشرة بشكل كبير، ولا يوجد في حياتنا اليومية لدى أفراد المجتمع إحساس بخطرها، وأهمية الدعاء بأن يجنب الله المجتمع شرورها، والدعاء محدود في هذه المجالات، وهذا الجانب يحتاج إلى إعادة نظر، فقد يكون الناس انشغلوا عن التنبه لها، وعن الاستعاذة من حدوثها، وعن الدعاء بأن يجنب الله المجتمع وقوعها.
لمعة الماسه 2008 @lmaa_almash_2008
محررة ماسية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
من سألني
•
جزاك الله كل خير
الصفحة الأخيرة