لفضيلة الشيخ محمد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
بنيت بحثي هذا على خمس عشرة مقدمة رأيت أنه من الضروري إبرازها من أول الأمر إذ عليها قام البحث ومنها استخلص ما تيسر لي من نتائج :
أ- إن الدين الإسلامي دين حرر الفرد وخلصه من كان ما حملته الشرائع السابقة من آثام البشرية فيما مضى كما فتح له سبيل التسامي بتطهير روحه من دنس المعصية بالعبادة والتوبة. فأغناه صح تعذيب نفسه أو تحميلها المشاق.
2- إنه كرم الإنسان بتحميله أمانة الخلافة في الأرض . وأعانه على ذلك بنعم الوحي والعقل والإرادة والقدرة.
3- إن الوحي له ميدانه وهو مالا يستطيع العقل أن يصل إليه أصلا ، ولا يقدر على بلوغه في اطمئنان على أنه على حق ، كالغيب وتفاصيل العبادة والتشريع . فإن العقل يبدو عاجزا عن الإدراك الكامل للذات الإلهية أو لشؤون الحياة الآخرة ، أو لما طواه الزمن وذهبت آثاره الدالة عليه ، أو لما سيحدث في المستقبل أو للطريقة التي يرتضيها رب العزة في التقرب لعلي ذاته ، أو التشريع الذي يحدد علاقات البشر والمجموعات الإنسانية تحديدا لا يحابي ولا يختلف ( وكذلك أوحينا روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) (الشورى : 52 ـ 53 ) .
4- إن العقل له ميدانه فكل ما يمكن أن يصل إليه الإنسان بعقله أوكله الله إليه ليحقق معنى الخلافة وينعم بثمرات كشوفه ويثاب على اجتهاده وحسن تصرفه. وهنا جاءت الآيات الداعية إلى النظر أمرا وحثا، أو تفريعا وتوبيخا على الكسل والتراخي.
5- إن كل ما بلغنا عن رسول الله r من وحي، قولا كان أو فعلا ، أو تقريرا قرآنا أو سنة هو حق وصدق ، ورفضه تكذيب وردة
6- إن الرسول r بعد أن أكرمه القه بوحي زاد ذكاؤه قوة ، وفطنته إشراقا وتألقا ، ولم يعدم صفته الإنسانية: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ) (فصلت 7/6).
7- إن الرسول r لم ينخلع عمل كل معارفه وتجاربه. بمجرد أن أكرمه الله بوحيه.. فقد ربي في قريش وبقى يحتفظ بكثير من العادات الطيبة التي لم يزدها الوحي إلا رسوخا وصلة أوضح بالله . روى البخاري ومسلم ومالك. واللفظ للبخاري عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله r بيت ميمونة فأتى بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله r بيده فقال بعض النسوة أخبروا رسول اللله r بما يريد أن يأكل فقالوا هو ضب يا رسول الله. فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله ؟ فقال لا. ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه ، قال خالد : فاجتررته فأكلته ورسول الله r ينظر.
8- إنه لا يعرف بشر في الدنيا اعتنى الناس بحفظ أقواله وأفعاله وتقريراته و طريقة صفاته كما تم ذلك لرسول الله r فقد نقل الصحابة كل ما شاهدوه أو سمعوه منه، كما كان شوق التابعين لمعرفة كل شيء عن حياة رسول الله شوقا قويا فسألوا الصحابة وحفظوا وبلغوا، جازاهم الله عن هذه الأمة خير جزاء وأوفاه. نقلوا حياته، في بيته في ليله ونهاره، ويقظته ونومه، في السوق وفي المسجد، في الحضر وفي السفر. في السلم وفي الحرب، في الصحة وفي المرض، مع أسرته ومع أصحابه ومع أعداء الإسلام، في مجلس القضاء والحكم، وفي مجلس الوعظ والإرشاد، ونبين أحكام الله . وقد يبلغ الوصف هذا من الدقة ينقل الدارس إلى المدينة المنورة فيرتوي بخياله من الصورة الوضيئة كأنه عاش عصر النبوة وسعد بالصحبة .
