الإشباع العاطفي لدى الطفل وأثره على سلوكه
أ . مالك فيصل الدندشي *
“هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا، فأعطهم، وإن غضبوا، فأرضهم، فإنهم يمنحونك ودهم، ويحبونك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلا، فيملوك، ويتمنوا وفاتك” الأحنف بن قيس.
الطفل عالم عجيب، ومخطئ من يعتقد أنه لا يفهم، وإنما إدراكه للأمور يكون بشكل مجمل، وللأسف الشديد أن بعض مربي الأطفال والفتيان واليافعين يتعاملون معهم على أنهم غُفْلٌ أو على جهل شبه تام؛ لذلك ينعكس هذا الفهم الخاطئ على تربية الأبناء في المدارس والبيوت؛ ونتيجة لهذا الفهم الخاطئ تقدم للأولاد مناهج وأساليب – ولا سيما في السنوات المبكرة – لا تنفعهم ولا تصنع منهم مهرة في أي شيء. أو بررة مع غيرهم!
ومن القضايا والإشكاليات التي أوقع فيها المربون في البيوت أبناءهم – وكانت نتيجة للتصور الخاطئ عن عالم الطفولة والفتوة و و و و هو تسليم تربية أبنائهم إلى الخادمات والسائقين ولمن هب ودب! غير عابئين بما سيؤثر على نفوسهم وشخصياتهم.
وفي هذا المقال سأتناول قضية إشباع الطفل عاطفياً، الذي يجعل منه إنساناً سوياً, مطمئنا,ً هادئاً, مستقراً, مرتاحاً، يحس بالأمن، والذي يصنع منه شخصية متوازنة قانعة محبة للآخرين، قادرة على التكيف مع الحياة مبدعة لا تشعر بالاغتراب الاجتماعي.
إن فقدان الطفل للعاطفة في البيت أو نقصها، تجعله يتعلق بكل من يمنحه هذا الدفء، وهنا مكمن الخطر؛ فهو يتلقى عنه أسلوب حياته (وربما معتقده) ومفاهيمه وطريقة تذوقه وحديثه، وكذلك لغته ودينه وخاصة ممن يأنس منه القرب.
والحب المفقود الذي هو بحاجة إليه؛ وهذا الحب وتلك العاطفة التي لها خصوصية معينه، وطبيعة متفردة لا يجدها الطفل إلا عند أبويه ولاسيما الأم، الأم، الأم الذي إذا ضمته، وقبلته، وابتسمت له، ورعته بقلبها وروحها وكل ما تدخره في كينونتها الواهبة المتوهجة؛ انتعشت نفسه واطمأن قلبه؛ ولذا نجد الأطفال والفتيان الذين ترعاهم أمهاتهم وتربيهم وتمنحهم من وقتها القسط الأكبر- هم المتزنون المطمئنون المنسجمون مع محيطهم وصدق أحمد شوقي عندما قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه منهم الحياة وخلفاه ذليـــلا
إن اليتيم هو الذي تلقــــــــى له أماً تخلت أو أبا مشغولا
ومن التجربة ـ وأنا معلم منذ أكثر من ثلاثين سنة ونيف ـ العملية أني كلما احتككت مع طلابي وخالطتهم عرفت من المشبع عاطفياً؟ ومن هو المقل منها أو المكثر؛ يظهر في استيعاب الطالب، وفي أدبه وحسن تعامله مع الآخرين، وهو مستغن عمن يحيط به؛ فاختلاطه مع الآخر لم ينشأ عنده عن رغبة يود إشباعها، وإنما بدافع فطرة الاجتماع؛ ومعظم الأولاد الذين لديهم مشكلات عاطفية أو اجتماعية، تجدهم – في الغالب – يعيشون وأمرهم بيد الخدم أو أمهاتهم في مشكلات مع أزواجهن أو مطلقات أو منشغلات هنا وهناك، تاركات أمانة التربية مع من يفقدها فكيف يعطيها لغيره، والغالبية منهن (من المربيات!!) ناقمات شاعرات بالظلم والعبودية، والعبد لا يعرف الكر والفر، وإنما يعرف الحليب والصر كما قال عنترة، فكيف تكون صورة الولد المتخرج من تحت أيديهن، وأذكر أن أكثر من مشكلة أدمعت عيني تتعلق بطلبة غير متزنين؛ فتبين لي أنهم يعيشون في أجواء بيتية غير طبيعية. يعرضون شكاواهم على استحياء علينا؛ تحس أنهم يرغبون فيمن يقدم إليهم حناناً، فكم يرتكب الأبوان أخطاء في تربية غلمانهم، وهل تنفعهم كنوز الدنيا إذا خسروا فلذات أكبادهم التي قال عنهم الشاعر العربي:
وإنمــا أولادنـــــــــا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض
