هايـــــــدي
هايـــــــدي
الرواية التوراتية لتاريخ بني إسرائيل على ضوء المكتشفات الأثرية الحديثة


تعتبر الآثار المادية التي خلفتها الجماعات البشرية على سطح هذا الكوكب هي أكثر المصادر دلالة على تاريخ هذه الجماعات ومدى إسهامها في الحضارة الإنسانية عامة . وعلى ضوء هذه الحقائق المادية يمكن اكتشاف مدى صحة ودقة الروايات المكتوبة والشفوية التي دونتها وتناقلتها هذه الجماعات عن تاريخها وحضارتها .


فالمصادر المادية الممثلة بالمخلفات الأثرية لا تخضع لمبالغة أو تنميق أو تحريف بسبب العواطف والمطامح والمطامع .

ومن هنا , فان الآثار التي خلفتها هذه الجماعات البشرية تبقى المعيار الحقيقي الذي على ضوئه يتم فحص مدى تطابق ما روته هذه الجماعات عن ذاتها ، أو ما رواه الآخرون عنها ، مع الواقع المادي المكتشف .


التوراة لا تروي لنا قصة الخلق وحسب ، وإنما قصة وتاريخ بني إسرائيل ، هذا الشعب الذي اختاره "يهوه " اله إسرائيل ، دون شعوب الأرض كلها ، ووقف إلى جانبه في حله وترحاله وحركاته وسكناته ، وسانده وآزره ضد كل الأغيار .

إن الاهتمام بالآثار والتنقيب عنها ، كمصدر من مصادر التاريخ ، هو اهتمام حديث نوعا ما . والجدل والنقاش حول رواية التوراة وبداية عهد بني إسرائيل قد اخذ يشتد ويحتدم منذ 130 عام ، رغم أن أول من شكك في إلهية التوراة المكتوبة كان الفيلسوف اسبينوزا والمفكر توماس هوبز في القرن السابع عشر .


منذ أن بدأ الاهتمام ينصب على البحث عن الآثار القديمة كدلائل على الماضي الغابر ، كان اهتمام الباحثين الأثريين قد تركز على الحضارات الكبيرة القديمة كالمصرية واليونانية والرومانية وحضارة ما بين النهرين ، وبتكليف من المتاحف الأثرية الكبيرة في باريس وبرلين ولندن . وعلم الآثار المتعلق بتاريخ بني إسرائيل تطور في مرحلة متأخرة نسبياً في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين .

وكان الهدف الأساسي للأبحاث الأثرية هو معرفة مدى التطابق بين ما روته التوراة ككتاب ديني وبين ارض الواقع .فهل توصل الباحثون الأثريون من خلال ما اكتشفوه من آثار إلى هذا التطابق ؟ وما الذي خلصوا إلية من أبحاثهم الأثرية في فلسطين " ارض إسرائيل " حيث تتركز روايات التوراة .



لم يتفق الباحثون الأثريون حول الفترة الأثرية التي تتوافق مع عهد أجداد بني إسرائيل ،كما تصفها التوراة . فليس هنالك اتفاق حول متى عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب . ومتى تم شراء مغارة " الماكفيلا " كقبر للآباء والأمهات .


ولم يتضح من الحفريات الأثرية ما يدل على التسلسل التوراتي لإحداث هذه الفترة . فالباحث الأثري الأمريكي وليام أولبرايت ادعى في مطلع الستينيات "أن هنالك توازيا بين فترة ترحال إبراهيم وبين العصر البرونزي - القرون 20-22 قبل الميلاد ": - ولكن بنيامين مازارالذي يعتبر أباً للفرع الإسرائيلي لعلم الآثار التوراتي اقترح " تشخيص الخلفية التاريخية لعهد الأجداد بألف سنه بعد ذلك ، أي في القرن الحادي عشر قبل الميلاد " ، بينما نفى باحثون آخرون تاريخ هذه الحكايات واعتبروها أسطورة نسجت حول الأجداد الإسرائيليين في عهد مملكة يهودا .


وفيما يتعلق بقصة خروج بني إسرائيل من مصر والتوهان في الصحراء وجبل سيناء ، فقد حاول عدة باحثين تحديد موقع جبل سيناء ، ومحطات وقوف أسباط إسرائيل في هذه الصحراء ، إلا أنهم لم يتمكنوا من اكتشاف اثر واحد يتطابق مع الصورة التي ترسمها التوراة . وبهذا الخصوص كتب عالم الآثار البروفسور يسرائيل فنكلشتاين من جامعة تل أبيب يقول " خلال عشر سنوات من البحث الأثري العلمي لم يتم اكتشاف أية براهين أثرية لحكاية الخروج من مصر .


ورغم حراثة سيناء كلها ودلتا النيل طولاً وعرضاً وعمقاً ، ليس هنالك أية براهين على أن الإسرائيليين القدامى قد مروا من هناك . فهنالك أدلة مكتوبة حول مرور جماعات من المتسللين الرحل من سيناء إلى مصر ، وقد نقل موظفو الحكم المصري التقارير عن ذلك ، وليس هناك من أدلة على وجود تجمع سكاني عبري أياً كان استوطن فيه يعقوب أو أبناؤه أو غيرهم من الإسرائيليين الآخرين في مصر نفسها في القرن الثالث عشر قبل الميلاد والذي يعتبر فترة حدوث المجريات المفترضة في الحكاية " . ويعتقد أغلبية المؤرخين اليوم أن مكوث الإسرائيليين القدامى في مصر وخروجهم منها كانا في أقصى الأحوال تصرفا لبعض العائلات " وتم توسيع حكاية هذه العائلات وتأميمها من أجل خدمة الأيدلوجية اللاهوتية الدينية لتشمل الشعب كله " .


لقد اثبت الحفريات التي أجرتها بعثات مختلفة خلاف ما ورد عن احتلال الإسرائيليين للمدن الكنعانية بقيادة يهوشع بن نون .فالحفريات التي أجريت في مدينتي أريحا وعاي واللتين أسهب سفر يهوشع في وصف احتلالهما ، لم تؤيد رواية التوراة . فقد أظهرت الدراسات في هاتين المنطقتين انه في فترة الاحتلال هذه ، حوالي 1300 ق.م في أواخر العصر البرونزي ، لم تكن في هذين الموقعين أية مدن ، ولم تكن بالتالي أسوار يمكن إسقاطها .وفي مواقع كثيرة ورد ذكرها في التوراة لم يتم العثور على أي موقع سكاني .

وهذا يعني أن دمار المدن الكنعانية لم يكن ناجماُ عن حملة احتلالية واحدة بقيادة قائد عسكري واحد ، وهو هنا يهوشع ابن نون ، وإنما نتيجة عملية متواصلة لمدة مئة عام على الأقل ، دمرت خلالها مدن وتجمعات سكنية في المنطقة آنذاك . فتحدثت التوراة - مثلا - عن ملك عراد الكنعاني المتوطن في النقب ، والذي قاتله جيش يهوشع بضراوة . وقد اتضح أنه لم يكن في عراد ومحيطها أي تجمع سكاني في هذه الفترة بل وجدت هناك أدلة على وجود تجمع سكاني آخر أقدم بكثير من الألف الثالث قبل الميلاد ، أي قبل 5000 سنة . وقد قام علماء أثار أمريكيون بأعمال حفريات في مكان آخر تطلق علية التوراة اسم حشبون وراء نهر الأردن . ولم يعثروا هناك على أدلة أثرية تؤيد حكاية التوراة . وهذا الأمر تكرر في مواقع أخرى دون العثور على ما تتحدث عنه التوراة .



ولقد أثبتت المكتشفات الأثرية أن التوراة بالغت كثيرا قي وصفها لقوة ومناعة المدن الكنعانية التي احتلها الإسرائيليون القدامى ، في حين أن الواقع كان خلاف ذلك ، حيث لم يوجد في الكثير من هذه المواقع التي تحدثت عنها التوراة إلا مباني قصر الحاكم ، وليس مدن حقيقية في كثير من الأحيان . وأن انهيار الحضارة في فلسطين " ارض إسرائيل " في العهد البرونزي آنذاك لم يكن بفعل الاحتلال العسكري الإسرائيلي بل نتيجة لعملية استمرت مئات السنين .يضاف إلى ذلك إنكار التوراة للواقع الجيوسياسي للبلاد في تلك الفترة . فقد كانت خاضعة للحكم المصري حتى أواسط القرن الثاني عشر حيث كان المصريون يشرفون على حكمهم لهذه البلاد من خلال مراكز إدارية في غزة ويافا وبيسان .


تحدثت التوراة عن المملكة الإسرائيلية الموحدة في عهد داود وسليمان ووصفتها بأنها كانت قمة الاستقلال السياسي العسكري والاقتصادي لشعب إسرائيل في العهود السابقة بعد أن وصلت احتلالات داوود من نهر الفرات إلى غزة .


ولكن المكتشفات الأثرية لم تثبت صحة هذه الادعاءات ، حيث تبين أن الحركة العمرانية التي تحدثت عنها التوراة في هذه الفترة كانت شحيحة وقليلة وأن داود وسليمان كانا حاكمين لممالك قبلية تضم مناطق صغيرة : الأول في الخليل والثاني في القدس . كما أن مملكتي يهودا وإسرائيل كانتا في البداية منفصلتين ومستقلتين . وفي كثير من الأحيان كانت متخاصمتين . ولم تكن القدس في عهد داود وسليمان سوى مدينة صغيرة وربما كانت فيها قلعة ملك صغيرة ، غير أنها لم تكن بأي شكلٍ عاصمةَ للإمبراطورية التي وصفتها التوراة .


ولا زالت أعمال الحفريات التي تقوم بها إسرائيل حاليا تكشف عما لا يروق لمن يبحثون عن دلائل عما ما ذكرته التوراة . فقد اتضح من خلال الحفريات الجارية في منتصف عام 1998 أن هناك أطلالاُ لمدينة كنعانية في القدس تحت أطلال ما يدعيه الإسرائيليون أطلال الهيكل الأول .



ويعود تاريخ هذه المدينة الكنعانية إلى ما قبل المدينة التي أسسها داود،والتي تتحدث عنها التوراة .وقد تبين أيضا أن هذه المدينة الكنعانية كانت كبيرة ومحصنة ولها شبكة مركزية للمياه، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على وجود حياة عامة منظمة على مستوى رفيع من الإدارة والتنظيم إذا كانت الأبحاث الأثرية المختلفة قد دحضت وألقت ظلالاً كثيفة من الشك على رواية التوراة لتاريخ بني إسرائيل القدامى ، حيث تبين من خلال هذه الأبحاث عدم وجود دلائل على خروج بني إسرائيل من مصر وضياعهم في سيناء ، كما تصف التوراة ، واتضح أيضا أن احتلال المدن الكنعانية وتدميرها بالشكل الذي ذكرته التوراة ليس له أساس على ارض الواقع ، فإن السؤال الذي يطرح ذاته ، والحالة هذه هو : من هم هؤلاء الإسرائيليون القدامى ومن أين جاءوا ؟ وبلغة أخرى كيف ولد الكيان الإسرائيلي القديم في فلسطين " ارض إسرائيل " ؟

الباحثون الذين كانوا يؤيدون النموذج التوراتي ، أي الاحتلال العسكري الإسرائيلي للمدن الكنعانية وعلى رأس هؤلاء وليام أولبرايت في العشرينيات ، ومن ثم إيغال يادين ، لم يعد لرأيهم قيمة تذكر بعد المكتشفات الأثرية التي ضحدت هذا الرأي . وهناك بعض الباحثين الذين لا يزالون يعتقدون أن الإسرائيليين القدامى كانوا بدواً رحلاً جاءوا من خلف نهر الأردن وتوطنوا في المناطق الجبلية من فلسطين " ارض إسرائيل " ، وعلى رأس هؤلاء الباحث الألماني البرخت آلت و مارتن نوت. وقد تبنى هذا الرأي الباحثان الإسرائيليان بنيامين مازار ويوحنان اهروني. ولكن الباحثين الأمريكيين ، جورج مندسهول ونورمان جوتفالد لهما رأي آخر وهو أن الذين استوطنوا المناطق الجبلية هم كنعانيون من سكان القرى في المنطقة الساحلية والذين ملّوا من حكم ملوكهم الطغاة ، فتمردوا وتركوا المدن واستوطنوا الجبال التي لم تكن مستوطنه قبل ذلك . وهناك رأي آخر للباحث الإسرائيلي فنكلشتاين قوامه أن هؤلاء المستوطنين هم الرعاة الذين تجولوا في المناطق الجبلية في العصر البرونزي المتأخر ، حيث كان لهم اقتصاد يقوم على مبادلة اللحم بالأسماك مع سكان الأغوار . ومع انهيار النظام الزراعي الحضري في هذه الأغوار اضطر هؤلاء الرعاة الرّحل للاصطياد بأنفسهم،الأمر الذي ولّد لديهم دافعا للاستقرار والتوطن .


لم يقتصر الرفض والتشكيك في رواية التوراة لتاريخ بني إسرائيل على العلماء والباحثين الأثريين وحسب . فقد تناول بعض الحاخامات أيضا ما ذكرته التوراة بهذا الصدد بعين النقد . فالحاخام اليهودي الأمريكي ديفيد وولب أعلن في احتفالات عيد الفصح في معبد سيناء في كاليفورنيا أن اليهود لم يخرجوا من مصر ، والسبب في ذلك أنهم لم يذهبوا يوما إليها في أية حقبة تاريخية قبل الميلاد . ويرى وولب أن الاكتشافات الأثرية الحديثة جعلته على قناعة بان اليهود كانوا في ارض كنعان ولم يخرجوا مع النبي موسى من مصر . فاليهود كانوا يعيشون في هذه الأرض بسلام منذ آلاف السنين كما يرى .


إذا كانت رواية التوراة لتاريخ بني إسرائيل من حيث نشأتهم وحلهم وترحالهم ، لم تتطابق والمكتشفات الأثرية على ارض الواقع ، فمن البديهي أن تكون الادعاءات بتحديد مكان الهيكل اليهودي تحت قبة الصخرة والمسجد الأقصى مصدر شك وجدل أيضا .



ومن هنا ، فان آراء العلماء والباحثين الأثريين حول موقع الهيكل تراوحت بين النفي التام لهذا الادعاء وبين والتهجيس والتخمين حول هذا الموقع المزعوم من جهة أخرى . فالعالم فنكلشتاين يرى أن قدس داود لم تكن أكثر من قرية فقيرة بائسة ، وانه ليس هنالك من شاهد اثري يدل على أن هيكل سليمان كان موجوداً بالفعل . ويصر فنكلشتاين على أن رواية التوراة لا تتطابق مع المكتشفات الأثرية الجديدة ، فمدينة مجدو لم يبنها سليمان وإنما بناها الكنعانيون .


وفي محاولته البحث عن مكان الهيكل المدعى توصل المهندس اليهودي طوبيا سيغف ، وهو الأثري الذي كرس سنوات طوالاً من حياته للبحث عن مكان هذا الهيكل في الحرم القدسي الشريف ، إلا أن الهيكل لا يقوم في المكان الذي تقع فيه قبة الصخرة اليوم . وهو بهذا يخالف رأي معظم الحاخامين اليهود "الإسرائيليين" . وبناء على ما أسماه الأدلة الظرفية يعتقد سيغف أن قدس الأقداس يقع تحت صنبور المياه الدائري للوضوء وأن أطلال الهيكل اليهودي مدفونة في الساحة الواقعة بين قبة الصخرة والمسجد الأقصى


وخلاصة القول هي أن الدلائل المادية الأثرية هي التي تكشف مدى تطابق الرواية التاريخية ، أياً كانت ،مع الواقع المادي الملموس الأمر الذي يعطي هذه الرواية المصداقية أو عدمها . وإن العبث والتخريب اللذين تتعرض لهما الآثار الإسلامية والمسيحية في القدس في محاولات بحث تهجسي لا طائل من ورائه لا تنفي الحقائق الملموسة والعلمية التي توصل إليها العلماء والباحثون الأثريون من خلال أبحاثهم ومكتشفاتهم العلمية والأثرية والتي لم تسعف إلا الحقيقة التاريخية وان جاءت على خلاف ما يتمناه ويروج الذين يستندون إلى أساطير وأهواءٍ معينة .






ونتابع مع جهاد الاسلاميين في فلسطين
هايـــــــدي
هايـــــــدي
جهاد الإسلاميين في فلسطين

بقلم: د. خالد الخالدي
رئيس قسم التاريخ والآثار- الجامعة الإسلامية-غزة





الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله محمد، إمام المجاهدين، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين … وبعد،،،


فإن موضوع "جهاد الإسلاميين في فلسطين" من الموضوعات المهمة التي تستحق البحث والدراسة والتأمل، وهو بحاجة إلى دراسة أكاديمية علمية شاملة، تغطيه من جميع جوانبه، وفي هذه الدراسة سوف أعرض هذا الموضوع من خلال النقاط الموجزة الآتية:


الذي فتح فلسطين والقدس وحررهما من أيدي الرومان هم العرب المسلمون، فقد فتح عمرو بن العاص – رضي الله عنه- معظم مدن فلسطين سنة 15هـ (1)، وفتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس واستلم مفاتيحها في ربيع الآخر سنة 16هـ/ مايو 637م (2).