9- إن رسول الله r وهو يتصرف بالقضاء هو غيره وهو يرشد الناس أو يتصرف بالفتوى وبيان أحكام الله أو ينزل الحكم على الواقعة المعينة. وهو يخبر عن الله غيره وهو يخبر عن تجاربه وما أدركه من معرفة ذاتية غير متصلة بوحي الله وقد يشتبه الأمر على الصحابي فيسأله كما في أكل لحم الضب أحرام هو يا رسول الله ؟.
10- إن المتتبع للسنة لابد أن يعرف وجه تصرفه r . وقد أشار إلى هذا الإمام شهاب الدين القرافي في "الفروق " في الفرق السادس والثلاثين قال (إن غالب تصرفه بالتبليغ لأن وصف الرسالة غالب عليه ثم تقع تصرفاته r منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعا. ومنها ما يجمع الناس على أنه بالإمامة. ومنها ما يختلف العلماء فيه لتردده بين رتبتين فصاعدا، فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى. ثم تصرفاته بهذه الأوصاف تختلف آثارها في الشريعة فكل ما قاله r أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكما عاما على الثقلين إلى يوم القيامة، فإن كان مأمورا به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح. وإن كان منهيا عنه اجتنبه كل أحد بنفسه. وكشف ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام ولأن سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك. وما تصرف فيه جمع بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به r ولأن السبب الذي لأجله تصرف r يوصف القضاء يقتضي ذلك .
فالعمل بالسنة الثابتة عن رسول الله متوقفة على التعرف على الجهة التي عنها صدر فإذا علمنا الجهة يقينا كان علمنا ذاك موجها لقيم النصر وللعمل به.
وقد ذكر الأصوليون أن فعله r إن كان من الأفعال الجبلية كالقيام والقعود والأكل والشرب أنه مباح وما اقترن فيه أمر العبادة . كركوبة في الحج فالظاهر إلحاقه بالمباح.
11- إن عدم التأثير في وجه تصرفه قد تسبب عنه مضايق كثيرة وتمحلات في الإجابة لا ترتاح لها النفس ولا يطمئن لها المتأمل. وقد فصل القول في ذلك الشيخ محمد الظاهر ابن عاشور في كتابه مقاصد الشريعة يقول. إن لرسول الله r صفات وأحوالا تكون باعثا على أقوال وأفعال تصدر منه فبنا أن نفتح لهـا مشكاة تضيء في مشكلات كثيرة لم تزل تعنت الخلق وتشجي الخلق. وقد كان الصحابة يفرقون بين ما كان من أوامر الرسول r صادرا في مقام التشريع وما كان صادرا في غير مقام التشريع وإذا أشكل عليهم أمر سألوا عنه. ففي الحديث الصحيح أن بريرة لما أعتقها أهلها كانت زوجة لمغيث العبد فملكت أمر نفسها بالعتق فطلقت نفسها وكان مغيث شديد المحبة لما وكانت شديدة الكراهية له فكلم مغيث رسول الله r في ذلك فكلمها رسول الله في أن تراجعه فقالت : أتأمرني يا رسول الله ؟ قال: لا لكني أشفع. فأبت أن تراجعه ولم يثربها رسول الله r ولا المسلمون.
تم يقول وقد عرض لي الآن أن أعد من أحوال رسول الله r التي يصدر عنها قول منه أو فعل اثني عشر حالا. منها ما وقع في كلام القرافي ومنها ما لم يذكره. وهي: التشريع ، والفتوى ، والقضاء، والإمارة، والهدي ، والصلح ، والإشارة على المستشير، والنصيحة، وتكميل النفوس ، وتعليم الحقائق العالية ، والتأديب والتجرد عن الإرشاد.
