ما بين مديات الواقع و الخيال، شعرة دقيقة تكاد أحيانا لا تبين. حينها تختلط الحقيقة المدثرة برداء الزيف بزيف تزمل ثوب الواقع فنقف حيارى نبحث عن أحدهما لنستيقن الآخر ... لكن عبثا نحاول.
هكذا وقفت شمس ذاك اليوم حائرة قد أخرس المشهد لسان حالها فتلجمت و الحرقة تشعل نيرانها في قلبها. حينها آثرت صمتها متجرعة حسرة تصلي رماد قلبها المتفتت. قدِمت صباحا متسربلة رداءها الحريري تنفض بقية ما علق بخصلاتها العسجدية من قطرات لؤلؤية كانت ثمنا لليلة هادئة قضتها في أحضان البحر الرائق. أطلت بنظراتها الحانية كأم رؤوم تطمئن على عوالم هائمة خلَّفتها لساعات دون أن تدري بأنها ستعود لتجد بضعا من قطعها قد تناثرت و حكمها الفقر إعداما بطيئا تنفذه أيدٍ آدمية ما عادت تدري أتطلق رصاصة الرحمة فتنهي كل شيء أم تترك البراءةَ لتتفنن أيدي الفقر برسم عوالمها المظلمة على ملامحها الصادقة؟!!
حين كان العملاق البرتقالي يحترق في كبد السماء ، كنت أقف على جانب الرصيف أمسح بمنديلي القطني قطرات العرق المتفصدة من جبيني قبل أن تنسل و تبلل وجنتي. طال وقوفي و أنا أحاول جاهدة فك طلاسم اللوحة المعلقة على الجانب الآخر من الرصيف حيث يجلس مجموعة من الأطفال يتوسطهم رجل بملابس بدت بسيطة مهلهلة.
ألهبتني سياط الشمس فقررت التقدم قليلا لأرضي فضولي الثائر و أقطع حبل انتظاري. رفعت جلبابي المرسل قليلا و قفزت مستندة على أطراف حذائي خشية تبللي بآثار المستنقعات التي خلفتها أمطار الأيام الفائتة. مع اقترابي من الرصيف الآخر ، كانت ملامح اللوحة المعلقة على عمود الإنارة هناك بدأت تتضح ،و قد كتب عليها بخط شبه ميت: "أولاد للبيع". كانت العبارة أحدَّ من سكينِ قاتلٍ محترف أصاب قلبي المنكسر في مقتل. لم أكن أظن يوما أن القسوة الآدمية قد تصل حدا يصبح فيه فلذات الأكباد و زهرات القلوب سلعة رخيصة ترمى على الأرصفة بحثا عمن يقتنيها.
كنت أقف مشدوهة كوتد ضرب حتى أثخنته الضربات فأناخ مستسلما. تأملت الأطفال للحظات و دمعي يكاد يخونني فما رأيت إلا ما زادني حسرة و ألما: أحدهم يتشبث بشقيقه الجالس إلى جواره كأنما استشعر غدر الزمان قد أضحى قريبا، و آخر يحاول انتزاع قطعة بلاستيكية من يد شقيقه ظنا منه أنها لعبة قد لا تمنحه الحياة فرصة سواها ،و ثالث متكور على نفسه يرضع إبهامه مبحرا في عوالمه الخاصة ،و رابع يخط بحجر أبيض خطوطا عشوائية تكدر عتمة الرصيف و خامس و سادس و عاشر و أكثر. خلتني للحظات أقف أمام مشهد سقط من صفحات "البؤساء" حين خطها هوغو قبل عقود مضت و عاد اليوم ليتمثل شاخصا أمام ناظري.
- " يا سيدة، هل تريدين ولدا؟ " خاطبني الرجل وابتسامة صفراء تعلو محياه البارد. كنت أشعر بنظراته تستنطقني لكنني تصنعت التجاهل ،و عدت أتأمل كتل العظام المكسوة ببراءة متردية على الرصيف أمامي.