وقد سجل التاريخ أقوالاً لعمر بن الخطاب، أثناء وجوده في بيت المقدس، تبَيَّن أن هذه البلاد فتحت بالإسلام، وأنها لا تضيع إلا بالتخلي عنه، حيث قال: "إنكم كنتم أذلَّ الناس وأحقر الناس وأقلَّ الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله" (3) ، وخطب في الناس قبل أن يغادر بيت المقدس، وأوصاهم قائلاً:" يا أهل الإسلام، إنّ الله تعالى قد صدقكم الوعد، ونصركم على الأعداء، وأورثكم البلاد، ومكن لكم في الأرض، فلا يكون جزاؤه منكم إلا الشكر، وإياكم والعمل بالمعاصي، فإنَّ العمل بالمعاصي كفرُُ بالنعم، وقلما كفر قومُُ بما أنعم الله عليهم، ثمَّ لم يفرغوا إلى التوبة إلا سُلبوا عِزَّهم، وسَلّط الله عليهم عدوهم (4).


· ضاعت فلسطين من المسلمين مدة إحدى وتسعين سنة هجرية عندما انحرفوا عن دينهم، وانتشر بينهم اللهو، وسادت الأفكار الضالة والفرق المنحرفة، حيث احتلها الصليبيون سنة (492هـ = 1099م) (5). والذي حرَّر فلسطين هم القادة الملتزمون بإسلامهم، عماد الدين زنكي (6) ونور الدين محمود(7)، وصلاح الدين الأيوبي (8)، وهم حسب مصطلحنا المعاصر "إسلاميون".


يقول ابن الأثير:" طالعتُ تواريخ الملوك المتقدمين، إلى يومنا هذا، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرةً من الملك العادل نور الدين(9)، فقد كان حريصاً على أداء السنن وقيام الليل بالأسحار، ينام بعد صلاة العشاء ثم يستيقظ في منتصف الليل، فيصلي ويتبتل إلى الله بالدعاء حتى يؤذن الفجر، كما كان كثير الصيام(10).


وكان صلاح الدين الأيوبي كما يقول أحد المؤرخين المعاصرين له:" حسنَ العقيدة، كثير الذكر، شديد المواظبة على صلاة الجماعة، ويواظب على السنة والنوافل ويقوم الليل، وكان يحب سماع القرآن، وينتقي إمامه، وكان رقيق القلب خاشع الدمعةِ، إذا سمع القرآن دمعت عيناه، شديد الرغبة في سماعِ الحديث، كثير التعظيم لشعائر الله (11).

· وقال يوماً وهو قرب عكا:" في نفسي أنه متى يسر الله تعالى فتح بقية السواحل قسمت البلاد، وأوصيتُ وودعتُ، وركبتُ هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أُبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت"(12).


· سقطت بلاد الشام وفلسطين في يد التتار سنة (658هـ= 1260م)، عندما ضعف المسلمون وتخلوا عن مبادئ دينهم، وأصيب المسلمون بهزيمة نفسية لم يسبق لها مثيل، وفروا من أمام التتار، وسلموا لهم البلاد دون مقاومة تذكر(13)، وبلغ الضعف والانهزام بحكام المسلمين حداً جعل أحدهم يرسل صورته مرسومة على حذاء ، هدية إلى هولاكو ، ليتشرف ذلك الحاكم بوضع قدمه على صورته عندما يلبس الحذاء(14) . وسقطت بغداد في أيدي المغول سنة (656هـ = 10-2-1258م)، وذكر ابن كثير أن عدد من قتلهم المغول من المسلمين بلغ 800 ألف وقيل مليونان وقتل الخليفة المستعصم بالله ، وقيل أنه وضع في كيس وقتل رفساً . وسلم الحكام معظم بلاد الشام إلى المغول وقرروا التوجه إلى مصر فبعث هولاكو رسالة إلى قطز حاكم مصر يقول له فيها:" اتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكا، أيُّ أرضٍ تؤويكم؟ وأيُّ طريقٍ تنجيكم؟ وأيُّ بلادٍ تحميكم، فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، الحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمَعْ(14).
· والذي وقف في وجه التتار، وتمكَّن من إلحاق الهزيمة بهم، وأخرجهم من فلسطين والشام هو قطز، الذي كان حاكماً مسلماً مستقيماً صالحاً، حيث يقول فيه ابن كثير: " كان قطز شجاعاً بطلاً كثيرَ الخير، ناصحاً للإسلام وأهله، وكان الناسُ يحبونه ويدعون له" (15).



· والشعار الذي رفعه قطز في معركة عين جالوت وردده جنوده هو "وا إسلاماه". وكان الانتصار في عين جالوت (25 رمضان 658هـ = 6 سبتمبر 1260م)، أي بعد خمسة أشهر فقط من سقوط فلسطين في أيديهم(16).


· الذي حافظ على أرض فلسطين ومنع بيعها لليهود عندما ضعفت الدولة العثمانية هو السلطان عبد الحميد، الذي عُرِف بخلفيته الإسلامية، حيث قال لهرتزل عندما عرض عليه الأموال الطائلة، وأن يحل كل مشكلات الدولة العثمانية المالية مقابل سماحه بدولة لليهود في فلسطين قال: " لا أقدرُ أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي، بل لشعبي، ولقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذوها فيما بعد بدمائهم وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحدٍ باغتصابها منا" (17).



· والذي مكّن لليهود في فلسطين هم العلمانيون في حزب الاتحاد والترقي، حيث يقول السلطان عبد الحميد: " إن سبب خلع الاتحاد والترقي له من السلطة هو إصرارهم عليه أن يصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين"(18).


· احتل البريطانيون القدس في 9ديسمبر 1917م، وأعلنوا عن طبيعة هذا الاحتلال عندما قال القائد البريطاني النبي في خطابه:" اليوم انتهت الحروب الصليبية"(19)، وهذا ما فعله القائد الفرنسي غورو عندما احتلَّ سوريا، حيث وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي وقال بلهجة المنتشي المنتصر: " ها قد عدنا يا صلاح الدين"(20).


· والذي وقف في وجه بريطانيا، وقاد المقاومة ضدها هم الإسلاميون. فقد كان للحاج أمين الحسيني –مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى- دور كبير في تأجيج انتفاضة موسم النبي موسى في القدس (4-10 إبريل -1920م)، التي حدثت عندما لوث يهودي أحد الأعلام الإسلامية لموكب الخليل(21).


· حدثت انتفاضة البراق (15-30 أغسطس- 1929م)، وكانت انتفاضة إسلامية شملت معظم مناطق فلسطين دفاعاً عن الحق الإسلامي في حائط البراق، وكان للحاج أمين الحسيني دوره البارز في تنظيم هذه الثورة(22).


· أنشأ الإسلاميون العديد من الهيئات الشعبية التي كان لها دور مهم في الحفاظ على مبادئ الإسلام والتوعية العامة والمطالبة بحقوق أبناء فلسطين، ومن أبرزها جمعية الشبان المسلمين، والمجلس الإسلامي الشرعي الأعلى سنة 1922م(23).


· أنشأ الشيخ عز الدين القسام سنة 1928م أول تنظيم سري عسكري في فلسطين يعمل ضد الاحتلال البريطاني واليهود، وقد أطلق على هذا التنظيم اسم "المنظمة الجهادية"، وغلب عليه بعد استشهاد القسام اسم "جماعة القسام" أو "القساميون"، ولم يُقبل في هذا التنظيم إلا الملتزمون دينياً المستعدون للموت في سبيل الله. وكان شعار التنظيم "هذا جهاد نصرٌ أو استشهاد"، وقد بلغ عدد أفراد التنظيم سنة 1935م حوالي مائتي منتظم، أكثرهم يشرف على حلقات توجيهية من الأنصار الذين يصل عددهم إلى ثمانمائة، وعندما أعلنت "المنظمة الجهادية" عن نفسها سنة 1935م كانت تملك ألف قطعة سلاح.


وقد دعت المنظمة للثورة على الإنجليز، واختفى القسام وعدد من إخوانه، وحوصر في 20 نوفمبر 1935م بقوات كبيرة من الشرطة، وقاوم لساعات عدة، ثم قضى نحبه شهيداً مع عدد من إخوانه.


· وقد أحدث استشهاد القسام هزة كبرى في فلسطين حيث زاد كره الناس للإنجليز، وانخرط الكثير من الفلسطينيين في صفوف المقاومة العسكرية ضده، وواصل أتباع القسام جهادهم، تحت إمرة قائدهم الذي خلف القسام، وهو الشيخ فرحان السعدي.


· وكان لجماعة القسام شرف تفجير الثورة في 15- إبريل 1936م، وقد استمرت هذه الثورة حتى سنة 1938م، وقد هزت الوجود البريطاني في فلسطين وسيطرت على الريف الفلسطيني وعدد من المدن خصوصاً في صيف 1938م، ونفذت آلاف العمليات العسكرية، ولم تستطع بريطانيا إخمادها إلا بعد أن استعانت بسدس جيشها الإمبراطوري، وأفضل قادتها العسكريين، واستخدمت الدبابات والطائرات وكافة الأسلحة(24).



· أنشأ عبد القادر الحسيني سنة 1934م في القدس منظمة المقاومة والجهاد، ووصل أعضاؤها إلى أربعمائة عضو، وقد التقى به الحاج أمين الحسيني سنة 1935م، ودعاه إلى الاتحاد مع منظمة كان يعد لها وشكلا معاً منظمة الجهاد المقدس(25).



· عرفت فلسطين دعوة الإخوان المسلمين حوالي سنة 1935م، وانتشرت في أوائل الأربعينات من القرن الماضي فروع للإخوان في العديد من المدن الفلسطينية، وقد نشطت الجماعة في مجالات الدعوة والتربية والتوعية الإسلامية والتعريف بالخطر الصهيوني والمؤامرة على فلسطين والتعبئة للجهاد(26).



· كان الإخوان المسلمون في مصر المنظمة الأولى خارج فلسطين التي تتعاطف وتتعاون مع أهل فلسطين، حيث أسس حسن البنا سنة 1936م اللجنة المركزية لمساعدة فلسطين، وقد أخذت هذه اللجنة تنشر أفرادها في المساجد وغيرها، فعرف المصريون بما يجري في فلسطين من ظلم لإخوانهم على يد الإنجليز واليهود، وتجمع التبرعات وترسل بها إلى الحاج أمين الحسيني.


· كما تولت الجماعة مخاطبة الحكومة المصرية وحضها على مساندة شعب فلسطين، وإرسال البرقيات الاحتجاجية إلى المندوب السامي البريطاني في كل من مصر وفلسطين(27). وقد حدث هذا الاهتمام بفلسطين، في وقتٍ لم يكن أحد من الحكام العرب يوليها أي اهتمام، وحين سئل رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت، ماذا ستفعلون من أجل رفع الظلم عن الفلطسينيين؟ أجاب:" إنني رئيس وزراء مصر ولستُ رئيس وزراء فلسطين"(28).


· لم يكتف الإخوان المسلمون بدورهم في مجال التعبئة الإعلامية، وجمع التبرعات والأسلحة، بل قرروا المشاركة بأعدادٍ كبيرة في تحرير فلسطين. فأرسل حسن البنا برقية إلى جامعة الدول العربية في 3-أكتوبر-1947م، لإرسال عشرة آلاف متطوع من الإخوان كدفعة أولى، لكن جامعة الدول العربية رفضت، فخاطب الحكومة المصرية، وطلب السماح لهؤلاء بالدخول إلى فلسطين، لكنها رفضت، فاضطر للتحايل عليهم، إذ تظاهر عدد من الإخوان بأنهم يرغبون في الذهاب إلى سيناء من أجل رحلة علمية، ومن هناك تسربوا بأسلحتهم إلى فلسطين، ومع كثرة الإلحاح على جامعة الدول العربية، سُمح لعدد آخر من الإخوان بالمشاركة، ولكن تحت قيادة الجيوش النظامية(29).


· أبلى الإخوان المسلمون المصريون بلاءً حسناً في حرب فلسطين، وكان لهم دور مشهود في جنوب فلسطين في مناطق غزة ورفح وبئر السبع، حيث كانوا يهاجمون المستعمرات ويقطعون مواصلات اليهود، ومن أبرز المعارك التي شاركوا فيها هناك معركة التبة 86 التي يذكر العسكريون أنها هي التي حفظت قطاع غزة عربياً، ومعركة كفار داروم، واحتلال مستعمرة ياد مردخاي وغيرها، كما أسهموا بدور مهم في تخفيف الحصار عن القوات المصرية المحاصرة في الفالوجا. كما كان للإخوان المصريين مشاركتهم الفاعلة في معارك القدس وبيت لحم والخليل وخصوصاً صور باهر، وكان من أبرز المعارك التي شاركوا فيها في تلك المناطق معركة رامات راحيل، واسترجاع مار إلياس، وتدمير برج مستعمرة بيوت قرب بيت لحم، والدفاع عن تبة اليمن التي سميت تبة الإخوان المسلمين، نظراً للبطولة التي أبدوها، وقد استشهد من إخوان مصر في معارك فلسطين حوالي مائة، وجرح نحو ذلك وأسر بعضهم(30).



· شهد اليهود أنفسهم بدور الإخوان المسلمين في قتالهم، فعندما سئل موشي ديان بعد الحرب بقليل عن السبب الذي من أجله تجنب اليهود محاربة المتطوعين في بيت لحم والقدس، أجاب: " إن الفدائيين يحاربون بعقيدة أقوى من عقيدتنا، إنهم يريدون أن يستشهدوا ونحن نريد أن نبني أمة، وقد جربنا قتالهم فكبدونا خسائر فادحة، ولذا فنحن نحاول قدر الإمكان أن نتجنب الاشتباك معهم"(31).



· وقال في موضع آخر: "كنا إذا علمنا أن فرقة من الجيش بينها خمسة من الإخوان المسلمين نتجنب قتالهم". وتحت عنوان اعرف عدوك نشرت مجلة حائطية يصدرها الطلاب اليهود في الجامعة العبرية في عددها الصادر في حزيران 1970م، صورة للشيخ حسن البنا، كتب تحتها "إن صاحب هذه الصورة كان من أشد أعداء إسرائيل، لدرجة أنه أرسل أتباعه عام 1948م من مصر ومن بعض البلدان العربية لمحاربتنا، وكان دخولهم الحرب مزعجاً لإسرائيل لدرجة مخيفة، ولولا أن أصدقاء إسرائيل في مصر تكفلوا آنذاك بكبح أتباع حسن البنا وتخليص إسرائيل منهم، لكان وضع اليهود الآن غير هذا الوضع".



· كانت المكافأة التي قدمها النظام الحاكم في مصر للإخوان المسلمين على جهادهم المشرف ضد الهيود هي، اغتيال حسن البنا في 12-فبراير سنة 1949م، وعندما وصل بنفسه جريحاً إلى المستشفى، أمر الأطباء بعدم تقديم الإسعاف له إلى أن لقى ربه شهيداً.



صدرت الأوامر إلى قائد الجيش المصري في فلسطين بتجريد الإخوان المسلمين من أسلحتهم، ووضعهم في المعتقلات في رفح والعريش، ونفذ الأمر، وسجن الإخوان المسلمون في ساحة المعركة ثم سيقوا إلى المعتقلات والسجون في مصر وإلى سلسلة مريرة من التحقيق والإذلال.


لكَ الله يا أقصى تقنعت باكياً وكلُّ صناديدِ الرجالِ أسيرُ

بكيتَ وأيدي الجاهلياتِ تلتقي عليكَ، وعجلُ السامريُّ يخورُ


يديرُ رحاها ألف كسرى وقيصرٍ وألف حييٍّ للمديرِ مديرُ (32)

· شارك الإخوان المسلمون الفلسطينيون في الجهاد عندما اندلعت حرب 1948م، بالرغم من حداثة تنظيمهم، وقلة إمكاناتهم. إذ يذكر كامل الشريف قائد متطوعي الإخوان المسلمين في حرب فلسطين:" أن ثمانمائة مجاهد من أبناء فلسطين معظمهم من المتأثرين بالإخوان المسلمين شاركوا معه بالجهاد في جنوب فلسطين"(33).



· ويتحدث كامل الشريف أيضاً عن جهاد الإخوان المسلمين معه في منطقة يافا، وعن مشاركتهم في الهجوم على مستعمرة بتاح تكفا(34).


· ويتحدث عارف العارف أنه كان للإخوان المسلمين في يافا قوات متحركة يبلغ عددها ثلاثين مجاهداً بقيادة حسن عبد الفتاح والحاج أحمد دولة. وقد شاركوا في العديد من العمليات ضد اليهود(35).


وفي منطقة القدس شارك إخوان فلسطين في القتال مع إخوانهم القادمين من البلاد العربية(36).