ومن المعطيات الأخرى التي أثبتت لي أن الفراغ العاطفي (الذي يقابله الإشباع العاطفي) له تأثير على سلوك الطفل، ويظهر ظهوراً بارزاً في سلوكه عندما يبلغ مبلغ الرجال، أو تصل الفتاة إلى مرحلة الأنثى البالغة، أو دون هذه السن. ولقد لاحظت – من خلال الاستشارات الاجتماعية أو النفسية، أو التربوية التي تردنا عبر الموقع، والتي يظهر فيها ندم المستشيرة، بل بكاؤها مما حصل لها – أن كثيراً من المشكلات العاطفية التي تنشأ بين الشابات الغافلات واللواتي يقعن في مصيدة الشباب الهابط المتمرس في اصطياد الفتيات، سببها كما تقول صاحبة الاستشارة: إنني لم أسمع من والدي ولا من أمي ولا من أخي كلمة حب وحنان وعطف، لم أسمع لا في صغري ولا في فتوتي ولا في شبابي، فكيف إذا كانت هذه البنت تعيش مع زوجة أبيها أو في بيت أخيها أو في بيت أبويها ولكنهما غافلان عن هذا الجانب؛ لذلك عندما يدغدغ مشاعرها شاب؛ سرعان ما تستجيب لطلبه الذي يبدأ بالكلام المعسول، ويتطور إلى أشكال أخرى من العلاقات التي تصبح فيها الفتاة أو الفتى ضحية تربية خاطئة من علاماتها: أنها لا تعطي الجرعة العاطفية للولد، والتي تتجدد مع الزمن كماً وكيفاً؛ وهذه القضية يتحمل وزرها الأبوان اللذان لا يفهمان مقاصد الزواج الحقيقي ومن أهمها: تربية الأبناء تربية صالحة، تشبع رغباتهم الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والعاطفية في ضوء المنهج الإسلامي.
رأى زائر(الأقرع بن حابس) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل الحسن والحسين ولدي فاطمة رضي الله عنها، فتعجب وقال: فما نقبلهم أي ما نقبل أبناءنا!!!! فقال له رسول الله: – بما معناه – ماذا أفعل إذا نزع الله من قلبك الرحمة”.
إن الطفل في أمس الحاجة إلى منزل مستقر يمسك دفة التوجيه فيه أم رؤوم، وأب عطوف يملآن البيت موجات عاطفية تشكل بحراً يسبح فيه الأولاد، إضافة إلى رعاية الذرية رعاية تشمل المرافق الأخرى وأهمها التعليمية والخلقية.
إن كثير اً من الراغبين في الزواج والراغبات فيه بحاجة إلى دورات تأهيلية تثقفهم وتدربهم وتبصرهم قبل القدوم على بيت الزوجية؛ وليعلم الجميع أن الزواج ليس مجرد إشباع رغبات جنسية بين الطرفين (وإن كان هذا من مقاصد الزواج) وإنما هو بناء خلية اجتماعية من نمط خاص، تكون محضناً صالحاً للذين سيملؤون البيت بهجة وسروراً والمجتمع نفعاً وخيرا.
أيتها التي تركت أولادها لمن لا يحسن تربيتهم؛ من أجل عرض من أعراض الدنيا، أو يا من انشغل عن تربية أولاده من سفر أو عمل أو أو كي يجمع لهم حطام الدنيا فإذا به يخسر أطفاله؛ وماذا عسى أن يسر في حياته؛ ولقد صرَّح أحد الأبناء في إحدى القنوات – وهو عاق لأبيه المريض – لمن أجرى معه المقابلة بأنه لا يشعر بأي حب لأبيه، أو لا يحس بجاذبية نحوه؛ لأنه أي الأب كان يعمل في دولة ما، ولا يحضر إلى بلده ليعيش مع أبنائه إلا كل ثماني سنوات!! وحتى الزوجة لم تعد تشعر بالعلاقة الحميمة مع زوجها، والحوادث كثيرة لمن أراد أن يدلل على صحة ما طرحته في هذا المقال.
إن الأبناء أمانة في أعناقنا، وهم أغلى شيء في حياتنا ولن يعدل أي نفيس نجمعه نفاسة صلاحهم في الدنيا، وسعادتهم في الآخرة. فلنعطهم من حياتنا ما يبلغهم الدرجات العلى، ولنسترخص أي مكسب دنيوي يشغلنا عن بناء شخصياتهم بناءً سليماً، ولا نبخل عليهم في التوجيه والنصح والرعاية ولو كان على حساب ملذاتنا؛ لأن الآباء قد يعقون أبناءهم أكثر من عقوق أبنائهم لهم، فالله الله في أولادنا قبل أن نندم في وقت لا ينفع الندم.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، فأمر عمر بإحضار الولد مؤنباً، فقال الولد: أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال بلى، قال فما هي؟ قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب (القرآن) قال الولد: إن أبي لم يفعل شيئاً من هذا، أما أمي فهي زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جُعَلاً (خنفساء)، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت تشكو عقوق ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك؟!
