"الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه إلاّ المرضى"..

الصحة واللياقة


شكر الله رأس الحكمة

في ظروف صعبة يعيشها الانسان بين أروقة المستشفيات لينقذ خلالها مريضه، فبعض الأطباء يوصي بإجراء عملية جراحية عاجلة، وآخر رأيه يختلف عن ذلك، قلب هذا الإنسان يعتصر الاضطراب والألم والخوف، وبعد أن تجري العملية بنجاح
(وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌ حَمِيدٌ)لقمان/12
"الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه إلاّ المرضى"..
في ظروف صعبة يعيشها الانسان بين أروقة المستشفيات لينقذ خلالها مريضه، فبعض الأطباء يوصي بإجراء عملية جراحية عاجلة، وآخر رأيه يختلف عن ذلك، قلب هذا الإنسان يعتصر الاضطراب والألم والخوف، وبعد أن تجري العملية بنجاح بعد أن كان المريض يعيش بين الموت والحياة، يطمئن صاحبه للشفاء الذي منّ الله به على مريضه فيحسّ بأهمية العافية التي كان يتمتع بها في اللّيلة الماضية ولا يحسّ بها..
وفي نهار قائض يصوم المؤمن ويكدح فيكضه العطش والجوع، ويهيمن عليه الضعف والوهن حتى تقترب ساعة الإفطار، فتمد مائدة الطعام وعليها أصناف المأكولات والمشروبات، وحينما يمدّ هذا المؤمن يده الى لقمة طعام أو شربة ماء لا يسعه إذ ذاك إلاّ حمد الله وشكره، وذلك بعد أن تلمّس بالفعل ألم الجوع والعطش ونعمة الطعام والشراب.
و... رجل آخر؛ مضطرب الحال، لا يعرف كيف يهرب من الطاغوت الظالم، فيبحث عن مخرج من مآزق أجهزة المخابرات، وبين عشية وضحاها يفتح الله تبارك وتعالى له ويفرّج عنه، فإذا به يجد نفسه في رحاب الأمن والحرية ويحسّ بعظمة هاتين النعمتين.
وكثيرة هي الامثلة والمواقف التي تكتشف فيها النعم بعد طول غفلة او تغافل، فيعود للمرء وعيه، فيعود بدوره الى فطرته غير الملوثة برجس الجهل وظلم النفس والتجبّر في الحياة.
أقول: لولا الظلام الذي يهيمن على الوجود في الليل ما أحسّ أحد بأهمية النور وبسنى ضياء النهار. فمشكلة ابن آدم أنّ النعم التي تواترت عليه قد أذهلته عن حقيقته وعن وجودها هي أيضاً، علماً أن حقيقة الإنسان حقيقة عدمية، من منطلق أنّ كل نعمة من نعم الله عليه المحيطة به لاتمت بصلة به، بل هي فضل من الله تبارك وتعالى يؤتيها من يشاء ويسلبها ممن يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء.
لقد كان رسولنا الاكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلّم يشكر ربّه في كل يوم ثلاثمائة وستين مرة، وكان يؤكد أنّ في جسم الإنسان ثلاثمائة وستّون عرقاً، وأنّه لو ضرب -أخطأ- عرق واحد من هذه العروق طريقة أدائه لمهمّته، فإن هذا الإنسان ستسلب منه العافية.
وجاء في دعاء الامام زين العابدين عليه السلام: "إلهي... أذهلني عن شكرك تواتر نعمك..." ولكي يكون الإنسان جديراً بنعماء الله؛ عليه ان يعاود الكرّة أو الكرّات في متابعة حقيقة نفسه العدمية. ليذهب الى المستشفيات ليرى من خلال المرضى نعمة الصحة التي يتمتع بها، وليذهب الى المقابر ليلمس نعمة الحياة التي يعيشها، وفرصة القيام بالعمل الصالح لإثبات إنسانيته، وليذهب الى السجون ليرى بأم عينيه عظمة الحرية التي يتلوع من أجلها السجناء ويتنعم هو بها... وليتابع بوعي وإصرار حقيقة الأحداث الجارية في البلدان حول بلده، ليتأكد بنفسه ما تعانيه شعوب العراق وأفغانستان وفلسطين وأفريقيا من مآسٍ وويلات على الصعيد المادي فضلاً عن الجانب المعنوي الذي أول ملامحه الجهل والظلم والتيه الحضاري؛ بما للكلمة من معنى.. بل ليلقِ نظرة على جيرانه ممن قد يضطرب للأخطار التي تداهمه أو الديون التي تعاجله او الأمراض التي تؤلمه او الأعزاء الذين يفقدهم... هنالك فقط يتلمس بمصداقية تامة حقيقة وجود نعم الله المحيطة به.