ثم أخذ يحلل التجرد عن الإرشاد . فقال إن التجرد عن الإرشاد يتعلق بغير ما فيه التشريع والتدين وتهذيب النفوس وانتظام أمر الجماعة. ولكنه أمر يرجع إلى العمل في الجبلة وفي دواعي الحياة المادية، وأمره لا ينتبه فإن رسول الله r يعمل في شؤونه البيتية ومعاشه الحيوي أعمالا لا يقصد منها إلى تشريع ولا إلى طلب متابعة. وهذه كصفات الطعام واللباس والاضطجاع والمشي والركوب ونحو ذلك، سواء كان خارجا عن الأعمال الشرعية كالمشي عن الطريق والركوب في السفر أم كان داخلا في الأمور الدينية كالركوب على الناقة في الحج والهوى باليدين قبل الرجلين في السجود عند من رأى أن رسول الله r أهوى بيديه قبل رجليه حين أسن وبدن وهو قول أبي حنيفة وكذلك ما يرويه أن النبي r نزل في حجة الوداع بالمحصب الذي هو خيف بني كنانة ويقال له الأبطح فصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم هجع هجعة ثم انصرف بمن معه إلى مكة لطواف الوداع . فكان ابن عمر يلتزم النزول به في الحج فيراه من السنة كما فعل رسول الله r.
وفي البخاري عن عائشة أنها قالت إنما كان منزلاً ينزله رسول الله r ليكون أسمح لخروجه تعني بالأبطح. تم روى عن ابن عباس: ليس التحصيب بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله r ويقولها قال مالك.
12- إن إشارة الرسول r على بعض أصحابه بتناول نوع من أنواع الأدوية المادية بعد ثبوت صحة الحديث لا يخلو أمر تلك الإشارة من أن تكون تبليغا لوحي أوحاه الله إليه، أو اجتهادا منه r أو اقتناعا بما كان معروفا عند بعض أهل الطب من بني قومه وعلمه.
فإذا كان إخبارا بما علمه أن تجارب عصره فليس في هذا ما يدل على حكم شرعي ولا هو من قبيل ما يشرع فيه الاقتداء لا وجوبا ولا ندبا.
إن كان نتيجة اجتهاد فهو اجتهاد في أمر دنيوي فهو غير دال على العصمة فيه. وإذا انتفت العصمة من الخطأ التي ضمنها الله لرسوله في التشريع خاصة وفي تبليغ الوحي، إذا انتفت العصمة فالاتباع لم يشرع.
روى الإمام مسلم عن موسى بن طلحة عن أبيه قال مررت مع رسول الله r بقوم على رؤوس النخل فقال ما يصنع هؤلاء فقالوا يلقحون يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح. فقال رسول الله r ما أظن يغني ذلك شيئا. قال فأخبروا بذلك فتركوه فأخبر رسول الله بذلك فقال إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إن حدثتكم عن الله شيئا فخذوه فإني لن أكذب على الله .
يقول الإمام المازري وأما أمر الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان رسولا مفضلا من أجلها فغير بعيد أن يخيل إليه في شيء من أمرها مالا حقيقة له.
وفي رواية عن رافع بن خديج أنه قال إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر وفي رواية أنس أن رسول الله r قال أنتم أعلم بأمور دنياكم.
إن تمام القصة حسب الروايات الثلاث التي رواها أصحابه طلحة ورافع بن خديج وأنس بن مالك تؤكد نفي العصمة فيما كان من أمور الدنيا لا يرجع إلى الوحي وإنما تصرف فيه لمجد بوصف البشرية.
وقد تكون إشارته بتناول نوع من الأدوية مع قيام قرينة على أنه إنما تصرف فيه بوحي أوحي إليه كما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد قال جاء رجل إلى النبي ولا فقال إن أخي استطلق بطنه فقال اسقه عسلا فسقاه قال إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال صدق الله وكذب بطن أخيك .