ألا فليأخذ الآباء من هذا الخبر العبرة في الملاطفة، وحسن المعاملة والرفق بهم، واتباع الطريق الأقوم في تربيتهم وترشيدهم وإشباع عواطفهم بما يزيل الجفاف من حياتهم، لتتدفق المشاعر النبيلة كالموج، ونسمات السحر الريانة الندية ونحن منتظرون.
كيف تحقق الاشباع العاطفي للأبناء !!
منذ اللحظات الاولى للولادة والطفل يلوذ
بصدر امه لا ليرتوي من لبنها فحسب،
وانما بحثا عن الامان الذي عاشه في احشائها
وهو ينشده في احضانها ولعلّ نظراته المشدودة الى عينيها،
ودقات قلبها المتناغمة مع دقات قلبه اللصيق بها
يشعرانه بالامان المفتقد هناك،
فقبلات الوالدين لأولادهم زَخَمٌ وشحنٌ عاطفيّ لا يستغنون عنه كما لا يستغنون عن غذائهم وشرابهم،
وقد يصبرون على هذا لكنهم لا يصبرون على ذاك،
وكم استغرب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الاب (الاقرع بن حابس) الذي رأى النبي (عليه الصلاه والسلام) يقبل الحسن والحسين فقال له:
لي عشرة اولاد لم اقبّل أحدا منهم، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم)
فيما مضمونه: ((انك رجل نزعت الرحمة من قلبه))!!
وفي حياة بعض الفتيات والشبان اكثر من (فراغ عاطفي)
أي ان هناك هوّة عاطفية تنجم عادة من أجواء أسرية خانقة
لا يجد فيها الشاب والفتاة ملاذه الآمن
فيحاول ان يبحث عن المعوّضات التي تسدّ له هذا النقص،
أو تردم له تلك الهوّة.
فميل بعض الأبناء إلى العم أو الخال أو الجد والجدة،
هو ـ احيانا ـ بسبب من هذا الفراغ،
وتعلق بعض الصبايا من الفتيات برجال كبار في السنّ،
ربما يكون ـ في احد أسبابه ـ افتقادهم للحنان الابوي
وعثورهم عليه عند غير الاب ـ
وفي الدراسات والبحوث الجنائية اتضح ان احد أهم عوامل الجنوح الى الجريمة هو النقصّ الحاد في التغذية العاطفية للجاني،
كما تبين من دراسات اجتماعية ونفسية اخرى ان رغبة بعض الطلبة من الشباب والفتيات بالدروس الخصوصية
ليس عدم الاستيعاب في غرفة الدرس،
وانما لعوامل غير مباشرة من بينها الظمأ العاطفي
الذي يعبّر عن نفسه باشكال مختلفة.
واذا كان المربيّ الأول علية الصلاة والسلام يشدّد
على اهمية احتضان ورعاية وكفالة اليتيم،
وتمسيد راسه وعدم تحسيسه بوقع الفقد عليه
من خلال الاقتصاد أو التحسّب أو التحفّظ العاطفي ازاء الابناء في حضرته،
فان هذه اللفتات كلّها توحي ان الفراغ العاطفي
او النفسي الذي يخلّفه اليتم كبير،
ولابد من السعي لاكماله واتمامه بنحو او بآخر
حتى يتجاوز اليتيم عقبة اليتم ويخرج الى الحياة معافى من عقدة النقص العاطفي التي لو استشرت لدفعت
الى الجنحة والجريمة والاحساس بالجفاء والجفاف الاجتماعي.
إنّ كلمات اللطف الأبوي والحنان الأموميّ والعاطفة الرقيقة
التي يعبّر عنها بنبرة الصوت العذب،
والدفء الغامر، لها من القوة المنشطة ما لا يجده الشبان والفتيات
في اقوى المنشطات المتوفرة في الصيدليات على الاطلاق.
ان احتضان خطأ الأبناء برفق، وتقدير مشاعرهم بعمق، والانتباه الى ما يجرحهم من كلمات او افعال،
واشعارهم ان البيت هو الملجأ،
وان صدر الام لا يعوض، وان كتف الاب لا يستبدل.
وان جلسة حميمة تغدق فيها المشاعر على مصاب او منكوب
او جريح نفسيا لهي مما لا يحصى ثوابه الا الله فضلا
عما تؤمّنه من امصال الوقاية من الانهيار النفسي
الذي يتعرّض له المصاب بـ (الفراغ العاطفي).
بديهة اجتماعية ونفسية لابدّ من الالتفات اليها:
ما لا اجده في بيتي وبين اسرتي، سابحث عنه خارجها،
وهذه بداية الطامّة، أو بداية التصدّع الأسري من الداخل
حتى وان بقيت الروابط الشكلية بين افراد الاسرة قائمة.

آمال*_* @amal_68
عضوة جديدة
يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

منجو
•
يعطيك العافيه موضوع رااااائع




الصفحة الأخيرة