***(( ومَرِضَــــت أمِّي ))***
كنتُ قبلَ شهرٍ تقريباً في مدينةِ الخُبر (شرق المملكة) .. للقيامِ بِبَرنامجٍ دعويٍّ في المنطقة .. وبعدَ صلاةِ الجُمعة اتصلت عليّ إحدى أخواتي لِتُخبِرَني بأنَّ والدتي ترقُد في المستشفى الآن بسَبَبِ جلطةٍ دماغيّةٍ أصابتها صباحَ هذا اليوم !!
حمدتُ ربي سبحانه وتعالى واستغفرتُهُ وطلبتُ منهُ ا
لمعونةَ والتيسيرَ أمامَ هذا الخَبَرِ الذي اخترقَ فؤادي .. وأقلقَ استقراري .. فما كانَ منّي إلاّ أن عجّلتُ السيرَ إلى مدينتي الرياض .. مستثمراً ساعةَ الإجابةِ بعد العصر في الدعاءِ لها وطلبِ العافيةِ من ربّي وربّها .
وما إن وصلْتُ إلى الرياض حتى ذهبتُ مباشرةً إلى المستشفى لأستمتعَ بالنظرِ إليها .. والحديثِ معها .. وبذلِ كلّ عملٍ يُكسِبُني رِضاها ..
إنّها أمي ..
إنّها والدتي ومُرضعتي ..
إنّها البابُ الواسعُ للدخولِ إلى رضا ربِّ الأكوانِ وخالقِ البشرِ والجانّ ..
إنّها الطريقُ المختصرُ للوصولِ إلى جنّاتِ النعيم ..
سلّمتُ عليها وقبلتُ رأسها .. وحاولتُ الحديثَ معها بكلماتٍ تزيدُ من فألِها وصبرِها .. فإذا بها تحاوِلُ التجاوُبَ معي .. والابتسامة في وجهي .. لكنَّ المرضَ قد تمكّنَ من نِصفها الأيمن .. فما هيَ إلاَّ طَرَفُ ابتسامةٍ .. وصوتُ كلماتٍ تفهم البعض .. ويفوتُ البعض ..
فيا سبحانَ الله .. ما أقواهُ وأضعَفَنا ..
وما أغناهُ وأفقرَنا ..
جزءٌ يسيرٌ في المخْ لم يَصِلْ إليه الدَّمُ .. فتكونُ هذه النتيجة ..
فيا ربِّ لكَ الحمدُ على نِعَمٍ عظيمةٍ وجليلةٍ ألبستنا إيّاها ونحنُ غافِلونَ عنها .
ما بينَ غمضةِ عينٍ وانتباهتها يغيِّرُ الله من حالٍ إلى حالِ
سافرْتُ وهيَ بصحّةٍ جيّدةٍ وعافيةٍ مستقرّة .. وما هوَ إلا يومان ..
فأصبَحَتْ عاجزةً عن الكلامِ والحركة .. وإنّا لمحسِنونَ الظنَّ بربّنا أن يُعيدَ إليها عافَيتَها وأن يجعَلَنَا جميعاً من الشاكرين .
إني لأرجو أن لا تتّهمونني بالمبالغة وأنا أتحدّثُ عن أمّي .. فما هوَ إلاّ الواقِعُ والحقيقة ..
إنّها - شافاها الله - من النساءِ الأوائل .. طِيْبَةًً وأدباً .. وحياءً وأخلاقاً .. حرصٌ على الصلاة فرضِها ونفلِها .. كثرةٌ من حمدِ الله وشكره .. صبرٌ على نوائبِ الدهرِ الشديدةِ التي كانت كالطّوامِّ عليها مع استعانةٍ بالله .. احترامٌ للبيت وراعيه .. وعدمُ خروجٍ منهُ إلاّ عندَ الحاجة لذلك .. ويا ليتَ شعري ما مفهوم الحاجةِ عندها أمامَ مفهومِ الحاجةِ
عندَ كثيرٍ من النساءِ الآن ..
شعلةُ نشاطٍ أيّامَ قُدرَتِها .. وهمّةٌ عاليةٌ أيّامَ عجْزِها ..
حبٌّ للخيرِ وأهله .. وتضامنٌ من الدعاة والمظلومين في كلِّ مكان من
خلالِ دعواتٍ ترفَعُها إلى السماء ..
حياءٌ عجيبٌ عندَ الحاجةِ لمحادثةِ أحدِ الأقارب .. حتى وإن كانَ لمجرّدِ سلامِهِ عليها ..
محبوبةٌ بفضلِ الله تعالى عندَّ جميعِ جيرانِها ..
تستّرٌ عجيبٌ عندَ خروجِها من المنزل .. وهي التي تسيرُ في عقْدِها الثامن من حياتِها .. ولو كشفت وجهها لجازَ لها .
سافَرَتْ والدتي قبلَ ثمانِ سنواتٍ تقريباً إلى الولاياتِ المتّحدةِ .. وهيَ بنفسِ هيئتِها لم تُغيّر شيئاً من حِجابِها ، وسارت هناكَ في بعضِ شوارِعِهم وكأنَّها تسيرُ في شارِعٍ من شوارِع القصيم (*) .