وعند مسلم ثم جاء الرابعة فقال اسقه عسلا فقال: لقد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال رسول الله r : صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ.
إن ما كان من طريق الوحي لا يفيد النص إلا أنه نوع من أنواع الأدوية لا يتجاوز الحالة التي وصفها رسول الله r إلى غيرها إلا إذا ثبت تساوي الحالتين. ذلك أن الأبدان يختلف تركيبها والأمزجة يختلف قبولها وتلاؤمها مع الأدوية وحتى مع الأطعمة. أذكر أن صديقا لي وكان طبيبا تزوج بأجنبية. فأخذت تظهر على جلدها قروح واستشار زملاءه من الاختصاصيين وغيرهم ولم ينفعها أي دواء وقاموا بمختلف أنواع التحاليل وأخذ المرض يؤثر على سلامتها النفسية فأخذها إلى أستاذ في باريس اختصاصي في الأمراض الجلدية وتعرف أولا على تاريخ حياتها فاستبان له أنها نشأت في الولايات المتحدة وشبت هناك. وكان وصفه لأسباب الداء وليد هذه المعلومة ذلك أن كثيرا من الأمريكيين إذا شربوا اللبن من البقر المختلفة، المرعى عن البيئة الأمريكية تسبب ذلك في ظهور قروح على الجلد وقاءاً بالتجربة فأثار مكانا في يدها بمبضعه ووضع عليه قطرة من اللبن فتورم. وهكذا فما يصلح لمريض قد يكون قاتلا لمريض آخر لمزاج أو لوجود داء أخر. كما أن كمية الدواء وطريقة إعداده وكونه مركبا أو بسيطا كان ذلك يفرضه عدم تناول الدواء إلا بوصف عارف. فإذا جاء الوحي عن رسول الله r أن هذا الدواء نافع لشخص فهو كما قال لا يجوز الشك في ذلك أبدا ، أما تجاوز الحالة المعينة إلى حالات مشابهة فهو من ظن المتجاوز لا من تقرير رسول الله r .
13- إن هذه القاعدة الضرورية من أن معرفة المرض والمريض والدواء هي من القواعد الضرورية في التطبيب يؤكدها ما رواه الحاكم بسنده إلى جابر أن رسول الله r قال لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل. كما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله r ما أنزل الله من داء إلا وأنزل معه شفاء علمه من علمه وجهله من جهله .
14- إن رسول الله r كان يرجع إلى الأطباء للتداوي أخرج الحاكم عن هشام بن عروة عن أبيه قال قلت لعائشة رضي الله عنها قد أخذت السنن عن رسول الله r والشعر والعربية عن العرب فعمن أخذت الطب؟ قالت إن رسول الله r كان رجلا مسقاما وكان أطباء العرب يأتونه فتعلم منهم. وصححه الذهبي فرسول الله r لم يكن طبيبا. وكان يعتمد أهل الطب من العرب. فقد روى مالك في موطئه عن زيد بن أسلم أن رجلا في زمان رسول الله r جرح فاحتقن الدم وأن الرجل دعا رجلين من بني أنصار. فنظرا إليه فزعما أن رسول الله r قال لهما أيكما أطب فقالا أولا الطب خيريا رسول الله؟ فزعم زيد أن رسول الله r قال: أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء00
15-- إن اعتبار ما نقله الصحابة رضوان الله عليهم من وصف رسول الله r للأدوية أو التنويه ببعضها لا يحمل على الأمر به أو أنه تشريع . إذ اعتبار ذلك مستندا إلى الوحي قد كان سببا للطعن في صحة السنة أو تجاوز ذلك إلى الطعن في رسول الله r في مهمته الأولى أعني الرسالة لأن الدواء والتمريض المادي لا يقفان عند حد، وما يكشف اليوم من أدوية هو خاضع لسنة التطور القائمة دوما على مراجعة التجربة لزيادة الضبط والتأكد وإصلاحا لأخطاء الماضية، ما أظن أن علم الطب وقف في شعبة من شعبه ليقول قد وصلت إلى النهاية ولا مطمح في الزيادة، لأن كل أجهزة الجسم متشابكة ومترابطة ولم يستطع العلم البشري أن يبلغ غاية المعرفة في جميعها. بينما التشريع والعقيدة قد بلغا الغاية. ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) فخلط الكامل بالناقص وإجراؤهما في سكة واحدة بمعايير واحدة ليسمع سليما بداية وغاية .