· كما شارك الإخوان المسلمون السوريون بالجهاد في فلسطين، وكان عددهم حوالي مائة يقودهم المراقب العام للإخوان د. مصطفى السباعي، وقد اشتركوا ببسالة في معارك القدس مثل معركة باب الخليل ومعركة القسطل ونسف الكنيس اليهودي الذي اتخذه اليهود مقراً حربياً لهم(37).


· كما شارك الإخوان المسلمون في الأردن في حرب فلسطين وكان قائدهم الحاج عبد اللطيف أبو قورة، وخاضوا العديد من المعارك ضد اليهود(38).


· وكان للإخوان المسلمين العراقيين دور بالجهاد في فلسطين، فبعد أسبوع واحد من قرار التقسيم ساهم الإخوان المسلمون بقيادة الشيخ محمد محمود الصواف في تأليف جمعية إنقاذ فلسطين في بغداد، وكان الكثير من الإخوان بين المتطوعين الذين توجهوا إلى فلسطين، وبين قوات جيش الإنقاذ، وكانت لهم مشاركات فاعلة في المعارك بشمال فلسطين(39).


· عاد القساميون للمشاركة في ميادين الجهاد من جديد عندما أُعلنت الحرب عامي 47-1948م، وقد عمل معظمهم تحت توجيه الحاج أمين الحسيني ضمن جيش الجهاد المقدس، وظل القساميون يعملون وبالذات في مناطق الشمال. وقد أوقعوا في صفوف اليهود خسائر فادحة.


· ومن أشهر المعارك التي خاضتها قوات الجهاد المقدس معركة القسطل، وكان عبد القادر الحسيني قد طلب مساعدة اللجنة العسكرية للجامعة العربية بالسلاح لاسترداد القسطل، وعندما رفضوا خرج من عند رئيسها وهو يقول بصوت مرتفع "أنتم خائنون، أنتم مجرمون، سيسجل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين، سأحتل القسطل، وسأموت أنا وجميع إخواني المجاهدين"، وفي 8-إبريل-1948م انتصر عبد القادر ورفاقه في معركة القسطل، وحرروها بعد أن قتلوا حوالي 350 يهودياً. واستشهد قائد قوات الجهاد المقدس عبد القادر الحسيني في هذه المعركة.


· انحسر التيار الإسلامي في فلسطين ومصر وبقية الدول العربية بسبب بروز الأنظمة التي رفعت شعارات القومية والثورية، وبسبب محاربة هذه الأنظمة للتيار الإسلامي واتهامه بالعمالة والرجعية. وتعلق الناس ببعض هؤلاء الزعماء وظنوا أنهم صادقون جادون في تحرير فلسطين.


· وعندما رأت الشعوب الهزائم المتتالية لهؤلاء القادة والزعماء، وعرفت عمالتهم الخفية للدول الكبرى، بدأت بالعودة إلى دينها، وقد نشط الإخوان المسلمون في مصر وفلسطين وفي غيرهما من الدول العربية في توضيح الحقائق للجماهير ونشطوا في كسبهم وتوعيتهم وتربيتهم على مبادئ وتعاليم الإسلام، وأسهموا بشكل فاعل في بروز الظاهرة التي عرفت بالصحوة الإسلامية.


· آثر الإخوان المسلمون في فلسطين أن لا يبدءوا مرحلة قتال اليهود إلا بعد أن يصنعوا جيلاً مؤمناً ملتزماً بدينه، محباً للجهاد في سبيله، وخصوصاً أن كثيراً من أبناء فلسطين قد تأثروا خلال فترة سيطرة الأنظمة الثورية بأفكار إلحادية وعلمانية وابتعدوا عن دينهم، وقد استمر الإخوان في عملٍ جادٍ ودؤوب، استمر طوال فترة السبعينات من القرن الماضي، وبداية الثمانيات، وعندما تحققت أهدافهم، وأصبح التيار الإسلامي هو الأقوى والأكثر شعبية في صفوف الفلسطينيين، بدأ الإعداد للجهاد المسلح ضد اليهود.


· في سنة 1980م كشف الكيان الصهيوني تنظيم أسرة الجهاد في قرى المثلث وأم الفحم وكفر قاسم وقلنسوه وباقة الغربية، وقد قام هذا التنظيم بتدمير العشرات من المرافق الاقتصادية، وإحراق السيارات والمعامل و البساتين الإسرائيلية.


· وفي سنة 1983م، كشفت السلطات الإسرائيلية أسلحة داخل قبو في أحد المساجد، وقبضت على الشيخ أحمد ياسين وعدد من الإخوان المسلمين وحاكمتهم بتهمة الانتماء لتنظيم معادٍ لإسرائيل، وحكم على أحمد ياسين بالسجن ثلاثة عشر، عاماً ثم خرج في عمليتي تبادل أسرى بين الجبهة الشعبية والكيان الإسرائيلي في 20-مايو 1985م.


· أنشئت في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات حركة الجهاد الإسلامي، وكان أبرز قادتها الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي والشيخ عبد العزيز عودة، وقد ركزت هذه الحركة على المعاني الجهادية وتحرير الوطن وتنظيم العناصر للقيام بالعمليات العسكرية، واستطاعت القيام بعدد من العمليات الجهادية.


· فجر الإسلاميون الانتفاضة في ديسمبر 1987م، وواجهوا اليهود بحماس كبير، ونوعية مختلفة من الشباب لم يعهدوها من قبل، وقد حدث ذلك في وقت كانت إسرائيل تتهيأ لإبرام اتفاقيات مع قادة م.ت.ف. تحقق مصالحها فقط، وقد شارك في هذه الانتفاضة الشعب الفلسطيني بكافة فصائله، لكن دور الإسلامين فيها كان الأكثر بروزاً.


· شكل الإخوان المسلمون حركة المقاومة الإسلامية حماس، وهي حسب ميثاقها تعتبر الإسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها، وإليه تحتكم، ومنه تسترشد خطاها.


وتهدف حماس إلى تحرير فلسطين وإقامة دولة الإسلام عليها وإعادة الحقوق إلى أصحابها، وترى حماس أن فلسطين أرض وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، لا يصح التفريط بها أو بجزء منها أو التنازل عنها أو عن جزء منها، وأنه لا حل لقضية فلسطين إلا بالجهاد في سبيل الله وأن العمل على تحريرها فرض عين على كل مسلم حيثما كان.


· قامت حماس منذ انطلاقتها بمئات العمليات النوعية ضد اليهود، وما زالت ترفع لواء الجهاد في فلسطين بالرغم مما تعرضت له من سجنٍ وتعذيب وإبعاد واستطاعت هذه الحركة وكذلك حركة الجهاد الإسلامي أن تلحقا باليهود خسائر فادحة، لم تعرفها في حروبها مع جيوش الأنظمة العربية، كما استطاعت أن تنقل الرعب إلى داخل الكيان اليهودي بعمليات أبنائها الاستشهادية.


· وما تزال هذه العمليات تتواصل وتحقق أهدافها. وترى حماس وكذلك الجهاد الإسلامي أنَّ هدف هذه العمليات هو:

أولاً: أن لا يهنأ اليهود في فلسطين في الوقت الذي يعيش فيه الفلسطينيون لاجئون مشردون في مخيمات اللاجئين.


ثانياً: الانتقام من اليهود الذين قتلوا ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ.


ثالثاً: إحياء ضمير الأمة، وإيقاظ روح الجهاد فيها كي تأخذ بأسباب النصر وتقوم بدورها في تحرير فلسطين.


وهي تستمد هذه الأهداف من قوله تعالى:

" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين"(41)


· يعتقد الإسلاميون في فلسطين أنهم الطائفة المؤمنة المجاهدة الثابتة على الحق، المتمسكة به ، حينما يتخلى عنه غيرهم ، الصابرة على أذى المنحرفين عنه ، والقاهرة لأعداء الأمة إلى يوم القيامة ، وأنهم المقصودون في الحديث الشريف الذي يقول فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك ، قالوا أين هم يا رسول الله ؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس "(42) .





المراجع:

1- البلاذري، فتوح البلدان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1983م، ص144 ؛ كمال ، أحمد عادل ، الطريق إلى دمشق، دار النفائس، 1980م، ص513 .

2- ابن كثير، اسماعيل، البداية والنهاية، جـ7، بيروت، مكتبة دار المعارف، 1983م، ط5، ص55 .

3- المصدر نفسه، جـ7، ص60 .

4- الحنبلي، مجير الدين، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، جـ1، عمان، مكتبة المحتسب، 1973م، ص258 .

5- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، جـ8، ص189؛ محسن صالح، الطريق إلى القدس، الخليل، دار المستقبل، ص108-110.

6- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، جـ9،ص8-9؛ أبو شامة المقدسي، شهاب الدين عبد الرحمن بن اسماعيل، الروختين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، تحقيق محمد حلمي محمد أحمد، ق1، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1956م، ص94-96، 107-109.

7- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، جـ9، ص86-88؛ محسن صالح، الطريق إلى القدس، ص117-127.

8- ابن الأثير ، الكامل في التاريخ، جـ9، ص178؛ ابن كثير، البداية والنهاية، جـ12، ص321.

9- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج9، ص125.

10- عماد الدين خليل، نور الدين محمود، الرجل والتجربة، دمشق، بيروت، دار القلم، 1980مم، ص45-47.

11- ابن شداد ، بهاء الدين، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، مصر، شركة طبع الكتب العربية، 1317هـ .

12- المصدر نفسه، ص

13- ينظر: سعيد عاشور، الحركة الصليبية، جـ2، ص887-894 .

14- الهمذاني، رشيد الدين فضل الله، جامع التواريخ، م2، جـ1، نقله للعربية محمد صادق نشأت ومحمد موسى هنداوي وفؤاد عبد المعطي الصياد، مصر، دار احياء الكتب العربية ، د.ت، ص301 .

15- البداية والنهاية ، جـ13، ص225 .


16- ينظر: الهمذاني، جامع التواريخ، م2، جـ1، ص310-316؛عاشور، سعيد عبد الفتاح، الأيوبيون والمماليك في مصر والشام،القاهرة، دار النهضة العربية، 1990م، ص195-199 .

17- محسن صالح، الطريق إلى القدس، ص166 .

18- المرجع نفسه،ص168 .

19- الغوري، أميل، فلسطين عبر ستين عاماً، بيروت، دار النهار، 1972م، ص28-30 .

20- محسن صالح، الطريق إلى القدس، ص169 .

21- المرجع نفسه، ص171 .

22- المرجع نفسه، ص171 .

23- المرجع نفسه، ص171 .

24- عن ثورة القسام ينظر: العبيدي، عوني، ثورة الشهيد عز الدين القسام وأثرها في الكفاح الفلسطيني، الزرقاء، الأردن، مكتبة المنار، د.ت، ص9؛ الحوت، بيان، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948م ، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، 1981م، ص317-316 .

25- الغوري، فلسطين، ص156-159 ؛ ص232-235 .


26- البنا، حسن مذكرات الدعوة والداعية، بيروت، دمشق، المكتب الإسلامي، ط5، ص156-157 .

27- محسن صالح، الطريق إلى القدس، ص181-182 .

28- زياد أبو غنيمة، الإسلاميون والقضية الفلسطينية، ص .. .

29- محسن صالح، الطريق إلى القدس، ص182 .

30- المرجع نفسه، ص182-183 .

31- المرجع نفسه، ص183 .

32- للشاعر الفلسطيني، د. عبد الرحمن بارود .

33- مقابلة مع كامل الشريف في عمان-26-أكتوبر-1985م، نقلاً عن محسن صالح، الطريق إلى القدس، ص181 .

34- المرجع نفسه، ص182 .

35- عارف العارف، النكبة: بيروت، المكتبة العصرية، 1954، جـ1، ص227-229 .

36- محسن صالح، الطريق إلى القدس، ص182 .

37- ينظر: السباعي، مصطفى، الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، دار النذير، 1985م.

38- محسن صالح، الطريق إلى القدس، ص184 .

39- المرجع نفسه، ص185 .

40- المرجع السابق، ص186-187 .

41- سورة التوبة، آية 14 .

42- حديث صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده نقلاً عن شبير، محمد عثمان، بيت المقدس وما حوله، الكويت، مكتبة الفلاح، 1989م، ص31 .








ونتابع
هايـــــــدي
هايـــــــدي
الشيخ خليل أبو غضيب يروي حكاية مرحلة التأسيس لدعوة الإخوان المسلمين في فلسطين









نابلس - خاص
مازال الدم الفلسطيني يبعث الروح في جسد الأرض ويمدها بأبجديات الصمود، ومازال للإسلام كلمته الأولى في الميدان، فمن عصر الصحابة والدعوة إلى تاريخ الفتوحات وتحرير بيت المقدس وحتى انتفاضات الأمة للدفاع عن أرضها وطرد المحتلين مازال الفكر الإسلامي يحشد طاقات الأمة ويشحذ همتها.

أحد رجال الدعوة الأوائل وقادة الإخوان المسلمين في فلسطين يوجز لنا جزءً من تاريخ حركة الإخوان المسلمين في فلسطين .




بطاقة تعريفية


الشيخ خليل حافظ أبو غضيب من مواليد نابلس في عام 1922 ويتحدث الشيخ عن نفسه قائلا :" توفي والدي وأنا في الثامنة من عمري، حيث انتقلت مع أخوالي للعيش في بيسان، وبعد ثلاث سنوات عدت إلى نابلس لكن في عام 1938 رجعت مرة أخرى إلى بيسان ولكن هذه المرة من أجل العمل حيث كنت أبلغ من العمر ستة عشر عاما .




النشأة وبدايات الإخوان


يتحدث الشيخ عن هذه الحقبة فيقول :" كانت نشأتي في البداية على الغناء وإقامة الحفلات في المقاهي بسبب موهبة الصوت التي كنت أمتلكها وكنت أتزعم الأفراح في بيسان وأتقن تقليد محمد عبد الوهاب.

أما في حقيقة نفسي فقد كنت أميل إلى الدين وبداخلي شيء ما دائما ما يحركني ويدفعني إلى التفكير بالابتعاد عن هذه المعاصي، وفي عام 1945 بينما كنت أسير في أحد شوارع بيسان سمعت عبر الراديو عن افتتاح شعبة الإخوان في القدس، مما دفعني للتعرف على ماهية الإخوان،وتولدت لديّ الحماسة لكي أعرف المزيد عن هذه الحركة بعد أن أصبحت شُعَب الإخوان تفتتح واحدة تلو الأخرى.

ومن خلال قراءتي للصحف وسماعي باستمرار للمذياع عرفت الكثير عن هذه الحركة وأصبحت ممن يحثون الناس في المسجد على افتتاح شعبة الإخوان في بيسان وأذكر ممن كان معي في هذه الفترة من منطقة نابلس زكي المصري وعامر المصري وناظم باكير وبعد أن تجمع حولنا الكثير من الناس قررنا أن نفتتح شعبة للإخوان في بيسان وكان هذا في أواخر عام 1945 ، فقمنا بالاتصال مع أحد المؤسسين النشيطين للإخوان في نابلس وهو عبد العزيز الخياط ، وبناء على ذلك أصبح الخياط يتردد على بيسان بين الفينة والأخرى وينظم الأفراد ويشكّل الأُسَر ويعمل على ترتيب البناء الداخلي للإخوان في بيسان، بعد ذلك قمنا باستئجار دار وأصبحت مقرا للإخوان وتم تعيين الشيخ محمد فخر الدين وهو الآخر من نابلس رئيس شعبة الإخوان في بيسان.

في هذه الأثناء كان الإخوان في مصر دائما ما يترددون على فلسطين ويلقون المحاضرات في الشعب ، وقررنا أن يتم افتتاح شعبة الإخوان رسميا في بيسان حيث قدم الشيخ أحمد عبد العزيز من مصر ليقود الجوّالة الذي يطلق عليهم في هذه الأيام الكشافة ، في استعراض مهيب من يافا إلى بيسان وكان هذا أجمل منظر في حياتي حيث كانت المصاحف تتقدم الكشافة والناس في حالة ابتهاج من روعة هذا الاستعراض.





مرحلة التدريب على السلاح


بعد الاستعراض زادت شعبية الإخوان وانضم الكثير إلينا وأصبحنا بالإضافة إلى الدعوة نقوم بحرق بيوت الدعارة وتكسير محلات بيع الخمور ومنع أي مظهر من مظاهر الفساد، وكان ذلك في العام 1946، وفي ذات العام بدأ السلاح يصلنا من الدول المجاورة وخاصة مصر وأصبح أفراد الإخوان يتدربون عليه، وقامت بعض المجموعات بمهاجمة المستعمرات والقيام بالعمليات ضد اليهود والاستعمار واستشهد في هذه العمليات العديد من الشبان وكان هذا حتى عام الهجرة في سنة 1948.




أطياف بيسان

بالرغم من أن الشيخ لم يتعلم بسبب الفقر واليتم إلا أنه استطاع كتابة ديوان شعر اسماه أطياف بيسان وبه عدد كبير من القصائد الشعرية وفي إحدى القصائد قصيدة عن ابنه محمود الذي استشهد في عام 1978 عندما قام جيب صهيوني بمهاجمة مطعم في مخيم عسكر فاستشهد محمود وهو في سن الثالثة عشرة بالإضافة إلى شاب آخر وأصيب العديد من المواطنين.