بالأمس فقط ،حُكم على أمومتي بالوأد قبل أن تبصر النور حتى حين كشف التقرير الطبي و أثبت أن زوجي لا يمكن أن ينجب أبدا. لا زالت دموعه الحرى ندية على صدري لم تجف. بكى بحرقة أبوته المدفونة داخل ملفات الفحص الطبي دونما ذنب يذكر. لا زلت أشعر بارتعاشة جسدي حين كاد ينطق بما يُنهي رباطنا المقدس فعجلت بوضع أصابعي على فمه لأمنع انبعاث أنفاسه الدافئة التي تحمل بين طياتها ما يحطم قلبينا معا.
- " لا ، لا تقلها أرجوك. لا أريد من دنياي سواك. حتى و إن بقينا لوحدنا فلا أريد شيئا سواك" قلت مرتجفة و دمعي ينحدر صامتا منكسرا يجابه نبضات قلبي التي أعلنت الحداد على مشاعر خبأتَها لزمن وردي تسمع فيه كلمة "ماما" تنساب من بين شفتين ورديتين لطفل جميل في أحضان والده.
- " لكنك تستحقين أفضل مني . تستحقين من ينفث فيكِ أمومتك . لستِ بحاجة لعاجز مثلي".
- "لكنني أحبك أنت . أنت و فقط". بهذه الكلمات أسكنت روحه الملتاعة فنام ليله الطويل يحتبس دموعه خلف ستار جفونه المسدلة.
- " ما بكِ شاردة يا سيدة؟ هل تريدين طفلا أم لا ؟" عاودني صوت الرجل مجددا فكانت كلماته شرارة أشعلت فتيل النيران التي ما فتئت تكويني منذ الأمس فاندفعت قائلة:" ألست إنسانا يا هذا؟ ألا يؤنبك ضميرك؟ ألا يوجعك قلبك و أنت تبيع قطعا منه؟ ألا تستمتع بضحكاتهم البريئة و حركاتهم العفوية؟ إن كنت أنت لا تشعر ،فماذا عن أمهم ؟ أتركتها وراءك تندب حظها العاثر الذي جمعها بك يوما؟"
- "كفى ،أرجوكِ كفى ،لا تكملي. أنتِ لا تعلمين شيئا و لا تشعرين. لا أحد يشعر بنا. أترين أبا مترفا يبيع أبناءه؟ لا و الله ، إنما أبيعهم لأضمن لهم معيشة خيرا من معيشة ضنكا تتلقفهم ،و مستقبلا خيرا من مستقبل أسود ينتظرهم و مهنة أشرف من مهنة التسول و إراقة ماء الوجه. ملعون هو الفقر الذي أرغمني على ذلك . هل تريدين أن أنتظرهم ليموتوا واحدا تلو الآخر بين يدي و أنا لا أقدر على تأمين قوتهم؟" كانت كلماته تخرج مخنوقة كأنه بسيف كبريائه منتصب على بوابات فاه ليكون رقيبا على كل كلمة قد تمسه أو تخدشه.
أدار جسده عني مخفيا لحظات ضعفه ثم تابع :" أما أمهم فقد توفيت هي و جنينها الأخير في ولادة متعسرة و بقي الأطفال بلا أم ترعاهم و بأب لا يستطيع إسكات جوعهم و لو مرة واحدة فقط".
- " لكن من يشتري أطفال غيره؟" تساءلت و عيوني لا تفتأ تتنقل بين الأطفال الذين استرعى نقاشنا انتباههم فتحلقوا منصتين دون أن يعوا كثيرا مما يقال.
- "لا أعلم. لكن ربما يُشفق على أحدهم محسن ما فيأخذه و ينشله من عوالم الفقر المهلكة ".
لم تكن كلمات الرجل ذات صدى عميق في قلبي ، لكنني ضعفت أمام عينين صغيرتين تحدقان إليّ ببراءة أذابت جليد كلماتي المتصلبة. فتحت حقيبتي متعجلة و أخرجت رزمة من النقود كنت قد جلبتها لأشتري بها بضع لوازم منزلية. دفعتها بيمناي إلى الرجل و أمسكت يد الطفل بيسراي قائلة:" أريد هذا الصغير الجميل ".