إن التأمل في هذه المقدمات لتؤكد الاقتناع بأن رسول الله r لم يبعث طبيبا يداوي أسقام الأبدان. فإن هذه الوظيفة قد أوكلها الله إلى الخلق ينظرون في قوانين الكون وسنن الله في الصحة والمرض .
والرسول r بوصفه بشرا كأذكى وأنبه ما يكون إنسان على وجه هذه البسيطة قد باشر العلاج وأشار بصفته هذه- أعني البشرية لا الرسالة- أشار ببعض الأدوية حسب المستوى المعرفي الذي كانت عليه الإنسانية في ذلك العصر. ولم يبعث r على العثور ويعطيه الحلول الجاهزة وذلك لأن الله استخلف الإنسان في الكون وأعانه على تحمل المهمة بأمرين الوحي والعقل " الوحي فيما لا يستطيع أن يصل إليه بذاته والعقل وآلاته فيما يمكن أن يصل إليه بذلك. ولذلك يكون طلب الكشف عن قوانين الحياة والكون من الوحي هو كالاعتماد على العقل وحده في التشريع أو إدراك المغيبات، كلاهما منهج معكوس عقيم لا يولد حقائق ثابتة يطمأن إليها. وهذا الذي دعاني إلى الاعتماد على الطب النبوي الروحي والنفسي زيادة على ما وجدته من الاختلاف بين شراح الحديث في تعيين المراد من الدواء الذي ذكره r . وذلك كما جاء في الحديث الذي أخرجه أصحاب الصحيح واللفظ لمسلم . عن أبي هريرة أن رسول الله r قال : " في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام " والسام الموت . والحبة السوداء الشونيز . يقول عياض : تفسيرها بالشونيز هو الأشهر . وقال الحسن هي الخردل وقيل هي الحبة الخضراء والعرب تسمى الأخضر أسود والأسود أخضر والحبة الخضراء ثمرة البطم المسمى بالضرو .
ففي تعيين المراد من الحبة السوداء مذهب ثلاثة ولعل هذه المذاهب ستتضاعف إذا أوكلنا أمر تعيين كل تسمية إلى اجتهاد المجتهدين لضبط المراد بالبطم . والشونيز.
أما الجانب الذي أعتقد أن النبي r أولاه عنايته وأصله الوحي لا شك في ذلك فهو الجانب النفسي والروحي للمصاب. وهذا النوع يتناول هديه للمريض وهديه للممرضين وهديه في بيان علاقة المريض بالأصحاء.
أولا: علاقة الأصحاء بالمرضى وينحل إلى شعبتين: عيادة المرضى، قضية العدوى .