ونتابع
هايـــــــدي
هايـــــــدي
نقش الملك التوراتي يهوآش
نموذج لتزوير التاريخ الفلسطيني

د. عصام سخيني

كلية الآداب - جامعة البترا



ملخص

كشف ثلاثة من جيولوجيي مركز "المسح الجيولوجي لإسرائيل" التابع لوزارة البنى التحتية الإسرائيلية (في كانون الثاني 2003) أنهم تأكدوا من صحة لوحة حجرية زعم أنها نقشت في عهد يهوآش الذي جاء ذكره في الروايات التوراتية على أنه ملك يهوذا الذي حكم في القدس في القرن التاسع قبل الميلاد. وفي هذه اللوحة المكونة من 15 سطراً، والمنقوشة باللغة العبرية بأحرف فينيقية قديمة، يكيل يهوآش المدح والتمجيد لأعمال الترميم التي أجراها في "هيكل سليمان" بأسلوب يماثل الأسلوب الذي كتبت به فقرات من التوراة تصف هذه الحادثة.



وقد أثار النقش عاصفة في الأوساط الأكاديمية، فقد اعتبره جيولوجيو المركز المذكور ومعهم عدد من الباحثين أنه الدليل الأول من نوعه من مصادر غير توراتية الذي يتطابق مع الروايات التوراتية، وبهذا المعنى فقد زعم أنه يؤكد وجود "الهيكل الأول" ويسوغ بالتالي المطالبة اليهودية "بجبل الهيكل" موقع الحرم القدسي الشريف.



غير أن باحثين آخرين تيقنوا من أن النقش مزور، وقد ضم هؤلاء علماء آثار وخبراء في الكتابات القديمة والنقوش واللغات السامية القديمة، وقد أقاموا حكمهم ذلك على فحوص أجروها على النقش نفسه (مواده ولغته ونقوشه) وعلى تقرير فريق المركز المذكور، وخلصوا من ذلك إلى نتيجة مؤادها أن النقش لا يمكن أن يكون قديماً.


وتتفحص الدراسة الحالية هذا التزوير بتفصيل ضمن إطار وظيفته في تزييف تاريخ فلسطين القديم.





الإطار المرجعي للبحث

نمت عملية كتابة التاريخ القديم لفلسطين على أيدي الغربيين في أحضان التوراة، فهي التي شكلت المرجعية التي تكاد تكون وحيدة لهذه العملية بحيث أسدل ستار كثيف على ماضي فلسطين القديمة فلا يرى إلا من خلال ما تقصه عنه الحكايات التوراتية، وبهذا المعنى فإن تاريخ فلسطين القديم ليس إلا تاريخ اليهود فيها، أما ما يخرج عن الإطار اليهودي فليس له إلا وظيفة واحدة هي أن يكون ملحقاً بهذا الإطار أو حاشية ثانوية للمتن الأصلي دون أن يمتلك الحيثية التي تؤهله للتعامل معه مستقلاً بنفسه، متخلصاً من صفتي الإلحاق والتبعية، وهذه الحالة هي التي ينطبق عليها وصف وليد الخالدي بأنها "اعتقال التاريخ الفلسطيني بالعهد القديم (التوراة)"(1) أو هي في الحقيقة "إسكات التاريخ الفلسطيني" وفق تعبير كيث وايتلام(2).




وكانت الحالة هي هكذا حتى وقت قريب، إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي، عندما حدث ما يشبه الثورة في الدراسات التوراتية نفسها قلبت للتوراة ظهر المجن بعد أن ثبت لأعلام هذه "الثورة" أن هذا الكتاب لا يزيد في حقيقته عن أن يكون كتاب لاهوت من جانب، ومجموعة من الحكايات الأسطورية من جانب آخر. بعضها مختلق بالكامل، وبعضها تكرار بصياغات مختلفة لأساطير أقوام وحضارات قديمة، لفقت معاً لصياغة تاريخ مشتهى لليهود، وهو في كلتا الحالتين (اللاهوتية والأسطورية) لا يصلح أن يكون وثيقة لمعرفة تاريخ فلسطين القديم، وبالتالي لكتابة هذا التاريخ اعتماداً عليه.





وقد نجم عن هذه "الثورة" صراع بين أعلامها من جهة وبين خصومهم التقليديين من جهة ثانية، وهم الذين تمسكوا بأهمية التوراة كوثيقة أساسية في عملية التاريخ. وفي هذا الصراع أطلق على هؤلاء الأعلام صفة Minimalists التي يمكن اقتراح كلمة عربية مقابلة لها هي لفظة "المهوّنين" في مقابل صفة Maximalists التي أطلقت على الخصوم التقليديين، والتي يمكن اقتراح مقابل عربي لها بلفظة "المغالين"(3).




وقد توزع أعلام هذه "الثورة" وهم جميعاً أساتذة وباحثون كبار في الدراسات التوراتية، أو علم الآثار، أو اللغات القديمة، على جانبي الأطلسي كليهما، فاشتهر على الجانب الغربي منه توماس طمسن(4)Thomas L. Thompsom الذي لم تتحمل الأوساط "الأكاديمية التوراتية" هناك جرأته في محاولاته كتابة تاريخ لفلسطين مستقل عن التوراة، فـ "هاجر" إلى الدنمارك ملتحقاً بجامعة كوبنهاجن، أما في الجانب الأوروبي فاشتهر من هؤلاء الأعلام نيلز بيتر لمكه(5) Neils Peter Lemche من جامعة كوبنهاجن بالدنمارك، وكيث وايتلام (6) Keith W. Whitelam وفيليب ديفز(7) Philip R. Davies من جامعتي ستيرلنج وشفيلد البريطانيتين على التوالي، وجيوفاني جابريني(8) Giovanni Gabrini من جامعة روما، لنذكر فقط أسماء قليلة، أما عربياً فقد كان مَن شارك في هذه الثورة قلة من الباحثين، وكان في الطليعة منهم الباحث السوري فراس السواح(9) كما كانت للباحث الحالي مساهمة جزئية فيها في دراسة له سابقة(10).




ومن خلال النتائج التي توصل إليها هؤلاء "المهوّنون" أخذت تتراءى معالم جديدة للتاريخ الفلسطيني القديم قائمة على دعامتين:



الأولى هدم الأسطورة التوراتية عن ماضي اليهود في فلسطين ووضعها في مكانها الصحيح من حيث هي مجموعة من الحكايات المختلفة لا تثبت للنقد التاريخي وقد ابتدأ محررو التوراة بصياغتها في العصر الفارسي الذي غلب على فلسطين (538 – 332 ق.م) وتوسعت الصياغة واستقرت في العصر الهلينستي (332 – 63 ق.م) حتى عدّ بعض المؤرخين التوراة كتاباً هلنستياً.




أما الدعامة الثانية: فهي التوجه نحو كتابة تاريخ مستقل لفلسطين القديمة متحرر من ربقة الأخيولة التوراتية ومعتمد على الوثائق المشرقية القديمة، وعلم الإناسة (الأنثروبولوجيا) وتاريخ تطور المناخ الذي يوفر معلومات وافية عن أنماط الاستيطان البشري في المنطقة، ومعطيات علم الآثار.




غير أن علم الآثار لم يكن في الحقيقة بمنجى عن السطوة التوراتية، فذلك الجانب منه المتصل بالمنطقة أطلق عليه منذ أن نشأ في القرن التاسع عشر اسم علم الآثار التوراتي Biblical Archaeology وقد انحصرت مهمته تحديداً في التنقيب عن الآثار التي تعزز المرويات التوراتية وبالسعي إلى أن يكتشف في باطن الأرض وعلى سطحها ما يمكن أن يدل على شخصية من الشخصيات الوارد ذكرها في التوراة، أو حدث قد سجلته، أو موقع أشارت إليه، وفي هذه الحالات جميعاً أصبحت السمة المجازية لعالم الآثار المنقب في الأرض الفلسطينية هي سمة من يحمل المعول في يمناه والتوراة في يسراه ليكمل بأحدهما الآخر.




لكن على الرغم من الجهود المضنية التي بذلها "علم الآثار التوراتي" الذي لم يترك حجراً على حجر في فلسطين إلا قلبه ليثبت به صلة ما بين الآثار فيها والحكايات التوراتية، فقد كانت نتائجه مخيبة لآمال أصحابه إذ لم تزد حصيلته في محيط الأرض الفلسطينية عن "أثر" واحد احتفي به لإثبات ادعاء هذه الصلة(11) ذلك "الأثر" هو الذي عرف بنقش تل دان نسبة للمنطقة التي "اكتشف" فيها (تل دان هي تل القاضي العربية في الجليل) وهو مكوّن من كسرتين (إحداهما "اكتشفت" في تموز 1993 والأخرى في حزيران 1994) اعتبرتا نصباً حجرياً يعود لأحد ملوك دمشق الآراميين في القرن التاسع قبل الميلاد وقد سجل عليه بعض انتصاراته في حروبه في المنطقة. وموطن الاحتفاء كان ورود تعبير (ب ي ت د و د) في النقش وقد كتب بالآرامية (ورسم بالأحرف اللاتينية byt dwd وفهم على أنه (بيت داوود) ليستدل منه على الأسرتين الحاكمتين في كل من السامرة ويهوذا المتحدرتين زعماً من الملك داوود.




واستطراداً لذلك ربط ما بين هذا النقش والحكايتين الواردتين في الإصحاحين 20 و22 من سفر الملوك الأول عن هزيمة آخاب ملك السامرة (أو إسرائيل) ويهوشافاط ملك يهوذا (أورشليم) أمام من يسميه هذان الإصحاحان "بن هدد" ملك دمشق الآرامي، غير أن هذا النقش الذي دخل في "علم الآثار التوراتي" على أنه أول وثيقة من "مصدر مستقل" تثبت الصلة ما بين الرواية التوراتية والآثار لم يستطع أن يقف صامداً أمام النقد الصارم الذي وجه له والذي أظهر في النهاية أنه "مزيف" وقد أثبت الزيف طائفة من علماء الآثار واللاهوت واللغات السامية القديمة والنقوش (الإبيغرافيا) ووصل الحد بجيوفاني غابريني، أستاذ الساميات بجامعة روما، بعد أن درس النقش دراسة معمقة إلى اتهام مكتشفي النقش الإسرائيليين: عالم الآثار أبراهام بيران، والعالم بالنقوش الآرامية جوزيف نافيه، بأنهما هما اللذان كانا وراء التزييف(12).




كان "نقش تل دان" بالمصير الذي آل إليه هو الوحيد، كما أكدنا، الذي "اكتشف" في فلسطين بهدف تأكيد الصلة ما بين الروايات التوراتية واللقى الآثارية وإثبات إمكانية قراءة تلك الروايات في ضوء تلك اللقى، ومن أجل الوصول في النهاية إلى التسليم بمصداقية التوراة في رواياتها التاريخية، غير أننا نستدرك بالقول بأن نقشاً آخر قد "اكتشف" حديثاً في فلسطين، في القدس هذه المرة، لم يقل الاحتفاء به (منذ أن أعلن عنه في كانون الثاني 2003) عن ذاك الذي استقبل به "نقش تل دان" وقد نسب هذا النقش إلى يهوآش الذي جاء ذكره في الروايات التوراتية بصفته ملكاً على يهوذا (أورشليم) في القرن التاسع قبل الميلاد، لكن على الرغم من كل التبجيل الذي لاقاه هذا النقش الجديد والاستدلالات والمعاني التي استخرجت منه واستنطاقه بالشهادات عن صحة الروايات التوراتية فقد وجد أن حظه من الصدق التاريخي لم يزد عن حظ سلفه المزور نقش تل دان.




وصف النقش ومحتواه(13)

النقش عبارة عن لوحة من حجر البازلت المائل إلى السواد على شكل مستطيل بأبعاد 61×30×8سم (انظر صورته في الملحق) وهو يحتوي على نص من 15 سطراً كتب باللغة العبرية القديمة بأحرف فينيقية، الجزء الأعلى من اللوحة مكسور وبذلك سقط منها اسم الملك الذي ينسب إليه النقش وهو يهوآش (وفق ما يرسم الاسم في الترجمة العربية للتوراة، بينما يرسم في اللغة الإنجليزية Jehoash) غير أن أصحاب النقش استدلوا على صاحبه المزعوم من أن السطر الثاني في النقش ابتدأ بكلمة "هزياهو" وهي اسم أبي يهوآش لكن تنقصه الألف في البداية، فالاسم كما يرد في العبرانية هو "اهزياهو" بينما ترسمه الترجمة العربية للتوراة "اخزيا" ويرد في الترجمات الإنجليزية برسم Ahaziah وعلى هذا جرى افتراض أن السطر الأول من النقش الذي ضاع نتيجة الكسر الذي أصاب أعلى اللوحة كان يتضمن "يهوآش بن" وبهذا نسب النقش إلى يهوآش بن أخزيا (وفق رسم الاسم في الترجمة العربية للتوراة) وافترض أنه صنع في القرن التاسع قبل الميلاد.




يظهر في اللوحة صدع قطري في الحجر ينحدر من الهامش الأيمن قرب السطر الثامن وينتهي بالحرف الأخير من السطر الحادي عشر، عابراً بعشرة أحرف في أربعة سطور، ويغطي اللوحة غشاء تعتيق patina يشمل اللوحة بما فيها من نقوش وصدع، ويظهر في هذا الغشاء ذرات كربونية، وأيضاً ذريرات من الذهب الخالص.




وقد جاء النص المنقوش في اللوحة بصيغة المتكلم المفرد، بمعنى أن يهوآش كان هو نفسه يتحدث عن العمل الذي قام به وسجله على الحجر، وقد قرئ النقش وترجم على أن يهوآش بسط يده لجمع الفضة من كل مكان في يهوذا لكي يدفع ثمن الحجارة والخشب وقضبان البرنز لترميم البيت المقدس (الهيكل) وهو قد فعل ذلك في البيت نفسه وفي أبوابه وممراته، ويختتم بوعد بالبركة من يهوه، اسم الإله العبراني.




وسبب الاحتفاء بهذا النقش أنه يأتي في مضمونه مطابقاً للرواية التوراتية عن ترميم الهيكل الأول (هيكل سليمان) الذي قام به الملك يهوآش، ووفق الكرونولوجيا التوراتية ملك هذا في أورشليم ما بين 836 و798 ق.م وفي السنة الثالثة والعشرين لحكمه أمر الكهنة بترميم ما تهدم من البيت فجمع هؤلاء الفضة، وعندما توفرت وحسبوها "دفعوا الفضة المحسوبة إلى أيدي عاملي الشغل الموكلين على بيت الرب وأنفقوها للنجارين والبنائين العاملين في بيت الرب، ولبنائي الحيطان ونحاتي الحجارة ولشراء الأخشاب والحجارة المنحوتة لترميم ما تهدم من بيت الرب ولكل ما ينفق على البيت لترميمه"(14).





قصة "العثور" على النقش

أعلن رسمياً عن النقش في الثالث عشر من كانون الثاني 2003، وكانت الجهة التي أعلنته هي مركز "المسح الجيولوجي لإسرائيل" التابع لوزارة البنى التحتية، وكان المسؤولون عن هذا الإعلان ثلاثة باحثين من المركز هم: شمعون إيلاني Shimon Ilani وأمنون روزنفليد Amnon Rosenfeld ومايكل دفورشيك Michael Dvorchik وهم كانوا قد فحصوا النقش وأجروا عليه الاختبارات العلمية اللازمة وثبت لديهم نتيجة ذلك أنه "موثوق به وأصيل."



أما كيف وصل النقش إلى هذا المركز فموضوع روي بما يشبه القصص الدرامية التي تحيط بها أستار من الغموض وتتضمن كثيراً من الأسرار، فقيل إن الحجر عثرت عليه دائرة الأوقاف الإسلامية تحت الحرم الشريف في القدس عندما كانت تقوم بالحفريات تحت الحرم في مطلع سنة 2000، وهي ألقته دون وعي منها، في جملة ما ألقت من الركام الناتج عن هذه الحفريات في وادي قدرون القريب، وقد عثر عليه هناك "عربي" باعه من تاجر آثار إسرائيلي، ولا تذكر الروايات اسم هذا التاجر ولا تعرف شيئاً عن هويته، سوى أنه كان يمثله، في مراحل أخرى من تطورات القصة، محام إسرائيلي مشهور هو إسحاق هيرتزوج، وهو نائب سابق في البرلمان الإسرائيلي كما كان مستشاراً لرئيس الحكومة إيهود باراك.