- " أحسنتِ الاختيار يا سيدة. هذا أصغر أبنائي و اسمه سعيد و هو في الثالثة من عمره. كان متعلقا بأمه كثيرا و أظنك ستعوضينه عما افتقده". قالها الرجل بابتسامة مهترئة و هو يناولني شهادة ميلاد الطفل ، ثم التفت إلى أكبر الأطفال قائلا: " خذ إخوتك إلى المنزل حتى أحضر لكم غداء ،انتبه عليهم جيدا" .
- " و سعيد يا أبي؟" .تساءل الطفل و عيناه لا تفارقان شقيقه الأصغر الواقف إلى جواري.
- " سيذهب مع هذه السيدة اللطيفة لتعتني به لأنه لا يزال صغيرا و يحتاج أما. اذهبوا الآن و سترونه فيما بعد".
كانت مشاعري مزيجا من ألم منصهر و فرحة غريبة. لم أكن أدري أيحق لي أن أفرح بطفلي الجديد ، أم أبكي الزمن البهيم الذي فرقه عن إخوته؟! كانت عيناه تسيران مع إخوته مشيعة و مودعة أو هكذا ظننتها تلك النظرات . كانت يمناه الصغيرة في يسراي تداعب خاتمي برفق حين سأل والده و عيونه شبه مغرورقة: " أين ذهبوا يا أبي؟".
- " إلى المنزل و أنت ستذهب مع هذه السيدة ليصير لك أم ، ألم تكن تبكي دوما و تقول أريد أمي؟ ".
- " بلى. لكنني أشعر بالعطش". .
أرسلت يد الطفل برفق و أخرجت زجاجة عصير من حقيبتي و قدمتها له متوددة :"تفضل يا صغير. اشرب هذا و سيذهب العطش" . تناولها مني مبتسما و قال: " شكرا". تريث قليلا ثم أكمل :" أمي قالت أنها ستشتري لي لعبة ، هل ستشترين لي واحدة؟"
- " أجل بالطبع . الآن حالا ، هيا فلنذهب".
نظرت في عيني الرجل كأنما أنتظر منه إذن المغادرة فأومأ بابتسامة كسيرة و قبل الطفل على جبينه قائلا :" هيا اذهبوا و اشتروا لعبة. كن ولدا عاقلا يا سعيد".
- " أجل يا أبي. إلى اللقاء".
أمسكت يد الصغير مجددا و سرنا سويا. كان يداعب زجاجة العصير في يمناه بمرح و كنتُ أهيم في عوالم المستقبل القادمة علِّي ألمح في الأفق سعادة قادمة لي و لزوجي الذي لم أستطع حتى تخيل موقفه أو ملامح وجهه الجميل حين يرى هذا الدخيل الصغير الذي لم يحمل من السعادة طوال سنيه الثلاث إلا اسمها.
نظرت إلى الشمس فوقي و وجدت نيرانها لا زالت تستعر . تساءلت بصمت و أنا أتأمل الصغير الباسم و هو يداعب برك المياه الضحلة بقدميه الصغيرتين: " ترى على أي مشهد ستغربين اليوم، و على أي قصة ستشرقين؟" تنهدت بعمق ثم أحكمت قبضي على يد الصغير و تابعت جادة:" ستمر الساعات و نرى".

أم سهى @am_sh_3
عضوة نشيطة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

أم سهى
•
يا سيدة، هل تريدين ولدا؟ " خاطبني الرجل وابتسامة صفراء تعلو محياه البارد. كنت أشعر بنظراته تستنطقني لكنني تصنعت التجاهل ،و عدت أتأمل كتل العظام المكسوة ببراءة متردية على الرصيف أمامي
الصفحة الأخيرة
- "لا أعلم. لكن ربما يُشفق على أحدهم محسن ما فيأخذه و ينشله من عوالم الفقر المهلكة