إنَّ كثيراً من أهلِ هذا الجيلِ الأوّل ليتحقّقُ فيهم كثيرٌ من معاني التوكّلِ على الله وحسنِ الظنِّ به .. ورجاءِ اليومِ الآخر .. ما لا يتحقّقُ عندَ كثيرٍ من أهلِ هذا العصر .. معَ أنّكَ تكادُ تجزمُ أنَّ ما عندَهم من العلمِ لم يكن بالقدرِ الكبير .. لكنّها معانٍ فَقِهُوها وتمسَّكوا بها .. وأحوالٌ صدقوا فيها معَ ربِّهم عزَّ وجل .. وكم من إنسانٍ عندهُ علمُ التوكّل .. وليسَ عندَهُ حالُ التوكّل .. وكم من إنسانٍ عندهُ كثيرٌ من التفصيلاتِ عن اليومِ الآخر .. وليسَ عندهُ كثيرُ عملٍ واستعدادٍ له ..
أمَّا هؤلاء .. فنفوسٌ صافيةٌ .. وقلوبٌ طاهرةٌ .. وأعمالٌ مباركةٌ .. وإحسانُ ظنٍّ بالكريمِ سبحانه وتعالى .
كنتُ أحاولُ دائماً أن أرضيها .. فلمّا تُوفي والدي - رحمه الله تعالى - قبلَ سبع سنواتٍ تقريباً .. زادَ حرصي عليها .. وبدأتُ أشعر بأنّها كنز -كما هو الوالد- يمكنُ أن يذهبَ عنّي أو أذهبَ عنه بدونِ سابقِ إنذار .. فوجبَ عليَّ أن أحافظَ عليه أشدّ من محافظة أهلِ الدنيا على دنياهم .
كم تحسّرتُ حينما فقدّتُ والدي - رحمه الله - على أعمالٍ كانت في متناولِ يدي ولم أقدّمها له ..
كنّا نتناوبُ أنا وإخواني على مرافقته في المستشفى في أيّامه الأخيرة .. وأمّا الآن فأقول : لو استقبلتُ من أمري ما استدبرت لكنت أنا المرافق الدائمُ معه .
وهاهي أمّي تصابُ الآن بما قدّره الله الحكيمُ لها .. فيا ربِّ ارزقني برّها ..
وسخّرني لخدمتها .. واجمعني عندكَ معها ..
ويا أيّها الأولاد ذكوراً وإناثاً .. تذكّروا قول المنّان .. في سورة الرحمن :
(هل جزاءُ الإحسانِ إلاَّ الإحسان ) .
فبرّوا بالآباءِ والأمّهات ..
وأحسنوا إليهم بأنواعِ البرِّ والهبات ..
قبّلوا الأيادي والجباه ..
وشنّفوا الآذان بكلامٍ جميلٍ تنطِقُ به الشفاه ..
واصِلوا معهم العطاءَ والبذل ..
ولا تمنّوا عليهم فهم بحقٍ أصحاب المنِّ والفضل ..
اعرِفوا رغباتِهم قبل أن ينطِقوا ..
ولكلِّ ما يريدون - في مرضاة الله- فسارِعوا وحقّقوا ..
إن أخطئوا في حقّك فكم أخطأتَ .. وإن أتعبوكَ فكم أتعبتَ ..
يا الله .. ما أعظمَ حقهم .. وما أجلّ قدرهم .. وما أكثر المقصّرَ معهم ..
أترسُمُ البسمةَ في وجوهِ أصدقائك .. وتحرمهم إيّاها !..
أتقدّمُ الهديّة لزوجتك وأولادِك .. وأمّا معهم فتنساها !..
كم خدموكَ وبذلوا من أجلك وهم يتمنّونَ بقاءك ..
أوَ تخدمهم في حالِ ضعفهم وأنتَ تُخفي في داخلِك الرغبةَ في ذهابهم !!
فلنُقبل على ربِّنا عزَّ وجل ..
ولنتب من ذنوبِنا على عجل ..
ولنكن بسببِ تقصيرِنا على وجل ..
وهيّا لتصحيحِ العلاقةِ مع آبائنا وأمّهاتنا .. إحساناً إليهم .. ودعاءً لهم .. وتفقّداً لأحوالِهم .. وتلطفاً في الحديثِ معهم .. ورسمَ الابتسامة على وجوههم ..
وإنَّ أعظمَ الإحسان .. ما كان يتعلّقُ بالأديان ..
فالحرصَ الحرصَ على هدايتهم إلى الله ..
والتذكيرَ التذكيرَ لهم إن كانوا من العصاه ..
والفوزَ الفوزَ لمن خرجَ من الدنيا وقد رضيَ عنه والداه ..
( يا ربِّ شافِ أمّي وجميع مرضى المسلمين .. وألحقنا بهم في الصالحين )
الاثنين / 20 من شهر صفر / 1427 هـ
(*) قالَ أحدهم : حتّى شوارع القصيم الآن ليست كما كانت .
القصة للشيخ خالد الخليوي الله يجزاه بالجنه
الؤلؤة البراقة @alolo_albrak
محررة برونزية
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
عسوله 5 :رووووووووووووووعه ماشالله وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيره صدق الله العظيمرووووووووووووووعه ماشالله وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيره ...
الصفحة الأخيرة
وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيره
صدق الله العظيم