وتمضي الرواية بالقول إن مالك الحجر المجهول، أو من يمثله، عرضه في صيف 2001 على جوزيف نافيه عالم النقوش المشهور من الجامعة العبرية (وهو نفسه الذي اتهم بتزييف نقش دان، انظر أعلاه) وتصف الرواية هذا الحدث كما يلي:



"اتصل شخص مجهول بنافيه وطلب منه أن يتأكد من مصداقية النقش، وقد وافق نافيه على أن يراه فأرسل إليه الشخص صورة للنقش، غير أنه بعد أن تفحص الصورة طلب أن يرى الحجر نفسه، وهكذا التقى نافيه، في موعد حدد له، في فندق في القدس مع هذا الشخص الإسرائيلي وشاب عربي ظل صامتاً خلال الاجتماع.. وكان أمام نافيه متسع من الوقت لفحص الحجر.. واستنتج من هذا الفحص أن النقش يمكن جداً أن يكون شيئاً مزوراً(15)، ويبدو أن مالك هذا الحجر المجهول لم يرض بهذا الحكم فقام بعرضه على المتحف الإسرائيلي للنظر في صدقيته، وبالتالي بيعه من المتحف، إلا أن المسؤولين هناك أبلغوه بأنهم لا يستطيعون أن ينفوا إمكانية أن يكون مزوراً(16) غير أن هذا "التاجر" لم يقعده اليأس عن عرض بضاعته فقام من خلال محاميه إسحاق هيرتزوغ- بعرض الحجر (في أيلول 2001) على مركز "المسح الجيولوجي لإسرائيل" حيث تولى العلماء الثلاثة المذكورون آنفاً إجراء الفحص "العلمي" اللازم للتأكد من صدقيته، وأعلنوا بالتالي (في كانون الثاني 2003) النتائج التي توصلوا إليها والتي قالوا فيها إنه ثبت لديهم إن النقش صحيح وموثوق".




نتائج الفحص المعلنة

ركز جيولوجيو المركز في فحصهم على ثلاثة أمور: غشاء التعتيقpatina الذي غلف الحجر، وذرات الكربون التي وجدت في الغلاف، وكريات الذهب الصغيرة التي وجدت عليه.



فقد ذكر تقريرهم(17) أن الحجر مغلف بغشاء بني مصفر مكون من العناصر الكيمائية نفسها التي يتكون منها الحجر بالإضافة إلى عناصر أخرى دخلت عليه جاءته من الأرض التي دفن فيها، ويغطي الغشاء الحجر بكامله بما فيه الجزء المكسور في أعلاه، والصدع الحادث فيه، والحروف المنقوشة عليه، ويستنتج التقرير من ذلك أن هذا الغشاء أصلي وقد تكون بفعل الزمن (معتق) وليس هناك احتمال بأن يكون شخص ما قد حصل على حجر معتق من الأصل وقام بنقش الحروف فيه، كذلك لم ير الجيولوجيون مادة لاصقة على الحجر تفتح مجالاً للقول بأن شخصاً ما أيضاً قام بعمل النقوش والصدع على حجر "نظيف" ثم ألصق عليه الغشاء الدال على القدم، كذلك درس الجيولوجيون الصدع في الحجر واستنتجوا عدم إمكانية نقش الحروف المار بها الصدع، وإلا لكانت اللوحة قد تعرضت للكسر، والنتيجة التي توصلوا إليها من هذا الفحص تذهب إلى أن الغشاء قد تكون بعد نحو من 500 إلى 600 سنة بعد أن تم النقش على الحجر نتيجة فعل الزمن، وأيضاً بسبب دفنه في الأرض مدة طويلة، والخلاصة أن النقش صحيح وهو ليس من صنع مزور.




أما ذرات الكربون في الغشاء فقد أخضعت للفحص من جانب مختبر أمريكي هوBeta Radiocarbon Dating Laboratory at Miami, Florida وكان الهدف من الفحص هو معرفة عمر هذه الذرات باستخدام تكنولوجيا قياس نسبة الكربون المشع (الكربون 14) فيها، وهي تكنولوجيا مستخدمة في علم الآثار والجيولوجيا لتحديد عمر الأجسام التي تحتوي في تركيبتها عنصر الكربون، ونتيجة الفحص، كما يذكر التقرير، تبين أن عمر هذه الذرات المكربنة العالقة في الغشاء يعود إلى ما بين سنتي 390 و200 ق.م وبذلك يتوصل التقرير إلى الوثوق بصحة النقش بدليل قدم هذه الذرات التي هي بالتأكيد، وفق جيولوجيي المركز، ليست من صنع حديث.




كذلك فُعل بكريات الذهب الميكروسكوبية التي بين التقرير أنها من الذهب الخالص وهي عالقة في الغشاء فلا يمكن أن تضاف إليه، فهي بذلك دليل آخر على قدم النقش.



من هذه النتائج تم التوصل إلى الخلاصة التالية: إن النقش القديم يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، وقد بقيت اللوحة التي حملته سليمة، ربما معلقة على أحد جدران الهيكل الأول (هيكل سليمان) إلى حين تدمير أورشليم على يد البابليين سنة 586ق.م، وفي عملية التدمير هذه دمر الهيكل وأصيب بحريق والذرات المكربنة في الغشاء هي من آثار هذا الحريق، أما كريات الذهب العالقة في الغشاء فهي قد وصلت إلى الحجر من الذهب الذي كان يغشي جدران الهيكل وقد انصهر بفعل الحريق.



وقبل أن نمضي قدماً في عرض هذه النتائج على محك النقد نلمّ بردود الفعل الاحتفائية التي استقبل بها هذا "الاكتشاف" وبالمعاني والدلالات التي اشتقت منه.





المعاني والدلالات

مثل النقش مستنداً لـ "المغالين" لتعزيز دفاعهم عن "تاريخية" التوراة وأداة لسحب البساط من تحت أقدام "المهوّنين" فهو لدى الأوائل أثر ومصدر مستقل يثبت أن الروايات التي جاءت بها التوراة صحيحة، وقد وصف الآثاري الإسرائيلي سيلبرمان هذا الوضع بقوله: "إنه في الوقت الذي أصبح فيه تاريخ تأليف التاريخ التثنوي(18) مسألة خلاف حاد بين المغالين والمهوّنين، يقدم نقش يهوآش إجابة قوية منقوشة في الحجر على أولئك الذين ينكرون أن التاريخ التثنوي يتضمن تسجيلاً معتمداً عليه للحوادث التي وقعت(19).




وفي التفصيل اعتبر هرشل شانكس، رئيس تحرير مجلة Biblical Archaeology Revieew الصادرة من واشنطن والواسعة الانتشار وعميقة التأثير في الأوساط الأكاديمية التوراتية، أن النقش "تأكيد غير عادي للنص التوراتي" ويؤكد -وهو نفسه من "المغالين"- أن النقش يدعم تاريخية سفر الملوك(20). وفي هذا الاتجاه نفسه ذهب غابرييل باركاي أستاذ الآثار في جامعة بار إيلان (بإسرائيل) الذي رأى أن النقش –في حال إثبات صدقيته- هو أكثر اللقى الآثارية أهمية في القدس وفي إسرائيل فهو "الدليل المادي الأول من نوعه الذي يصف الأحداث بأسلوب متوافق تماماً مع الروايات التوراتية(21)" كذلك ذهب إلى أن هذه هي المرة الأولى التي توثق فيها "السلالة الداوودية" في مراحلها الأولى في مصدر غير توراتي(22).




غير أنه إلى جانب هذه الأهمية التي أظهرها النقش لفريق "المغالين" في تأكيدهم صحة الحكايات التوراتية التي سوغتها اللوحة "المكتشفة" فقد احتلت مسألة إثبات تاريخية "الهيكل" مكانة أبرز في جملة اهتماماتهم، فوفقاً لبركاي فقد وفر النقش الدليل على وجود "الهيكل" وبذلك ينبغي أن يتاح للعلماء فحصه، وألا يبقى محاطاً بالسرية(23) في إشارة إلى حالة الغموض الدرامي التي لفعت بها قصة "اكتشافه" أما شاتكس فقد أراد من النقش أن يكون محوراً في النزاع القائم حول "جبل الهيكل" أو بتعبير أصح موقع المسجد الأقصى، فهو كتب في المجلة التي يرأس تحريرها: "إذا ثبتت صحة النقش فهو يقدم الدليل على حق مطالبة إسرائيل بجبل الهيكل، أما إذا كان مزوراً فهذا يعني أن إسرائيلياً ما كان يحاول أن يصنع دليلاً على حق إسرائيل بالمطالبة بجبل الهيكل، أو ربما أن فلسطينياً ما كان يحاول أن يغرس شيئاً مزوراً لكي يقوض به حق إسرائيل المفترض في المطالبة بجبل الهيكل"(24) غير أن هذه الاحتمالات التي أوردها شانكس لا تبطل رأيه في ترجيح أن يكون النقش صحيحاً(25).




أما الأكثر وضوحاً وصراحة من هذه الآراء التي طرحها كل من بركاي وشانكس عن أهمية النقش في إثبات الأسطورة التوراتية عن "الهيكل" فقد كان الحملة التحريضية التي قادتها منظمة "أمناء جبل الهيكل" لترويج أفكارها انطلاقاً من هذا "الاكتشاف" وهذه المنظمة اليهودية المتطرفة التي قامت نواتها الأولى بعد حرب 1967، تقوم أفكارها، من جملة أمور أخرى على ركيزتين: الأولى "تحرير جبل الهيكل من الاحتلال العربي (الإسلامي)" وبذلك فإنه من الواجب هدم المسجد الأقصى وقبة الصخرة وإعادة بنائهما في مكة، والثانية "بناء الهيكل الثالث(26) وفقاً لكلمات جميع الأنبياء العبرانيين(27) وقد تمسكت المنظمة بالنقش "المكتشف" معتقدة اعتقاداً جازماً بصحته وبأنه فعلاً من عمل "الملك" يهوآش وبأنه "أهم الاكتشافات الأثرية في تاريخ أرض إسرائيل والقدس وأكثرها إثارة"(28).




واستناداً إلى ذلك اعتبرت المنظمة أن هذا الاكتشاف إنما هو "رسالة من الله بعثها إلى جيلنا من خلال الملك يهوآش قائلاً: لقد حان الوقت لبناء بيت للرب.. وبذلك فإن من واجب الشعب في إسرائيل أن يبني بيته (بيت الرب) كما أنه لن يسمح لأي شخص في إسرائيل بل في العالم أجمع بأن يقف موقفاً سلبياً تجاه هذا المشروع الفائق الأهمية على مدى الأزمان"(29).




وغير ذلك، فقد حذرت المنظمة العرب من أن يقفوا في وجه هذه "الرسالة الإلهية" مبينة "أن جبل الهيكل ما يزال مليئاً ببقايا الهيكل ومواده المقدسة، لذلك نحذر الأعداء العرب المتوحشين الموجودين على جبل الهيكل من محاولة المس بها أو تحطيمها، ذلك بأن أعين "إله إسرائيل" وقلبه وعنايته موجهة، ليل نهار، إلى شعبه وإلى أرضه التي وهبها إلى "إسرائيل" وإلى أورشليم، وإلى جبل الهيكل الذي هو أقدس موقع في الدنيا، وهكذا فإن من الأفضل لهم أن يحذروا ويخشوا غضب الله وحكمه عليهم، "فإله إسرائيل" ينصحهم بأن يتركوا جبل الهيكل وشأنه وينأوا بأنفسهم من موقع الإله المقدس وهيكله، فالله عازم على أن يعيد بناء الهيكل، ولن يسمح لأعدائه بأن يوقفوه عن ذلك(30).




التزييف



منذ أن أعلن عن "اكتشاف" النقش في منتصف كانون الثاني الماضي سال حبر كثير بعضه ليسجل موقفاً مصدقاً بتاريخية النقش، لكن أكثره ليعلن رفضه له رفضاً استند إلى إجراء دراسات معمقة لكل ما يتعلق بالنقش من حيث الشكل واللغة التي كتب بها، والحروف التي استخدمت فيه، وعلى الجانب الأول وقف بالتأكيد فريق مركز "المسح الجيولوجي لإسرائيل" الذي أعلن أنه فحص النقش وتبين له صدقه، وغير هؤلاء دافع عن النقش بدرجات متفاوتة من الحماس، عدد من أساتذة علم الآثار في الجامعات الإسرائيلية، ومجلةBiblical Archaeological Review المتخصصة بـ "الآثار التوراتية" والتي تصدر في واشنطن، ومجلة Forward اليهودية التي تصدر في نيويورك، بالإضافة إلى "منظمة أمناء الهيكل" الإسرائيلية المتطرفة.





أما في الجانب الآخر فبرزت كثرة من الباحثين الإسرائيليين الذين أثبتوا زيف النقش وبطلان تاريخيته(31) من هؤلاء كان ناداف نعمان Nadav Neeman المؤرخ والأستاذ في جامعة تل أبيب الذي كان في بعض مؤلفاته قد طور "نظرية" تفترض أن محرر بعض الروايات في سفر الملوك كان قد استند إلى "وثائق" تاريخية توفرت لديه أمدّته بأصول هذه الروايات، ومنها ما جاء في هذا السفر عن الترميمات التي أجراها يهوآش في "الهيكل الأول" وكان من المفروض أن يكون ظهور النقش سبباً يدعو نعمان إلى الابتهاج بأنه جاء ليعزز "نظريته" إلا أنه فعل على العكس تماماً إذ ألقى ظلالاً كثيفة من الشك على هذا النقش حتى مال إلى رفضه، وهو يعلل ذلك بما يلي: "أن النقش مثير للشك والجدل، فهو ليس كأي نقش ملكي من الشرق الأدنى القديم أنا على دراية به، فهو وحيد في نوعه في جميع الأحوال، إنه يحتوي على كلمات عديدة لا تظهر في التوراة، وخاصة خاتمة هذا النقش المفترض به أن يكون ملكياً وهي تدعو إلى أن تحل بركة الرب على الشعب، ذلك بأن النقوش الملكية من الشرق الأدنى القديم المعروفة لدينا تنتهي عادة بإنزال اللعنة على أي شخص يصيب النقش بالضرر، أو تنتهي أحياناً باستمطار البركة على الشخص الذي كتب النقش، أما الدعاء بالبركة على الشعب فليس هناك شيء آخر يشبهه"(32) كذلك يرى أن التأكيد الذي جاء في النقش على مساهمة الشعب في يهوذا بأعمال الترميم التي قام بها يهوآش في المعبد هي حالة فريدة لأن العادة جرت في النقوش الملكية على تأكيد الملك على نشاطاته هو شخصياً مع تجاهل تام لجميع الآخرين الذين شاركوا في البناء، ومع هذا فهو يتساءل: أليس من الجائز أن يكون ملوك يهوذا قد كتبوا بأسلوب مغاير لما فعله أندادهم غير اليهود في الشرق الأدنى القديم؟ وهو يجيب بأن الوسيلة الوحيدة لإثبات أو عدم إثبات الزعم بوجود أسلوب كتابة مختلف في يهوذا هي العثور على نقش ملكي يهوذي آخر يمكن أن يشكل أساساً للمقارنة.





غير أن الشكل الأسلوبي للنقش لم يكن هو موضوع النقد الوحيد، فقد توقف آخرون عند اللغة المستخدمة فيه، وفي هذا الصدد توصل إد جرينشتاين Ed Greenstein خبير اللغات السامية والأستاذ بجامعة تل أبيب، إلى أن هناك استعمالات لغوية وردت في النقش لا تنتمي إلى عبرية القرن التاسع قبل الميلاد، الزمن المفترض للنقش، بل هي استعمالات أخذت دلالاتها بعد ذلك بقرون وأساء أو أخطأ من اختلق هذا النقش عندما أدرجها في النقش على أنها قديمة، ومن هذه الاستعمالات تعبير (ب ي د ك ب ا ي ت) bedek bayit وفق ما رسمه جرينشتاين بالأحرف اللاتينية الذي يعني في العبرية التوراتية "تشققات البيت" وقد ورد في النقش أن يهوآش صنع هذه التشققات ما يعني أنه سبب تصدعات في البناء وخربه وهو خلاف ما قصد من النقش، فقد أراد مختلقه أن يقول أن يهوآش عمل ترميمات في البيت فاستعار تعبير bedek كما تطور في العبرية الحديثة بمعنى "الترميم" دون أن يعرف مدلوله القديم، كذلك استعمل مختلق النقش كلمة (ي د و ت) edut بمعنى الشاهد: "ليكن هذا اليوم شاهداً" على العمل، بينما لم تعرف العبرية التوراتية القديمة هذه الكلمة بهذا المعنى، فقد كانت تشير إلى معنى "الميثاق" أو "الاتفاق" وتطور بعض مشتقاتها في العبرية الحديثة ليعني "الشاهد" فانتزعها المختلق من هذا الاستعمال الحديث واستخدمها في النقش "القديم" ويستخلص جرينشتاين من هذين المثلين وغيرهما أن النقش مزور بالتأكيد(33).




