إن المرء ليصدم عندما يسمع ويرى ويقرأ ما يندى له الجبين، وينفطر له القلب، وتتألم بسببه النفس المؤمنة الزكية من هذا الانفلات الاخلاقي غير المسبوق لكثير من ابناء هذه الأمة صغارها وكبارها، شبابها وكهولها، فتياتها ونسائها، وكأن هؤلاء جميعا في سباق محموم نحو التبرؤ من كل مظهر اسلامي، والتجرد من كل خلق وفضيلة!
لقد خلعوا “برقع الحياء”، بل لقد مزقوه تمزيقا، وإنك لتعجب أشد العجب وتدهش اشد الدهشة وأنت تسمع النكات الجريئة البذيئة على ألسنة الفتيات في المدارس، والاطفال في تجمعاتهم، والشباب في نواديهم، وتتأذى نفسك حين تمشي في الشارع حيث تتطاير الى مسامعك الألفاظ والعبارات التي تخدش الحياء لقد فاحت رائحة عفن التحلل الاخلاقي حتى أضحت تزكم الأنوف، ووصلت الى درجة من الفساد والفجور لا يمكن السكوت عنها، ولا الصبر عليها، ولا إهمالها.
سرطان الفساد
إن الفساد الاخلاقي ليضرب بقوة جسد هذه الأمة الاسلامية حتى بات سرطانا ينهش في جسدها، وينتقل من موضع الى موضع في سرعة مخيفة!
نعم.. لقد عمت مظاهر الفساد والتحلل كثيرا من المجتمعات الاسلامية على اتساع أراضيها، وتباعد اطرافها، حتى إنك لا تكاد تصدق أحيانا أنك في بلاد اسلامية محافظة أو من المفترض ان تكون محافظة على مبادئها وعاداتها وتقاليدها واخلاقها الاسلامية الرفيعة. وأنا لا أقصد بلدا بعينه، لأن الخطب حينئذ سيكون هينا إذ تمكن السيطرة عليه بسهولة وعلاجه بسرعة، وانما أتكلم عن كثير من البلاد الاسلامية وذلك من خلال ما سمعت وقرأت ورأيت، وبين يدي الكثير من الاحصائيات التي تدل على عمق الانفلات الأخلاقي في تلك البلاد.
قد يخالفني الكثيرون، ويعتبرون كلامي نوعا من المبالغة، ان لم يكن ضربا من الخيال ولكني اقول: يجب ألا نخفي رؤوسنا تحت الرمال مثل النعام، بل ان نعترف بصدق، ونقر بشجاعة بما آلت اليه الاخلاق في بلادنا الاسلامية.
ومظاهر الفساد الاخلاقي اضحت للأسف الشديد كثيرة في بلاد المسلمين، ومنها ما تراه عيناك من شباب فاسق ماجن تبرأ من رجولته تبرؤ الذئب من دم ابن يعقوب، ولقد رأيت بعض هؤلاء وهم يسدلون شعورهم على اكتافهم، ويضعون المساحيق على وجوههم، والأقراط في آذانهم، والسلاسل الذهبية والفضية حول رقابهم، ناهيك عن ميوعتهم وتكسرهم، والأدهى والأمر أنهم يرتدون الملابس النسائية أو ما يشبهها. كما ترى كثيرا من الفتيات والنساء كاسيات عاريات بما يرتدين من ملابس شفافة ضيقة تبرز المفاتن، وتلهب الغرائز، كما ترى منهن من تشبهت بالرجال في ملبسها وبعض افعالها! أين الغيرة يا أولياء الأمور على اعراض بناتكم؟! أين الحمية أيها الازواج على نسائكم؟ أين الحزم أيها الآباء مع ابنائكم؟! أين دوركم أيها العلماء في التصدي لهذا الفساد؟!!
هؤلاء لعنهم الرسول
لقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء”. وفي رواية: “لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال”. رواه البخاري. واقرأ إن شئت ايضا حديث ابي هريرة رضي الله عنه حيث قال: “لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لِبْسَة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل”. رواه ابن داود.
إن هؤلاء الرجال ملعونون، لأنهم يشوهون صورة المسلم الحق النظيف في اقواله وافعاله وسلوكه، وهؤلاء النسوة والفتيات ملعونات؟ لأنهن يمزقن “ثوب الحياء” الذي هو زينة الفتاة والمرأة المسلمة. ملعونات، لأنهن من جنود ابليس، فهن سبب في فساد الشباب المسلم وتجرئه على انتهاك حرمات الله. انهن محرومات ان لم يتبن الى الله، ويقلعن عما هن فيه من ريح الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : “صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر بضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا” رواه مسلم. والكاسية العارية هي التي تستر بعض بدنها وتكشف بعضه إظهارا لجمالها ونحوه، وقيل: تلبس ثوبا رقيقا يصف لون بدنها.
المجاهرون بالمعاصي
ومن أشد مظاهر الفساد الاخلاقي التي بدأت تطل برأسها في بعض مجتمعاتنا الاسلامية اعلان المعصية، واظهارها، بل والتباهي بها جهارا نهارا عيانا بيانا من دون مراعاة لمشاعر أو التزام بآداب!
ايها المجاهرون بالمعصية، احذروا غضب ربكم، واسمعوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم :”كل أمتي معافى إلا المجاهرين. وان من المجانة ان يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه” متفق عليه.