ان أهم صفة من صفات الفرد المؤمن أنّه يتمتع بالوعي والحكمة، حيث يعي ويستوعب استيعاباً حكيماً حقيقة ذاته، يعي أنّ نفسه عدميّة وليست وجودية، بدليل انّ بعض الناس او كثيراً منهم يفتقرون الى الكثير من النعم والإمكانات رغم أنهم متساوون مبدئياً من حيث التكوين. والى ذلك أشار المعصوم عليه السلام بقوله الشريف: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه" ومن الطبيعي جداً أن يكون العارف بربّه إنساناً مؤمناً واعياً وحكيماً...
نرى عدداً من الناس يفتقرون الى عدد من النعم، مما يعرضهم الى خسائر فادحة على مختلف الأصعدة. وقد يكون هذا الافتقار نابعاً ممّا جنوه هم على أنفسهم. وقد يكون أساسه تقديراً او قضاءً إلهياً، الحكمة فيه يعلمها الله، من قبيل الابتلاء لاثبات الصبر والايمان بقضائه وقدره، كما هو الأمر بالنسبة الى وجود النعم نفسها، حيث من الممكن والطبيعي جداً ان يبتلي الله جل شأنه الإنسان عبر التفضل عليه بهذه النعمة أو تلك.
وفي الوقت الذي لا نرى من أكثر الناس أية ردود أفعال إيجابية تجاه تمتعهم بالنعم الوفيرة، نرى المؤمنين يحسنون استغلال كل نعمة ينعم الله بها عليهم وفي مختلف المواقف والمناسبات.
وللتوضيح اقول: إنّ حاسة الشمّ -مثلاً- من النعم الإلهية المعروفة، وهي أقرب الأحاسيس الى عالم المعنى، لذلك نرى انّ اهل المعنى وأصحاب العرفان والروحيات كما يفيدون من هذه الحاسة في إطار المادة -كما هو متعارف- فإنهم يستفيدون منها في إطار المعنويات ايضاً.
ويروى أنّ الصحابي الجليل أويس القرني (رضي الله عنه) حين جاء الى المدينة المنورة لرؤية الرسول الاكرم، ولما كان الرسول في سفر، لم يتمكن أويس من رؤيته فعاد الى بلاده دون أن يترجل عن مركبه كما أوصته أمه بذلك، ولما قفل الرسول من سفرته الى المدينة قال صلى الله عليه وآله: " أشمّ رائحة الإيمان" إشارة الى زيارة أويس القرني العاجلة، وتأكيداً منه على حقيقة إمكانية استغلال النعم المادية في الأطر المعنوية...
إن بعض الناس حينما يفقدون أعزة عليهم او يقدّمون شهداء، يشمون رائحة أرواحهم حين تمرّ عليهم، وهذه حقيقة ثابتة أكدتها الأحاديث والروايات الكريمة.
أما الإنسان الذي لا يتلمس النعم التي انعم الله عليه ولا يستفيد منها استفادة واعية وحكيمة، فإنه محكوم بجهل حقيقة نفسه، وبالتالي فهو معرض في كل لحظة من لحظات عمره لأن يكابد العذاب ولأن يعيش عيشة ضنكا، فهو يعتقد بضرورة ان يكون كل شيء بالنسبة له مناسباً، ويتصور ان وجوده في الحياة بمثابة كونه ضيف شرفٍ، يأكل ويشرب ويترفّه وينام دون أداء مهمة ما، إنّه يتوقع ان تكون حياته حياة محترمة الى ابعد الحدود دوماً... وهو حين يلتفت في لحظة من اللحظات الى بعض النقص، او الى تبخّر بعض النعم، يهيمن عليه الانزعاج، وهذا الانزعاج يتصوره عذاباً أليما، او هو بالفعل يتحول الى عذاب اليم يخرجه عن المسار والطور الطبيعي له كإنسان.
وعلى الضفة الاخرى يقول تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} فكيف يا ترى يعيش الانسان حكيماً؟ وكيف يعيش مثل لقمان الحكيم؟