كذلك تعرضت الأحرف التي كتب بها النص للنقد الشديد وهي قد أظهرت زيف النقش، فروبرت دويتش Robert Deutsch من جامعة حيفا، وهو نفسه تاجر آثار، وجد أن النقش "تزييف هزيل وكائن خرافي هجين، فقد جمع معاً ما بين الأحرف المؤابية والفينيقية والعبرية" كما ذهب إلى هذا الرأي كريستوفر رولستون Christopher Rollston الخبير بالنقوش السامية القديمة ورئيس تحرير مجلة Maarav المتخصصة باللغات والكتابات السامية، الذي رأى أنه "ليس من الصعب فضح التزوير في النقش لأنه ليس متقن الصنع فهو يختلف كلياً عن جميع النقوش المؤكدة التي تعود إلى لغة عصر الحديد العبرية (من حيث الدمج بين أشكال من أزمنة ولغات مختلفة) حتى أنه لا يمكن أن يؤخذ بجدية على أنه قديم"(34).




لكن ماذا عن أولئك الجيولوجيين من مركز "المسح الجيولوجي لإسرائيل" (إيلاني وروزينفلد ودفورشيك) الذين فحصوا النقش وأعلنوا ثقتهم الكاملة بتاريخيته دون أن ينتابهم أي شك؟ لقد أبدى بعض الباحثين ارتياباً فيهم وإن كان بأدب وكياسة، فناداف نعمان يقول: "إنني لا أشك في الجيولوجيين الذين فحصوا الحجر في مركز المسح الجيولوجي لإسرائيل، إلا أن علينا أن نستمع لآراء إضافية، كما أن هذا النقش، أكان مزوراً أم أصلياً، ينبغي أن يكون عرضة للفحص من أي عالم، ولا يمكن أن يظل مخفياً لدى جامع (للآثار) بصفته الشخصية".




وذهب إلى مثل هذا الرأي آفي هورفيتزAvi Hurvitz الخبير في تطور اللغة العبرية الذي بدا متردداً في الاعتماد على الجيولوجيين الذين فحصوا النقش، فعلى الرغم من أنه زكاهم إلا أنه طالب بأن يفحص النقش جيولوجيون إضافيون، وربما من مدارس بحث أخرى، ليكون بالإمكان تقرير ما إذا كان صحيحاً(35).



أكثر من هذين وضوحاً وحسماً كان يوفال غورين Yuval Goren الأستاذ في دائرة الآثار وثقافات الشرق الأدنى القديم بجامعة تل أبيب الذي أوضح "أن النتائج التي توصل إليها باحثو مركز المسح الجيولوجي لإسرائيل متحيزة بإفراط، فالبيانات المعنية والكيميائية التي تشير إلى غشاء التعتيق، والمواد التي تظهر على اللوحة تبين بشكل حاد أشياء شاذة تثير شكوكاً جادة حول صدقيتها، أو على الأقل تجعلها مجال تساؤل كبير، ومن الواضح أنه لو كان لدى هؤلاء معرفة أكثر بتقنيات التزييف العامة فربما كانوا أقل حماساً لنشر هذه القصة المخادعة وكانوا قد توصلوا إلى نتائج مغايرة"(36).




وقد فحص غورين النتائج التي توصل إليها جيولوجيو المركز المذكور كما أعلنوها في تقريرهم الرسمي(37)، وتوصل إلى عدد من الخلاصات المهمة التي تنقض من الأساس تلك النتائج، فبالنسبة لغشاء التعتيق، وهو ما عوّل عليه الجيولوجيون كثيراً لإثبات قدم اللوحة، بيّن أن تركيبته الكيمياوية المعلنة لا يمكن أن تكون قد تكونت بمنطقة القدس ولا في المنطقة الهضبية جميعاً التي تقع فيها المدينة، وذلك لاختلاف مكونات التربة في هذه المنطقة عن المكونات التي دخلت في تركيبة الغشاء، كذلك عرض لعمر الذرات المكربنة العالقة بالغشاء باعتماد مقياس الكربون المشع (الكربون 14) فأوضح الأخطاء التي وقع فيها الجيولوجيون في طريقة احتسابها، أما ذريرات الذهب الكامنة خلف الغشاء والتي ذهب الجيولوجيون إلى أنها من الذهب الذي كان يغشي جدران "الهيكل" والتي ذابت نتيجة حرق البابليين إياه، فقد سخر غورين منها ومن الجيولوجيين الذين فحصوها، فقال إنه "إذا كانت ذرات الذهب قد نجمت من حريق هيكل سليمان المحترق، فإن النقش عند ذاك يدحض التوراة بدلاً من أن يبرهن عليه، لأن الهيكل وفق سفر الملوك الثاني كان قد انتهبه البابليون بالكامل قبل أن يحرقوه".




غير أن الأكثر إثارة مما سبق كانت التجربة التي قام بها غورين نفسه وأنتج فيها -باستخدام أدوات وتقنيات مختبرية معينة- نقشاً مماثلاً تماماً بمواصفاته لنقش يهوآش المزعوم، من حيث نوع الحجر المستخدم، وغشاء التعتيق الذي يغلفه، وذرات الذهب الخالص والكربون المشع (الكربون 14) العالقة فيه(38)، فهو قد اختار حجراً من النوع نفسه الذي كتب عليه نقش يهوآش وقام بإضفاء غشاء التعتيق عليه مماثل تماماً لغشاء ذلك النقش، وحمّله بذرات الكربون المشع التي يمكن الحصول عليها من المتاحف الإسرائيلية وهي التي يكون قد حدد عمرها التاريخي من قبل، كما أضاف إلى الغشاء ذريرات الذهب الميكروسكوبية، بحيث بدا النقش الجديد نسخة مادية أخرى لذلك المنسوب ليهوآش. وخلص غورين من هذه التجربة إلى القول: "إنه ينبغي تأكيد أننا لو أخذنا هذا الأثر الفني الذي أنتجناه إلى مركز المسح الجيولوجي لإسرائيل وأخضعناه لمجموعة التحليلات نفسها (التي أجراها المركز) لأعطى النتائج التحليلية نفسها التي أعطاها تحليل نقش يهوآش).




كشف التزوير إذن وظهر الحجر على حقيقته عارياً من الصحة، وكان على سلطة الآثار الإسرائيلية أن تتدخل وتقول كلمتها، وهي صاحبة الاختصاص، في هذا الذي يجري وينبعث منه ضجيج كبير ساد الأوساط الأكاديمية المهتمة بالآثار والدراسات التوراتية معاً، وقد جاء تدخلها ليس فقط بسبب ما أثاره "نقش يهوآش" من جدل، بل أيضاً بسبب ضجة مماثلة زامنته وقد تسبب بها "اكتشاف" مثير آخر –أعلن عنه مع "اكتشاف" النقش- لصندوق حجري مخصص لدفن عظام الموتى ossuary نقشت عليه عبارة "جيمس بن يوسف أخو المسيح"(39)، وهو الذي اعتبر أول دليل آثاري على الوجود التاريخي للسيد المسيح، ومثلما تصدى علماء عديدون لـ "نقش يهوآش" وأثبتوا زيفه، كذلك فعل آخرون بما أصبح يعرف بـ "بصندوق جيمس" وبينوا زيفه أيضاً مع وجود معارضة شديدة واجهوها من جانب من صدّق بتاريخية هذا الصندوق.



وفي ظل هذه الأجواء تحركت سلطة الآثار الإسرائيلية للإدلاء برأيها في هذين "الأثريين" ومن أجل ذلك شكلت لجنتين لفحصهما من علماء مختصين وأساتذة جامعات، إحداهما لفحص النقوش عليهما من حيث شكل الحروف وقواعد اللغة وبناء الجمل، والأخرى لفحصهما مادياً (فيزيائياً)(40) وقد أعلنت السلطة نتائج ما توصلت إليه اللجنتان يوم 18 حزيران الماضي، وأكد تقريرها أن "الأثرين" كليهما مزوران استناداً إلى فحص النقوش عليهما، واللغة التي كتبا بها، والمادة التي صنعا منها، وغشاء التعتيق الذي غلفهما(41).




من هم المزورون؟

ثبت، إذن، أن "النقش" مختلق، لكن من هم الذين قاموا بعملية التزوير؟ ولماذا هم فعلوا فعلتهم تلك؟ هناك نقاط، وفي الوقت نفسه هي تساؤلات قد تصلح مؤشرات إلى الجهة أو الجهات التي قد تكون وراء ذلك.


أولاً: لا يمكن أن يكون النقش من اختلاق شخص واحد قد يخطر على الظن بأن يكون تاجر آثار، أو لص آثار، فمن المؤكد أنه من صنع "فريق" يضم متخصصين: بعضهم في الدراسات التوراتية، وآخرون في اللغة العبرية القديمة، وتاريخ الكتابة (الحرف الفينيقي) وعلم الآثار، كما لا يمكن نفي أن يكون قد شارك في هذا "الفريق" متخصصون في الكيمياء وعلوم الأرض والتعدين ليصنعوا غشاء التعتيق ومرفقاته من ذرات الذهب والكربون المشع، مثل هذا "الفريق" الذي لابد أن يكون قد عمل بتناغم واتساق ينبغي أن يكون له "رأس مدبر" على درجة عالية من الكفاءة العلمية مكنته من وضع مخطط لاختلاق أثر تمكن به من أن يخدع عدداً من العلماء الذين اقتنعوا بصحته، فمن هو هذا الرأس؟ الجواب بالقطع إنه "عالم كبير" وليس مزور آثار عادياً.




ثانياً: حبكت قصة اكتشاف النقش والإعلان عنه إبان اشتداد المعركة ما بين "المهوّنين: و"المغالين" الذين كنا أشرنا إليهم في مطلع هذه الدراسة، فهل احتفاء "المغالين" بالنقش احتفاء لافتاً للنظر يمكن أن يشكل قاعدة لتوجيه إصبع الاتهام لهم، خاصة أنهم الذين ينقصهم الدليل المادي القائم على اللقى الآثارية التي تدعم اعتقادهم بصحة الروايات التوراتية، فكان أن صنعوا هذا النقش ليكون هذا الدليل، وبذلك فإن "الرأس المدبر" نجم من صفوفهم؟



ثالثاً: كان أشد الناس حماساً للنقش هم الجماعات الدينية اليهودية المتطرفة، ومنهم على وجه الخصوص منظمة "أمناء جبل الهيكل" التي أوردنا ذكرها أعلاه، فمضمون النقش مثل بالنسبة لهم نوعاً من البشارة باقترابهم من أهدافهم في بناء "الهيكل الثالث" فهل كان ذلك العالم الذي أثار الفريق الذي صنع النقش واحداً من صفوفهم، أو مقرباً من أوساطهم؟




رابعاً: نستذكر أن دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس قامت أواخر العام 1999 ومطلع العام 2000 بأعمال حفريات تحت موقع المسجد الأقصى لفتح باب آخر لما عرف باسم المسجد المرواني (والذي يعرف بالأدبيات الإسرائيلية بإصطبلات سليمان) وقد أثارت هذه الأعمال ضجة كبرى عند ذاك تعرضت فيها الدائرة لحملة إسرائيلية شعواء ركزت –من جملة القضايا التي أثارتها- على أن الدائرة تدمر بعملها "الآثارية التوراتية" الواقعة على "جبل الهيكل" وقد ذكر آنذاك أن الدائرة كانت تلقي بالركام الناتج عن هذه الأعمال في وادي قدرون إلى الشرق من موقع المسجد الأقصى. وقد أثار هذا الركام اهتمام الآثاريين الإسرائيليين لما يمكن أن يجدوا فيه من شواهد تدل على صحة الروايات التوراتية، وخاصة منها تلك المتصلة بـ "أورشليم اليهودية" و"الهيكل" فوفقاً لروني رايخ Ronny Reich من "سلطة الآثار الإسرائيلية" والمتخصص بتاريخ القدس القديمة، فإن المواد التي جرفت من منطقة "جبل الهيكل" يمكن أن تساهم في "المناظرة" القديمة حول ما إذا كانت أورشليم مدينة مهمة في القرن العاشر قبل الميلاد أي في زمن الملك داوود(42) وأهمية المدينة في ذلك العصر، وما إذا كانت فعلاً عاصمة لمملكة كبرى تحت حكم الملكين داوود فسليمان، أم مجرد قرية زراعية صغيرة كما تدل التنقيبات الآثارية التي أجريت في الموقع والتي تنفي وجود تلك المملكة من الأساس، هي إحدى القضايا الرئيسية المثارة بين "المهوّنين" و"المغالين" فهل كان "المغالون" يريدون من هذا الركام المتجمع أن يكون دليلاً على نظرياتهم؟




خامساً: نشطت "سلطة الآثار الإسرائيلية" نشاطاً منقطع النظير وهي تُعمل معاولها في ثنايا ذلك الركام المحمول من أعمال الحفريات في المسجد المرواني وفحص خبراؤها كل شيء فيه، وفي هذا يقول جون سليجمان Jon Seligman من هذه السلطة، وهو المسؤول عن أعمالها في منطقة القدس: إن سلطته قد تفحصت هذا الركام بدقة، وبشكل رئيسي الكسر الفخارية وقطع النقود حتى بعض المسامير، وقد وجدت أن ما بين 40 و45 بالمئة منها تعود إلى العصر البيزنطي (من القرن الرابع إلى القرن السابع الميلادي) والعصر الإسلامي المبكر (في القرنين السابع والثامن الميلاديين) بينما تعود نسبة اثنين بالمئة منها إلى فترة "الهيكل الأول" المتأخرة (من القرن السابع إلى القرن السادس قبل الميلاد)(43) وفي مثل هذا الوضع من العمل الكثيف الذي قامت به "سلطة الآثار الإسرائيلية كيف حدث أن كل هذه الجهود التي بذلها خبراؤها (التي وصلت حد تفحص المسامير) لم تعثر على النقش وترك أمر العثور عليه إلى ذلك "العربي" المجهول، الذي قيل إنه وجد النقش ليكون له شرف الحصول عليه؟ أم أن ذلك "العقل المدبر" قد استغل الضجة التي أثيرت حول أعمال دائرة الأوقاف الإسلامية واتخذها متكأ له لاختلاق النقش، لكن مع الابتعاد عن جهة رسمية هي "سلطة الآثار الإسرائيلية" لكيلا يقع في الحرج إزاءها فكان أن أدخل في القصة تفصيلة "العربي المجهول" ليحمي نفسه من المساءلة القانونية؟



وبإجمال، فإن هذه التساؤلات تؤدي إلى خلاصة تقول: إن طرفين كانت لهما مصلحة في اختلاق هذا النقش، "المغالين" وأصحاب التطرف الديني في إسرائيل، لكن أليس من الجائز القول بأن تياري الطرفين كليهما التقيا عند مصب واحد ما دامت مصالحهما في النهاية متطابقة، فكان النقش هو نقطة التقائهما؟





خاتمة:


تزوير تاريخ فلسطين القديم مسعى شرع به كتبة التوراة في العصر الفارسي الذي ساد فلسطين واستكمل في العصر الهلنستي، عندما أراد هؤلاء أن يكتبوا تاريخاً مشتهى لليهود، فنسجوا الحكايات الأسطورية عن ماض لهم مزعوم، أوقعت حقائق التاريخ في أحبولتها وما لبثت أن أسكتتها، وعلى امتداد قرون عديدة ظلت الأخيولة التوراتية هي المصدر الذي يكاد يكون وحيداً للكتابة عن تاريخ فلسطين القديم، خاصة في أزمنته التي سبقت العصر الهلنستي. أما في العصر الحديث، ومع نشوء علم الآثار وارتقاء سلطته المرجعية للتعرف على التاريخ القديم، فقد بذلت جهود محمومة للعثور على أي أثر مادي في فلسطين يثبت صدق المرويات التوراتية ويمنحها الشرعية التاريخية، وفي هذا الصدد، قرأت بعض هذه الآثار التي اكتشفت -وهي في أي حال قليلة عددها عدد أصابع اليد الواحدة (انظر الحاشية رقم 11)- وبتأويلات وتفسيرات مختلف عليها علمياً ولا تقطع باليقين بتطابق المروية التوراتية مع ما سجل على تلك الآثار من نصوص، إلا أن الأخطر منها كان عملية التزوير المتعمد التي أرادت أن تقدم شهادة مادية منقوشة على الحجر تبرهن صحة ما روته التوراة من أخبار، فكان أولاً ما اشتهر باسم نقش دان (انظر أعلاه) الذي تأكد تزويره، وما لبث أن تلاه ما عرف باسم نقش يهوآش الذي سقط سقوطاً ذريعاً عند فحصه علمياً على الرغم من كثرة المصدقين به.



وهكذا إذا كانت التوراة قد ثبت أمرها حديثاً على أنها سجل لتزييف تاريخ فلسطين القديم ومصادرته فإن من لا يزالون يؤمنون بصدقيتها التاريخية -أو يريدون الإيمان بذلك - يقاومون بهدف الإمعان في هذا التزييف، مرة باستنطاق اللقى الأثرية بغير ما قالته، ومرة باستحداث لقى من عدم وتقويلها كلمات وردت في الحكايات التوراتية.





