
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فى مجموع الفتاوى: ( وقال فى الآية الأخرى "فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكرى فان له معيسشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما اهبطهم قد تضمن أنه اوجب عليهم اتباع هداه المنزل وهو الوحي الوارد على أنبيائه وتضمن ان من اعرض عنه وان لم يكذب به فانه يكون يوم القيامة في العذاب المهين وان معيشتة تكون ضنكا فى هذه الحياة وفي البرزخ والآخرة وهو المضنوكة النكدة المحشوة بأنواع الهموم والغموم والاحزان كما أن الحياة الطيبة هي لمن آمن وعمل صالحا)
وقال ابن القيم رحمه الله فى الفوائد: (والمعيشة الضنك فأكثر ما جاء في التفسير أنها عذاب القبر قاله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن عباس وفيه حديث مرفوع وأصل الضنك في اللغة الضيق والشدة وكل ما ضاق فهو ضنك يقال منزل ضنك وعيش الضنك فهذه المعيشة الضنك في مقابلة التوسيع على النفس والبدن بالشهوات واللذات والراحة فإن النفس كلما وسعت عليها ضيقت على القلب حتى تصير معيشة ضنكا وكلما ضيقت عليها وسعت على القلب حتى ينشرح وينفسخ )
وقال رحمه الله فى الجواب الكافى: (قال تعالي ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر ولا ريب أنه من المعيشة الضنك والآية تتناول ما هو أعم منه وإن كانت نكرة فى سياق الإثبات فإن عمومها من حيث المعنى فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه وإن تنعم فى الدنيا بأصناف النعم ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي يقطع القلوب والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه وإنما تواريه وإنما تواريه عند سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر فسكرها هذه الأمور أعظم من سكر الخمر فإنه يفيق صاحبه ويصحوا وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحوا صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله فى دنياه وفي البرزخ ويوم معاده ولا تقر العين ولايهدى القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذى هو حق وكل معبود سواه باطل)
وقال رحمه الله فى مدارج السالكين: (وفسرت المعيشة الضنك : بعذاب القبر والصحيح : أنها في الدنيا وفي البرزخ فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر ونكد العيش وكثرةالخوف وشدة الحرص والتعب على الدنيا والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم فبادر إلى إزالته بسكر ثان فهو هكذا مدة حياته وأى عيشة أضيق من هذه لو كان للقلب شعور )
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله فى أضواء البيان: (وأصل الضنك مصدر وصف به، فيستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع. وبه تعلم أن معنى قوله {مَعِيشَةً ضَنْكاً} أي: عيشاً ضيقاً والعياذ بالله تعالى.
واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة، لا يكذب بعضها بعضاً. وقد قدّمنا مراراً: أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة. ومن الأقوال في ذلك: أن معنى ذلك أن الله عزّ وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة، والتوكّل على الله، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة، فيعيش عيشاً هينئاً. ومما يدّل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، وقوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}، كما تقدم إيضاح ذلك كله.
وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشحّ الذي يقبض يده عن الإنفاق، فعيشة ضنك، وحاله مظلمة. ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة والمسكنة بسبب كفره، كما قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ}. وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله. وبيّن في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى: أن عيشهم يصير واسعاً رغداً لا ضنكاً، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، وكقوله تعالى عن نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}، وقوله تعالى عن هود: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}، وقوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وعن الحسن أن المعيشة الضنك: هي طعام الضريع والزَّقُّوم يوم القيامة وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى، كقوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ}، وقوله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} الآية ونحو ذلك من الآيات. وعن عكرمة والضحاك ومالك بن دينار: المعيشة الضنك: الكسب الحرام، والعمل السيِّىء. وعن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة: المعيشة الضنك: عذاب القبر وضغطته. وقد أشار تعالى إلى فتنة القبر وعذابه في قوله {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
قال مقيّده - عفا الله عنه وغفر له -: قد جاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: أن المعيشة الضنك في الآية: عذاب القبر. وبعض طرقه بإسناد جيّد كما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية. ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا. وطعام الضريع والزَّقُّوم. فتكون معيشته ضنكاً في الدنيا والبرزخ والآخرة، والعياذ بالله تعالى)
أعاذنا الله وإياكم من الضنك,
م/ن
أستغفرك اللهم وأتوب إليك