ويجيب تبارك وتعالى على لسان لقمان في معرض إرشاداته ووصاياه لابنه بالقول المبارك: { أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}
فالشكر إذن هو عنوان الوعي والحكمة، والشكر لله إذا ما قسمناه وحللناه نجده مبنياً على أساس معرفة الإنسان لنفسه معرفة حقيقية، فمن يدرك منّا أنّه لم يكن ثم كان فيستوضح لديه أكثر؛ بأن الله سبحانه وتعالى قد انعم عليه بنعمة الإيجاد او الوجود، وفي ذلك الفرصة الأكبر لإثبات ذاته ولتأكيد جدارته بأن يكون المخلوق المفضل من بين سائر المخلوقات الاخرى، وبالتالي يكون الأجدر بدخول الجنان الخالدة والاستظلال بظلال الرضوان الإلهي.
وهناك الكثير من النعم التي تلي نعمة الوجود، كنعمة حنان الام على طفلها، أو لنقل نعمة تسخير الله تبارك وتعالى للأم لإيلاء طفلها مزيداً من الحنان، الذي لولاه لما اصبح الطفل سوى كائن معقد غريب المزاج والأطوار.
وفي مقابل روعة وعظمة ان يعرف المرء حقيقة نفسه العدمية، وأن لا يتكبر على تعداد نعم الله عليه، وأن يشكر الخالق عليها قولاً وفعلاً، في مقابل ذلك... يقف الشيطان الرجيم ونزعات النفس الأمّارة بالسوء متربصين للحيلولة دون تمكن الإنسان من السمو والارتفاع بايمانه ومعتقداته وعقليته، فالشيطان من طبيعته ان يوسوس ويثير ويشعل نار الحقد والعصبية والانانية في قلب من لم يتوصل الى معرفة حقيقته العدمية تجاه من يتمتع ببعض النعم؛ وإن كان مطمئناً ومتأكداً من عدم ديمومتها. ولذلك فهو يعيش واقع الجهل المركّب، حيث يورط نفسه في العذاب النفسي دون شعوره بذلك، او أنّه يشعر به، ولكنه لا يتصور تأثيراته عليه، او لا يريد تصور ذلك!
في حين انّ الانسان المطمئن السوي العالم بحكمة ربّه في تقدير أرزاق الخلائق، الحكيم في نظرته الى الوجود، تراه متطلعاً الى ما عند الله لا الى ما يتمتع به الآخرون، راضٍ بما يرضاه له الربّ الوهاب، فهو يدعو كل صباح بالدعاء المأثور عن أئمة الهدى والحكمة عليهم افضل الصلاة والسلام: " الحمد لله الذي ارقدني في مهاد أمنه وأمانه وأيقظني الى ما منحني من مننه وإحسانه وكفّ أكفّ السوء عني بيده وسلطانه..."
الفرد المؤمن حيث تشبّع بالبصائر القرآنية لا يرى انفصالاً بين الشكر والصبر، فهو إذ يشكر الخالق على ما أنعم عليه يكون قد صبر على استمرار وعيه وحكمته، وهو إذ يصبر على فقده نعمة من النعم، يكون في واقع الأمر قد شكر خالقه على ما انعم عليه من نعم أخرى، والآية المباركة تقول: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } والعطف هنا جاء دون أداة، مما يدلل على عمق الارتباط ووحدة الإشارة والمعنى.
وفي موقع آخر يقول ربّنا العزيز: { الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وإِنّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * اُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِن رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فالمؤمن الذي يصبر على ما أصابه، واستذكر حقيقة نفسه وأنه عبدٌ خلقه الله عائد فرداً اليه، من المؤكد ان تشمله صلوات الله ورحمته، وهذه الصلوات وهذه الرحمة قد ينزلهما الله على هيئة نعمة اخرى تحلّ محل النعمة المسلوبة، بداعي الحكمة الإلهية الغائبة عن الأذهان، وقد تتنزل على هيئة تكريس المزيد من الايمان والقناعة في قلب هذا المؤمن المصاب.