وهذا الحديث الشريف يبين لنا عظيم فضل الله تعالى على عباده، ورحمته بهم، حيث فتح أمام عباده العاصين ابواب الأمل والرجاء في عفوه سبحانه ومغفرته إن هم تابوا اليه توبة صادقة وأنابوا. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم “كل أمتي معافى” أي يعفون من المؤاخذة بذنوبهم بشرط توبتهم. وقد جاء الاستثناء في الحديث “إلا المجاهرين” ليطرد هذا الصنف من العصاة من عفو الله وستره، وذلك لجهرهم بالمعصية، وعدم سترها، فهم ارتكبوا إثما فوق إثم، لأنهم ارتكبوا بجانب معصيتهم معصية أخرى أشد ألا وهي استهانتهم بمشاعر الناس، واستخفافهم بهم وتحديهم للأخلاق الفاضلة، والآداب الرفيعة.
إن هذا المجاهر بالمعصية فقد حياءه من ربه ومن رسوله ومن المسلمين الذين ينتسب اليهم، وفقد المبالاة بالقول والفعل “وهذا معنى المجانة”، لذا كان جزاؤه نكالا وفاقا ان يحرم من ستر الله عليه في الآخرة ومن عفوه ومعافاته سبحانه لأن هذا الصنف من الناس من دعاة الرذيلة يشجعون بجهرهم بالمعصية غيرهم من ضعاف الايمان على الوقوع فيها. قال تعالى: “ان الذين يحبون ان تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون” (النور: 19).
واسمع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر بعين الغيب الى ما سيحل بأمته، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا اتخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم” رواه ابن ماجة في كتاب الفتن.
اتقاء الفتنة
فعلى علماء الأمة ومصلحيها وأولي الأمر فيها ان يقوموا بواجبهم إزاء هذا الفساد الأخلاقي المستشري استشراء النار في الهشيم، وان يبادروا الى بيان ما حل بالأمة من خراب ودمار نتيجة ابتعادها عن الدين منهجا وحُكْما وحَكَما وسلوكا، وان يمنعوا أهل الفساد من إفسادهم بالحكمة والموعظة الحسنة وعلى ولاة أمر المسلمين ان يأخذوا بحزم وعزم وقوة على أيدي هؤلاء العابثين المفسدين المستهترين بمشاعر الناس، وأن ينتصروا للفضيلة والاخلاق الكريمة فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، لأنهم ان توانوا في التصدي لهذا الانفلات الأخلاقي، فسرعان ما يعم الفساد وينتشر، لأنه كالجرثومة وحينئذ يصعب اقتلاعه من النفوس، وهذا الاختلال، وذاك الاضطراب يفسدان على أهل الصلاح صلاحهم وينغصان عليهم حياتهم، وهذا دليل على ان الفتنة اذا نزلت بساحة قوم أو أمة أو مجتمع فإنها لا تصيب الظالم خاصة، وانما يتطاير شررها ويعم شرها، فتصيب الجميع الصالح والطالح، ومن أجل هذا يجب على الكل اقتاؤها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن أضرارها تصيب الجميع، وصدق الله تعالى: “واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا ان الله شديد العقاب” (الانفال: 25).
تأمل التنكير في قوله: “فتنة” وما فيه من دلالة على أنها فتنة عظيمة من نوع غريب خاص. فهذه فتنة دنيوية قد تكون عقابا منه سبحانه ومن خصائص تلك الفتنة انها لا تخص المجرمين اذا كان الغالب على الناس هو الفساد والفجور والفسق، فعن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم” اذا كثر الخبث ثم يحشرون على نياتهم” رواه مسلم.
لذا فأنا اعلنها صرخة مدوية من هذا المنبر الحر المستنبر، واخلعها من رقبتي واضعها في رقبة كل عالم ومصلح وحاكم مسلم، اذا كنتم تبتغون النصر والعزة لدينكم، والتمكين في الأرض فحاربوا الفساد الاخلاقي في بلادكم، فعار علينا جميعا ان نكون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليتمم مكارم الاخلاق، وفينا من يتشبه بأعداء محمد صلى الله عليه وسلم في عاداتهم وتقاليدهم الماجنة الفاسدة. وانتم يا من ضللتم طريق محمد صلى الله عليه وسلم واتبعتم شياطين الإنس والجن فأضلتكم وأغوتكم، وفي مهاوي الرذيلة رمتكم، أما آن لكم ان تثوبوا الى رشدكم، وان تعودوا الى دينكم، وإلى التمسك بسنة نبيكم؟ أما آن للباطل ان يرعوي؟ وللفساد ان ينزوي؟ مازلت اخاطب فيكم الفطرة النقية السوية، فربكم يناديكم بقوله: ألم يأن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون” (الحديد:16). فهل أنتم مجيبون؟ أما آن لكم ان تقولوا: سمعنا وأطعنا؟ وأدعو الله لنا ولكم بالهداية وحسن الخاتمة. قال تعالى: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مر دله وما لهم من دونه من وال” (الرعد:11).
اللهم بلغت اللهم فاشهد. والله من وراء القصد.
منقول من جريدة الخليج
الامــيــرة01 @alamyr01
عضوة مميزة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.
الصفحة الأخيرة