الحواشي:

(1) Walid Khaldi. Islam, The west and Jerusalem (London: Hood Books, 1996), p. 22.
(2) Keith W Whitelam, "Westem Scholarship and the Silencing of Palestinian History", in: Michael prior (ed) Westem Scholarship and tge History of Palestine (London: Melisende, 1998), p. 11.
3 - وردت مقارنة معمقة لما بين هذين التيارين والجدل الأخلاقي الدائر بينهما لدى زيوني زيفت، الأستاذ في "جامعة الدراسات اليهودية" في لوس أنجليس الأمريكية كما يلي:
Ziony Sevit, "Three Debates about Bible and Archaeology", Biblica 83 (2002), pp. 1-27.
4 - من أعماله:
Early History of the Israelite People: From the Written and Archaeological Sources (Leiden: Brill, 1992): The Bible in History: How Writers Create a Past (London: Jonathan Cape, 1999).
وقد ترجم الكتابان إلى العربية هكذا على التوالي: التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي، ترجمة صالح علي سوداح (بيروت، بيسان للنشر والتوزيع 1995) الماضي الخرافي: التوراة والتاريخ، ترجمة عدنان حسن (دمشق، قدمس للنشر والتوزيع 2001).
5 - من أعماله:
ِAncient Israel: A New History of the Israelite Sociery (Sheffield: Sheffield Academic Press, 1995): TheArchaeology of Israel: Constructing the Past, Interpreting the Present (Sheffield: Sheffield Academic Press, 1997).
6 - من أعماله:
The Invention if Ancient Israel, The Silencing of Palestinian History (London: Routledge, 1996).
وقد ترجم الكتاب إلى العربية هكذا، تلفيق إسرائيل التوراتية: طمس التاريخ الفلسطيني، ترجمة ممدوح عدوان (دمشق، قدمس للنشر والتوزيع 2000).
7 - من أعماله:
In Search of Ancient Israel (Sheffield: Sheffield Academic Press, 1992).
8 - من أعماله:
History and Ideology in Ancient Israel (London: SCM, 1988).
9 - في كتابيه: آرام دمشق وإسرائيل، في التاريخ والتاريخ التوراتي (دمشق: دار علاء الدين 1995) تاريخ أورشليم والبحث عن مملكة اليهود (دار علاء الدين 2001).
10 - عصام سخنيني، فلسطين والفلسطينيون: صيرورة تكوين الاسم والوطن والشعب والهوية (بيروت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2003) الفصل الأول.
11 - حصرنا القول هنا في الآثار المكتشفة في فلسطين وحدها، أما خارجها فقد كانت هناك لقى لا يزيد عددها عن عدد أصابع اليد الواحدة أوردت أسماء لشخصيات أو مواقع جرى ربطها بما ورد في الروايات التوراتية عن هذه الأسماء، وهي على كل حال قد اختلف علماء الآثار واللغات القديمة في معانيها ودلالتها الحقيقية وما هو مقصود بها، ويخرج عن نطاق بحثنا هذا التفصيل فيها، لكن نشير هنا إلى بعضها، نصب مرنفتاح (الفرعون المصري 1112-1103ق.م) والذي ورد فيه التعبير الغامض عليه "يسريل" أو "جزريل" والذي فهم على أنه "إسرائيل" والنقش المعروف باسم المسلة السوداء الذي سجل فيه الملك الآشوري شلمنصر الثالث أخبار أعماله العسكرية غرب الفرات، وقد ورد فيه ذكر لآخاب من ملوك السامرة، ويعود النقش إلى 840ق.م واكتشف في منطقة نمرود في العراق سنة 1864، ونصب ميشع ملك مؤاب الذي سجل فيه أخبار انتصاره على عمري ملك السامرة، ويعود النقش إلى حوالي العام 830 ق.م واكتشف في ذبيان بالأردن سنة 1868 ونقش الملك الآشوري سنحاريب بن سرجون الثاني (705-681 ق.م) الذي يرد فيه ذكر لحزقيا ملك يهوذا.
(12) Giovani Garbini, "The Aramaic In******ion from Tel Dan", translated by Ian Hutchsson, as maintained on server: www. Geocities. Com, while the original article appeared in: Attidella Accadmia Nazionale dei Lincei Rendiconti, Sceinze Morali,vol.s.9 (1994), pp. 461-471.
13 - وردت أوصاف للنقش في عدد من التقارير منها:
Her**** Shnks, "Is It or Isn't? King Jehoash In******ion Captives Archaeological World", Biblical Archaeological Review (March/ Apnil 2003): Forward (January 31, 2003): Nadav Shragai, "Sensation or Forgery? Researchers Hail Dramatic First Temple Period Finding", Haaretz (English e-edition, January 13, 3003).
كذلك نشر النص ألكترونياً بأحرفه الفينيقية وترجمتين له إلى العبرية الحديثة والإنجليزية على الموقع التالي:
www. ***. Infoave. Net. (The tran******ion is the work of Jack Kilman).
14 - الملوك الثاني، 12، 6، 7، 10، 12.
(15) Shanks, op, cit.
(16) B.A. Robinson, Jehoash In******ion: 9 th Century BCE Relic or 20 th Century Forgery?" maintained on server: www. Religioustolerace. Org. Originally written January 19. 2003, latest update: March 18, 2003.
17 - نشر التقرير كما يلي:
Ilani, S, Rosenfield, A. and Dvoracheck, K, "A Stone Tablet with an Ancient Hebrew In******ion Attributed to Yehoash, King of Judea- Archaeometry and Epigraphy", Geological Survey of Israel Current Research, 13 (2003), pp. 109-116.
18 - ينسب التاريخ التثنوي Deuteronomic History إلى سفر التثنية، السفر الخامس من أسفار التوراة، إلا أنه يقصد به الروايات "التاريخية" التي أدرجت في الأحد عشر سفراً بدءاً من السفر الثاني (سفر الخروج) حتى السفر الثاني عشر (سفر الملوك الثاني).
(19) Neil Asher Siglberman, "On Relics, Forgeries and Biblical Archaeology", in: Religious Studies News/SBL edition, Vol, 4, No. 2 (February 2003), as maintained on server: www. Sbl-site.org/ Newsletter/ 02- 2003.
(20) Shanks, op, cit.
(21) Cited in: Nadav Shragai, op. cit.
(22) Cited in: Times Online (January 18, 2003).
(23) Cited in: Shragai, op, cit.
(24) Shanks, op, cit.
25 - ظهر هذا الترجيح واضحاً في المرجع نفسه، كذلك فيما كتبه كما يلي:
Her**** Shanks, "Between Authenticity and Forgery", Religious Studies News/SBL edition, Vol. 4, No. 2 (February 2003), as maintained on server: www. Sbl- site .org /Newsletter/
26 - وفق الحكايات التوراتية فإن الهيكل الأول هو الذي أقامه سليمان، والثاني هو الذي أقيم في مطلع العهد الفارسي بعد "عودة" اليهود من منفاهم في بابل، أما الهيكل الثالث فهو ما يدعى إلى بنائه على أنقاض المسجد الأقصى.
27 - تعلن المنظمة أهدافها على الإنترنت كما يلي:
"Long term Objectives", as maintained on server: www. Templemountfaithful. Org
(28) "A Major Exciting Event on tge Temple Mount", as maintained on server: www. Templemountfaithful. Org/news/ 200301113 htm.
29 – نفسه.
(30) "More Exiting Information about the King Jehoash In******ion Found on the Temple Mount", as maintained on server: www. Templemountfaithful. Org/ News/ 20030114. htm.
31 - لم نجد ما يهدينا إلى أن النقش لفت انتباه أي من المتخصصين العرب في علم الآثار أو اللغات القديمة ما يمكن أن يشكل مرجعاً لنا للتعرف على زيف النقش، فنرانا مضطرين لحصر البحث في ما عرضه الباحثون الإسرائيليون عن هذا الموضوع.
(32) Cited in: Nadav Shragai, "There Is Nothing Else Likd It", Haaretz English e- Edition (January 16, 2003).
(33) Cited in: "More on the King Solomon Stone Tablet", as maintained on server. www mailbox. Univie. As. At/- muehelb9/ kingofs. Html.
(34) cited in: Her**** Shanks, op. cit.
(35) Cited in: Nadv Shragai, There is nothing… op. cit.
(36) Yuval Goren, "An Altemative Interpretation of the Stone Tablet with Ancient Hebrew In******ion Attributed to Jehoash, King of Judah" as maintained on server: www. Bibleinterp Com/ articles/ altemative – interpretation. Htm.
37 - نشر هذا التقرير في مجلة المركز كما يلي:
Ilani, S, Rosenfield, A. and Dvoracheck. K. "A Stone Tablet with an Ancient Heberw In******ion Attributed to Yehoash, King of Judea – Archaeometry and Epigraphy", Geological Survey of Israel Current Research, 13 (2003) pp. 109 -116
38 - نشر غورين تقريره المفصل عن هذه التجربة والخطوات التي اتبعها والأدوات والمواد التي استخدمها مع صور واضحة تبين النتائج المادية التي توصل إليها على الموقع التالي بشبكة الإنترنت.
www. Bibleinterp, com/ presentation/ index. Htm.
39 - في بعض الروايات الدينية أن السيد المسيح كان له أخ من يوسف والسيدة مريم هو جيمس ووفقاً للمؤرخ اليهودي الروماني فلافيوس يوسيفوس Flavius Josephus رُجم جيمس حتى الموت سنة 62 للميلاد.
40 - ضمت اللجنة الأولى في عضويتها كلاً من: Avigdor Victor Horwitz و Shmuel Ahitov من جامعة بن غوريون في النقب، وRonny Reich من جامعة حيفا، و Amos Kloner وEster E**** من جامعة بار إيلان، وHagai Misgav من الجامعة العبرية في القدس، وTal Ilan من سلطة الآثار الإسرائيلية، أما اللجنة الثانية فضمت كلاً من: Yuval Goren من جامعة تل أبيب، و Avner Ayalon من مركز المسح الجيولوجي لإسرائيل، وElisabetta Buaretto رئيسة مختبر التاريخ بالكربون المشع في معهد فايتسمان للعلوم، وJaques Neguer رئيس دائرة الترميم في سلطة الآثار الإسرائيلية، وOrna Cohen من خبراء الآثار.
41 - نشرت خلاصات عن تقرير سلطة الآثار الإسرائيلية في: Archaeology (of Archaeological Instinute of America), June 18, 2003: as maintained on server: www. Archaeology. Org/ magazine.
(41) Cited in: "Furor over Temple Mount Construction", Biblical Archaeology Review (March/ Apnil 2000).
42 – نفسه.




ونتابع
هايـــــــدي
هايـــــــدي
المقاومة المسلحة ضد المشروع الصهيوني في فلسطين
1920-2001




نستعرض هنا مجمل الانتفاضات والثورات والحروب ضد إقامة المشروع الصهيوني على أرض فلسطين. وقبل أن نشرع في ذكر التفصيلات، نضع للقارئ بعض الملامح العامة المتعلقة بالموضوع:



*كان هناك وعي مبكر بخطورة المشروع الصهيوني، وكانت مقاومة هذا المشروع سياسياً أو عسكرياً قديمة قِدَم هذا الوعي، وقِدَم المشروع الصهيوني نفسه.


*تدرجت مقاومة المشروع الصهيوني قوة (في أثناء الاحتلال البريطاني 1917 ـ 1948)، بحسب *ازدياد الخطورة العملية لهذا المشروع من هجرةٍ يهودية واستيطان وبناءٍ للمؤسسات.


*أثبت شعب فلسطين استعداده للتضحية والمبادرة والعطاء، بل وفي أحيان عديدة كانت المبادرة الشعبية تفرض نفسها على القيادة السياسية، وتدفعها للجهاد، وبعبارة أخرى فإن شعب فلسطين كان يقود قيادته نحو الثورة والمقاومة.


*إن المشاركة العربية والإسلامية في الدفاع عن فلسطين كانت محدودة وضعيفة، وارتبطت أساسا بثلاثة حروب كبيرة، أدّت اثنتان منها إلى كوارث حقيقية. ذلك أن البلاد العربية والإسلامية كانت تعاني من الاستعمار ونفوذه،كما عانت بعد ذلك من قياداتها السياسية، ومن السياسات الإقليمية المحلية التي لا تعطي أولوية كبرى للقضية الفلسطينية، فضلا عن الخلافات والصراعات بين بلدان العرب والمسلمين.


*إنه لم يحدث - حتى الآن - أن عُبِّئت طاقات الأمة العربية والإسلامية بشكل وحدوي منهجي جاد متكامل، متسم بالاستمرارية، في مواجهة المشروع الصهيوني.


*إنه منذ زيارة أنور السادات للكيان الصهيوني في نوفمبر 1977، وتوقيع اتفاقية تسوية سلمية مع الكيان الصهيوني (كامب ديفيد سبتمبر 1978)، فإن محاربة الدول العربية والإسلامية ومقاومتها للمشروع الصهيوني قد فقدت زخمها، وأخذت تعاني من التفسخ والضعف.


*إن الاتجاهات والحركات الإسلامية التي كان لها دور مشهود في المقاومة في النصف الأول من القرن العشرين، عادت لتلعب دورها المتميز من جديد في عقدي الثمانينات والتسعينيات. لكن دورها ظل شعبياً بشكل أساسي، لأنها لم تنجح في الوصول إلى القيادة السياسية، وخصوصا على الساحة الفلسطينية، وفي دول الطوق.


*إن جذوة المقاومة المسلحة لم تنقطع على الإطلاق منذ البداية وحتى الآن، وإن اتخذت أشكالاً وحركاتٍ واتجاهاتٍ مختلفة. وكان هناك دائما من يصوب البندقية على المشروع الصهيوني، أو على الأقل من يعد بندقيته لذلك.






المقاومة في أثناء الاحتلال البريطاني لفلسطين 1917 - 1948


ترجع أولى علامات المقاومة الفلسطينية المسلّحة إلى سنة 1886 (أي قبل الاحتلال البريطاني بـ31 عاماً)، عندما هاجم الفلاحون المطرودون من الخضيرة وملبس (بتاح تكفا) اليهود في قراهم المغتصبة التي أُجْلُوا عنها رغماً عنهم، بعد أن اشتراها المستوطنون اليهود من ملاك كبار.

وقد دفع ذلك السلطات العثمانية إلى فرض قيود مشددة على الهجرة والاستيطان اليهودي. وتزايد بعد ذلك الوعي بمخاطر المشروع الصهيوني، فقد احتج وجهاء القدس المسلمين ضد رشاد باشا متصرف القدس في مايو 1890 عندما أبدى محاباة للصهاينة، وقدموا عريضة لرئيس وزراء الدولة العثمانية في 24 يونيو 1891 طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين، وتحريم استملاكهم للأراضي فيها.

وكان لكتابات وأنشطة المصلح الإسلامي الشيخ محمد رشيد رضا والسياسي الفلسطيني يوسف الخالدي ومفتي القدس محمد طاهر الحسيني، وممثلي مناطق فلسطين في البرلمان العثماني أمثال روحي الخالدي وسعيد الحسيني، وصحف الكرمل وفلسطين والمنادي وغيرها، كان لها أدوار في زيادة الوعي، وتعبئة الجماهير ضد المشروع الصهيوني، قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914

احتل البريطانيون سنجق القدس (جنوب ووسط فلسطين) في ديسمبر 1917، وأكملوا احتلال شمال فلسطين في سبتمبر 1918. ولكنهم دخلوا فلسطين كقوة حليفة للثورة العربية التي قادها الشريف حسين، ولذلك لم يَلْقوا مقاومةً من أبناء فلسطين، على اعتبار وعودهم للعرب بالحرية والاستقلال.

لكن تَنكُّرِ بريطانيا لعهودها، وإعطائها وعد "بلفور" لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، فَتحَ الباب عريضاً لمقاومة المشروع الصهيوني والاستعمار البريطاني. غير أن الفترة 1917 ـ 1929 اتسمت بتبنِّي قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية للمقاومة السياسية السلمية، لأن المشروع الصهيوني لم يأخذ أبعاداً خطيرة بَعدُ (كان اليهود 8% من السكان سنة 1918، ويملكون 2% فقط من أرض فلسطين)، ولأنه كان لا يزال هناك أمل بأن تَعدِل بريطانيا عن موقفها (أقرت عصبة الأمم رسميا الانتداب البريطاني على فلسطين سنة 1922)، فضلا عن ضعف الفلسطينيين، وقلة خبرتهم في مواجهة بريطانيا "العظمي"، التي كانت أكبر قوة استعمارية في العالم.



كانت أولى بوادر مقاومة المشروع الصهيوني إنشاء جمعية "الفدائية" أوائل 1919 وقد تكونت لها فروع في يافا والقدس وغزة ونابلس وطولكرم والرملة والخليل، وتولى زعامتها في البداية محمد الدباغ، ثم محمود عزيز الخالدي، واستمرت بأشكالَ مختلفةٍ حتى سنة 1923. وكان من الشخصيات الموجهة لها في الخفاء الشيخ سعيد الخطيب، والحاج أمين الحسيني، والشيخ حسن أبو السعود، والشيخ محمد يوسف العلمي. ونشطت في تجنيد الأعضاء وسط الجندرمة والشرطة الفلسطينية. ورغم أنه تم القبض على كثير من عناصرها، إلا أنه يظهر أن أفرادها شكَّلوا عناصر تحريض مهمة في انتفاضة موسم النبي موسى في القدس في أبريل سنة 1920.