وقد لمست بنفسي نموذجاً مؤمناً من هذا القبيل، حيث قصدت في يوم من الأيام إحدى المقابر للمشاركة في تعزية احد المؤمنين بفقد زوجته، وإذ بادرته بعبارات التعزية بعد تأنٍ مديد، أجابني بالقول: لقد أنعم الله عليّ بما لا يحصى من النعم، واليوم شاء ان يأخذ واحدة منها. فهذا القول لا يصدر من قلب ساهٍ في حال من الأحوال، وإنما هو نابع من قلب ملأته الحكمة والشكر والصبر، وعوضاً ان أقربه الى الإيمان والصبر كما كان يخيّل اليّ، اصبح هو الذي علّمني الحكمة وألهمني حقيقة الصبر...
لقد أورد الأئمة المعصومون صلوات الله عليهم الكثير من الأدعية الهادفة الى النهوض بمستوى الانسان العقائدي والأخلاقي، وهي بمثابة الترجمان الحيّ لبصائر القرآن الكريم، ومن لم يسعه أخذ الموعظة والحكمة المتعالية من خلال سيرة هؤلاء الأئمة وحياتهم، فإنه يسعه مطالعة أدعيتهم المباركة التي ما هي إلاّ نصوص غنية للغاية في التربية.
وفي هذا الخصوص - معرفة الانسان حقيقة العدمية ولزوم الشكر والصبر- جاء في أحد الأدعية: "اللهم اهدني من عندك وأفض عليّ من فضلك وانشر عليّ من رحمتك وأنزل عليّ من بركاتك" وهذه الكلمات النورانية جديرة بالتدبر والتحليل وليس ترديدها على الألسن فقط، ففيها الاشارات الواضحة الى ضرورة التسليم سلفاً لله سبحانه وتعالى في كل الاحوال، وفيها الدعوة الى طلب العون بمختلف صوره من الله الواحد فقط، وفيها أن موقع الانسان من الله جل جلاله موقع المتأثر ابداً.
وثَمّ نكتة مهمة ينبغي التوجه اليها، وهي أن القرآن الكريم يعرّف مصطلح الحكمة تعريفاً بعيداً عمّا يذهب اليه البعض، من أنّ الحكمة تلك التعقيدات الفلسفية المتقاطعة مع طبيعة الحياة وطبيعة مهمة الانسان في الأرض، بل هو يعرفها بأنها القدرة على التعامل مع الأحداث بوعي نابع من معرفة الإنسان بنفسه.
والمؤمن إذا ما شكر ربّه فسيؤتي الحكمة، ومن يرزق الشكر سيكون قلبه مطمئناً، وإذا ما كان قلبه مطمئناً فسيكون من الطبيعي له مواجهة مشاكل الحياة والهيمنة عليها بصورة واعية تجنّبه الكثير من المشاكل، وهذه الخلاصة -حسب رأيي- جذوة التدبر في الآية الكريمة التي توجنا بها الحديث.
ولّما كان الشكر يمكن الإنسان من التعامل مع الحياة بحكمة، فهو يدفعه أيضاً الى التطور والابتكار، ولا سيما التطور وابتكار الطرق الناجحة في إطار نشر العقيدة الاسلامية، بدءً من حلّ مشاكله النفسية ومجافاته للذنوب والفتن، مروراً بوعيه لأزمات الآخرين، وانتهاءً بوضع السبل الكفيلة بحلّها.
ولعل أول علامات الحكمة في حياة الإنسان المؤمن؛ أنّه يملأه الأمل بالله سبحانه وتعالى دون غيره، حيث يبذل المؤمن كل جهده خالصاً لوجهه الكريم من دون الاهتمام بالنتائج. فهي أمر متعلّق بالله وحده، بالإضافة الى أن كل انسان مسؤول عن نفسه هو، تماماً كما أوصى الله سبحانه رسوله الكريم بالعمل في سبيله، وانه -الرسول- لا سيطرة له على الآخرين، {إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}
نسأله تبارك وتعالى ان يرزقنا الشكر والصبر، وأن يرزق المجاهدين الاستقامة على الطريق، وأن يجعل في كلامنا نوراً للآخرين، وان يلحقنا بالصالحين محمدصلى الله عليه وسلم وآله اجمعين.




6
957

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

دمي ولادمعة أمي
للرفع


اختكم في الله
دمي ولا دمعة أمي
د.هنادي جابر
د.هنادي جابر
جزاك الله كل خير يا غاليتي وبارك فيكي
دمي ولادمعة أمي
وفيك يالغلا


اختكم في الله
دمي ولا دمعة أمي
انتضارالفرج
انتضارالفرج
جزاك الله خيرا اخيتي الغاليه
هاجر يوسف الحمود
اسمي ,احمد الحمود