وخلال الفترة ديسمبر 1919 ـ مارس1920، وقعت هجمات عربية على المستعمرات اليهودية في الجليل الأعلى حيث دُمِّرت مستعمرات المطلة وتل حاي وكفر جلعادي، واضطر اليهود للفرار.






انتفاضة موسم النبي موسى، القدس أبريل 1920:

تعد هذه الانتفاضة أولى الانتفاضات الشعبية في فلسطين، وقد حدثت الشرارة الأولى لهذه الانتفاضة بينما كانت وفود القرى محتشدة في القدس يوم 4 أبريل 1920 للمشاركة في هذا الموسم الديني السنوي.وقد خطب في هذه الحشود عدد من رجالات فلسطين مثل موسى كاظم الحسيني والحاج أمين الحسيني وعارف العارف ... فألهبوا حماس الجماهير. وفي هذه الأثناء، يظهر أن أحد اليهود قد أهان العلم الإسلامي لأهل الخليل، وقام بتلويثه، فهاجمه المتظاهرون وضربوه. ثم تفجر الموقف واتسعت الاشتباكات لتشمل مدينة القدس، وفرضت السلطات البريطانية الأحكام العرفية، وحاولت السيطرة على الوضع،لكن ذيول الأحدث استمرت حتى 10 أبريل 1920.




أسفرت هذه الانتفاضة عن مقتل خمسة يهود وجرح 211 آخرين بينهم 18 إصابة خطيرة. أما من العرب فقد استشهد أربعة وجرح 24 آخرين، كما جرح سبعة جنود بريطانيين.



ورغم أن هذه الانتفاضة بدت انفعالاً عفوياً، إلا أنه من الواضح أن عدداً من القيادات الوطنية والجمعيات والمنظمات التي يقودونها قد قامت بدور تحريضي، ونسّقت بشكل منظم الهجمات ضد اليهود. وكان للحاج أمين الحسيني دور بارز في ذلك، حيث ذكر أحد معاصريه (عجاج نويهض) أنه "في موسم النبي موسى كان للحاج أمين اليد المدبرة الحكيمة في إعطاء اليهود أول درس"؛ وقد حُكم على الحاج أمين وعلى عارف العارف، بعد أن استطاعا الهرب، بالسجن غيابياً لمدة عشر سنوات، لكن المندوب "السامي" البريطاني أصدر عفواً عنهما بعد ذلك، في محاولة لتهدئة الأوضاع. وإثر هذه الانتفاضة قامت السلطات البريطانية بإقالة موسى كاظم الحسيني من رئاسة بلدية القدس، حيث تفرغ لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية حتى وفاته سنة 1934، وقد عيَّنت مكانه راغب النشاشيبي في رئاسة البلدية، لتلعب منذ ذلك الوقت ورقة الصراع العائلي (حسينية ونشاشيبية)، والتي انعكست سلباً على حركة المقاومة طوال الاحتلال البريطاني.





انتفاضة يافا: مايو 1921

عاش شعب فلسطين أجواء من الغضب وخيبة الأمل إثر زيارة وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل إلى فلسطين في 28 مارس 1921، والذي أكد بشكل قاطع دعم بريطانيا للوطن القومي اليهودي، وكان لقاؤه بالوفد العربي الفلسطيني في القاهرة في 22 مارس، وفي القدس في 28 مارس مخيباً للآمال. كما قمعت الشرطة بعنف مظاهرة قامت في حيفا في 28 مارس وقتلت اثنين من العرب، ومنعت المظاهرات ... مما أثار جواً من التوتر.



وقد وقعت شرارة الانتفاضة عندما اعتدت مجموعة من الشيوعيين اليهود ـ المحتفلين بعيد العمال في أول مايو1921 على المسلمين القاطنين في حي المنشية في يافا وحدث إطلاق نار على المارة العرب، صدر - على ما يبدو - من منـزل للمهاجرين اليهود شرقي شارع العجمي. فهاجم العرب منـزل المهاجرين اليهود وقتلوا 13 يهودياً وجرحوا 24 آخرين من أصل مائة يقيمون فيه معظمهم من الشباب. ثم اتسعت الاشتباكات والأحداث لتغطي أجزاء عديدة من شمال فلسطين، ولتستمر جذوتها حتى منتصف مايو1921.




واستفاد اليهود من وجود أفراد الكتيبة اليهودية الذين تسلموا البنادق بحجة الدفاع عن تل أبيب، لكنهم ما لبثوا أن تسرّبوا منها إلى شوارع وأسواق يافا وأخذوا يطلقون النار على العرب وهم يلبسون الزي العسكري البريطاني. وتظاهر أهل يافا مطالبين السلطات بإحلال جنود هنود مكان البريطانيين لأن العرب لا يستطيعون التفريق بينهم وبين اليهود، وقد استجابت السلطات جُزئياً لطلبهم.




ومع اتساع الانتفاضة خارج يافا، قام ثلاثة آلاف عربي بمهاجمة مستعمرة بتاح تكفا، وقد تصدت لهم قوة بريطانية من فوج الفرسان الهندي الثامن وساعدها الطيران البريطاني الذي قام بقصف المهاجمين وقد فقد العرب في هذا الهجوم 28 شهيداً و15 جريحاً وفقد اليهود 4 قتلى و12 جريحا. وفي يوم 6 مايو هاجم حوالي 400 عربي مستعمرة الخضيرة وأحرقوا منـزلين، وكان يمكن أن تدمر المستعمرة لولا تدخل الطيران البريطاني، الذي قصفهم وأجبرهم على الانسحاب. وفي اليوم نفسه، هاجم حوالي 600 عربي مستعمرة رحوبوت، لكن الجيش البريطاني استطاع الوصول في الوقت المناسب، والدفاع عنها. كما هاجم العرب مستعمرتي كفر سابا وعين حاي (اللتين هرب أهلهما إلى بتاح تكفا)، وأوقعوا فيهما الكثير من الدمار.




ومن جهة أخرى، قام اليهود بأسر العرب الموجودين عندهم في مستعمرة بتاح تكفا وقتلوا خمسين مسلماً. ووجد بين القتلى المسلمين من قُتل حرقاً بماء الفضة، وبالآلات القاطعة، ومن شُوِّه وعذب قبل قتله، وكان بين الشهداء أطفال ونساء وبنات هتكت أعراضهن وبقرت بطونهن، وجُرِّدن من ملابسهن، وبلغت هذه الأخبار حد التواتر وثبتت بتقارير الأطباء.




وحسب الإحصاءات الرسمية البريطانية قتل من اليهود 47 وجرح 146، وقتل من العرب 48 وجرح 73. ويبدو أن هذه الأرقام أقل من العدد الحقيقي، ففي اليومين الأولين فقط قُتل من اليهود 40 وجرح 130، كما يظهر أن الإحصائية لم تشمل الشهداء العرب الخمسين الذين قُتلوا في مستعمرة بتاح تكفا. وربما انفرد سامي الجندي بذكر أن شهداء العرب بلغوا 157 وأن جرحاهم وصلوا إلى 705، وأن قتلى اليهود وجرحاهم يزيد عن ذلك. وقد اعترف تقرير اللجنة الملكية البريطانية أن معظم الإصابات وسط العرب كانت على أيدي القوات البريطانية.وذكر تقرير بريطاني آخر أن معظم إصاباتهم كانت برصاص البريطانيين أو اليهود، وأن معظم إصابات اليهود كانت بالسكاكين والعصي على أيدي العرب.



وقد ظهر أيضاً الأداء المتحيز للسلطات البريطانية من خلال الإجراءات القضائية التي اتخذها النائب العام "نورمان بنتويش" - وهو بريطاني يهودي صهيوني كان يتولى أمور القضاء والعدالة في فلسطين - حيث أحال القضايا المتعلقة بالفظائع التي ارتكبها الصهاينة إلى المحاكم كقضايا شخصية بسيطة.



وكان يمكن لهذه الانتفاضة أن تتفاعل وتتسع لولا أن موقف الزعامات السياسية الفلسطينية مال إلى تهدئة الوضع. وقام عدد من الوجهاء ورؤساء البلديات بتهدئة الجماهير. وقدَّرت السلطات البريطانية "خدمات" رؤساء بلديات القدس وطولكرم ويافا وقاضي القدس ومفتيا عكا وصفد فمنحتهم وسام عضو الإمبراطورية M.B.E. وحتى موسى كاظم - رئيس اللجنة التنفيذية التي تُمثل قيادة الحركة الوطنية- قام بنفسه بجولة لتهدئة الوضع، لأن القيادة كانت لا تزال تأمل بحل سياسي، ولم تكن في وضع يؤهلها لأي عمل ثوري.



ومن جهتها، قامت السلطات بعمل استرضائي، إذ أوقفت الهجرة اليهودية مؤقتاً اعتباراً من 14مايو1921. وألقى المندوب السامي هربرت صمويل بيانا في 3 يونيو 1921 ذكر فيه أن بريطانيا لن تفرض على شعب فلسطين سياسة تجعلهم يعتقدون أنها مناقضة لمصالحهم الدينية والسياسية والاقتصادية. وقد نشر هذا جواً من الارتياح في الوسط العربي، غير أنه لم يكن عملياً سوى وسيلة لتهدئة الأمور وترتيب الأوضاع، ليمضي المشروع الصهيوني بوسائل أكثر احترافاً ونجاحاً. وقد اعترف السكرتير العام للحكومة "ديدز" أن الغالبية العربية شعرت بعد ذلك بأشهر بأن الحكومة البريطانية "مقيدة اليد والقدم"، وأن هذا البيان مجرد ذرٍّ للرماد في العيون، وأن الشقة قد اتسعت بين العرب والإدارة البريطانية، التي أصبحوا يرونها والصهيونية شيئاً واحداً.





ثورة البراق: أغسطس 1929

لم تحدث ثورات على مدى واسع بعد ثورة يافا وحتى ثورة البراق. ولكن حدثت بعض الأحداث المتفرقة مثل مظاهرة القدس في ذكرى وعد بلفور في 2نوفمبر1921، التي أدت إلى مقتل خمسة يهود واستشهاد ثلاثة من العرب وإصابة 36 من الطرفين. وفي 20 مارس 1924، كان اليهود يحتفلون بعيد المساخر، وأشركوا في مساخرهم زي العلماء المسلمين مما أثار حفيظة المسلمين، فقُتل يهودي وآخر مسلم، وجرح يهودي واثنان من المسلمين.


وفي 25 مارس 1925 أضربت فلسطين إضرابا شاملا بمناسبة زيارة بلفور إلى فلسطين. وكان من أسباب حالة الهدوء خلال 1922-1928 تراجع معدلات الهجرة اليهودية، وحالة الانقسام والتفكك التي شهدتها الحركة الوطنية الفلسطينية.



وحائط البراق هو الحائط الغربي للمسجد الأقصى، ويسميه اليهود حائط المبكى، وكان المسلمون يسمحون لليهود بزيارة المكان الذي هو وقف إسلامي من باب التسامح الديني. وقد حدث أول تصعيد خطير بشأن حائط البراق في 23 سبتمبر 1928 عندما حاول اليهود تغيير حالة الأمر الواقع، وتحويل المكان إلى ما يشبه الكنيس اليهودي. فأسس المسلمون في 30 سبتمبر "لجنة الدفاع عن البراق الشريف". وعقدوا في القدس مؤتمراً إسلامياً في الأول من نوفمبر 1928، حضرته وفود من الأردن والعراق ولبنان وسوريا والهند، وقرر المؤتمر تشكيل "جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة".




ثم حدث تصعيد يهودي آخر في 15أغسطس1929 حيث نظم اليهود مظاهرات في القدس اتجهت إلى حائط البراق وهناك رفعوا العلم الصهيوني، وأنشدوا نشيدهم الوطني، وشتم خطباؤهم رسول الله r والإسلام والمسلمين.


وقام المسلمون في اليوم التالي بمظاهرة مضادة من المسجد الأقصى. وحدث شجار بين العرب واليهود في 17 أغسطس زاد الأوضاع توتراً. ثم وقعت صدامات واسعة بعد صلاة الجمعة يوم 22 أغسطس في القدس. ولم تكد أخبار هذه الصدامات تصل إلى الناس حتى عمت المظاهرات والصدامات جميع أنحاء فلسطين واستمرت بشكل عنيف أسبوعاً كاملا، غير أن جذوتها لم تنطفئ إلاّ بعد أيام أخرى تالية.



وفي 24 أغسطس قام العرب في الخليل بمهاجمة الحي اليهودي فقتلوا أكثر من ستين يهودياً وجرحوا أكثر من خمسين آخرين، وتمكنت الشرطة من الحؤول دون وقوع مذبحة هائلة لليهود، فاصطدمت بالمتظاهرين، وذُكر أنها قتلت عشرة منهم وجرحت آخرين. وفي يوم 29 أغسطس هاجم العرب الحي اليهودي في صفد فقتلوا عشرين وجرحوا 25 آخرين. وفي الفترة من 24 أغسطس وحتى 2 سبتمبر هاجم العرب الكثير من المستعمرات اليهودية، ودمروا ستة منها تدميراً كاملاً. وهوجم اليهود في يافا وبيسان. وتحولت فلسطين إلى ساحة قتال، ولم تستطع السلطات البريطانية الإمساك بزمام الأمور إلاّ في 28 أغسطس، عندما اكتملت التعزيزات العسكرية.



أسفرت هذه الثورة عن مقتل 133 يهودياً وجرح 339 آخرين، معظمهم أصيب على أيدي العرب. واستشهد من العرب 116 وجرح 232 معظمهم على يد الشرطة والجيش البريطاني. وكانت الإصابات بين البريطانيين نادرة جداً، لأن الثورة كانت موجهة ضد اليهود فقط. وقد سِيق إلى المحاكمة حوالي 1300 شخص 90% منهم من العرب. واتهم العرب مرة أخرى مسؤول "العدالة" في فلسطين اليهودي "بنتويش" بالظلم والتحيز الفاضح. وذكروا أنه أخذ يتهم العرب بالعشرات، ويُفرج عن اليهود حتى القتلة بكفالة وبدون كفالة، وأنه أفرج عن مجرم يهودي متهم بقتل أربعة من العرب، أحرق أحدهم حرقاً. وقد جرت محاولة لاغتيال بنتويش، أصيب على إثرها في فخذه، ثم إن السلطات البريطانية أعفته من منصبه سنة 1931. وقد نفذت السلطات البريطانية ثلاثة أحكام بالإعدام على ثلاثة من العرب هم عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي. وكان استشهادهم في 17يونيو1930، يوماً مشهوداً في تاريخ فلسطين عرف بـ"الثلاثاء الحمراء". وقد أبدى الثلاثة ضروباً من الشجاعة والثبات عند التقدم إلى حبل المشنقة، وطلب الزير وجمجوم "حناء" ليخضبوا أيديهما، وهي عادة عربية في منطقتهما للدلالة على الاغتباط بالموت، وأنشدوا وأنشد أهل فلسطين معهم:



يا ظلام السجن خيّم إننا نهوى الظلاما

ليس بعد الليل إلا فجرَ مجدٍ يتسامى

إيه يا أرضَ الفخارِ يا مقّر المخلصينا

قد هبطناكِ شبابًا لا يهابون المنونا

وتعاهدنا جميعًا يومَ اقسمنا اليمينا

لن نخون العهدَ يومًا واتخذنا الصدقَ دينًا

ايّها الحُراس عفوًا

واسمعوا منّا الكلاما

متعونا بهواءٍ منعه كانَ حرا مًا

لستُ والله نسّيًا ما تقاسيه بلادي

فاشهد يا نجم أنّي ذو وفاءٍ وودادِ

يا رنينَ القيدِ زدني نعمةً تُشجي فؤادي

إن في صوتك معنىً للأسى والاضطهادِ

لم أكن يومًا اثيمًا لم أخن يومًا نظاما

انما حب بلادي في فؤادي قد اقاما



كانت هذه الثورة أولى الثورات التي تشمل كل فلسطين، لكنها استهدفت كسابقتيها اليهود فقط وليس البريطانيين، حيث كان لا يزال بعض الأمل في أن يغير البريطانيون مواقفهم. ولكن الفلسطينيين أدركوا تماماً بعد هذه الثورة أن المشروع الصهيوني تحميه الحراب البريطانية، وأن صراعهم يجب أن يوجه بالدرجة الأولى ضد بريطانيا نفسها.
وقد اتخذت هذه الثورة بُعداً إسلامياً واضحاً من خلال سعي المسلمين للدفاع عن حرمة المسجد الأقصى وحقهم في حائط البراق. كما ثبت بعد ذلك أن الحاج أمين الحسيني (مفتي فلسطين ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى) كان وراء التخطيط والإعداد السري لهذه الثورة.



ونتابع مع ثورة الكف الأخضر: 1929 ـ 1930