أ) عبادة المرضى إن اختلال الجسم يؤثر حتما على نفسية المصاب. ويلازمه الشعور بالضعف فهو في حاجة أكيدة إلى سند قريب وفي حاجة أيضا إلى المجتمع يؤكد له أنه عضو منه لم يقطع صلاته به. ذكرت جريدة (أفريقيا الفتاة) (جون افريك) في أحد أعدادها سنة 85 أن أحد الأطباء الفرنسيين ألف كتابا حول حق الطبيب في تعجيل موت الميؤوس منه. وكان مما ذكره أن امرأة أصيبت بمرض السرطان وظهرت آتاره على المصابة في الثدي في سن الثامنة والعشرين- ثم ظهرت الأورام الجلدية. وكانت تبدي من الصبر والجلد ما هو أثر من آثار قوة شخصيتها. وجاءت إلى هذا الطبيب تسأله في يوم من الأيام أن يساعدها على التخلص من عذابها الذي تجاوز طاقة تحملها. تقول. إنها تمر الأيام وتتلوها الأسابيع دون أن يطرق بابها أحد. لم يبق لها في الوجود ممن يتصل بها من أصدقائها وأقاربها إلا أختها وبعد مدة طويلة. إنها تنظر إلى الهاتف شبحا مزعجا في حياته إنه أخرس لا يرن جرسه أبدا. فقدت كل اتصال بالبشر فغدت في عزلتها معذبة أشد من العذاب الذي تسببه لها الأورام. يقول الطبيب إنها كانت تحدثه بكل شجاعة. وان اختيارها لم يكن وليد انهيار عصبي. وفعلا استجاب الطبيب لمساعدتها على إنهاء حياتها وضرب لها موعدا في بيتها بعد الساعة الثامنة وكان الفصل شتاء اختلطت الظلمة بالمطر فلم يستطع أن يبلغ منزل المرأة. فعاد أدراجه. وفي الغد دق جرس الهاتف فإذا هي أختها تعلمه أن المريضة انتحرت بقذف نفسها من الطابق السابع ليلا وتهشمت على الرصيف.
إن هذه الحالة ليست فريدة في دنيا العالم الذي فقد الإحساس بالترابط الإنساني وطغت فيه الأنانية إلى حدود جعلت الأصحاء والمرضى يشعرون بالانبتات رغم المدن الكبيرة والأعداد الضخمة من البشر التي تموج بها تلكم التجمعات الصورية والمساكن المندمجة في العمارات الشاهقة وتضاعف عدد الأطباء النفسانيين ومع ذلك كان العدد الضخم عاجزا عن رد التوازن المفقود. ولذا نجد الإسلام يولي عنايته هذه الناحية. ففي كل كتب الحديث تجد أحاديث عن رسول الله r تؤكد على زيارة المريض. والإمام البخاري يراها واجبة فقد عنون في صحيحه الباب الرابع كتاب المرضى باب وجوب عيادة المريض. مرجحا أن الأمر الوارد هو للوجوب في الحديث الذي رواه عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله r قال: (أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني) وحديث البراء بن عازب أن رسول الله r أمرنا أن نتبع الجنائز. ونعود المريض ونفشي السلام ثم أتبع هذا الباب بأبواب أخرى قصد التعميم. فعقد بابا لعيادة المغمى عليه وبابا لعيادة النساء الرجال. وبابا لعيادة الصبيان. وبابا لعيادة الأعراب. وبابا لعيادة المشرك وغير ذلك من الأبواب كما أخرج الأحاديث الدالة على عيادة المريض في كثير من كتب صحيحه لتلتئم مع ما أخرجه علماء الحديث في هذا المعنى ليكون منها ما يسمى بالتواتر المعنوي اليقيني.
بعض تفاصيل عن العيادة
ا) متى يعود المؤمن المريض؟
روى ابن ماجه قال حدثنا هشام بن عمار. حدثنا مسلمة بن علي حدثنا ابن جريح عن حميد الطويل عن أنر بن مالك قال: كان النبي r لا يعود مريضا إلا بعد ثلاث .
وأئمة الحديث على توهين هذا السند لأن مسلمة بن على منكر الحديث وإن رأى السندي أن أحاديثه رويت بروايات أخرى يتقوى بعضها ببعض . فالذي نطمئن إليه أن الزيارة المأمور بها مرتبطة بوضع المريض وحاجته للمواساة وما جرى من أعراف وعادات لا تصادم أصلا شرعيا.
2) ما يقوله الزائر للمريض روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله r كان إذا دخل على مريض يعوده يقول له: لا بأس طهور إن شاء الله .
وروى ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله r: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل، فإن ذلك لا يرد شيئا وهو يطيب نفس المريض) .
وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أن أباها قال تشكيت بمكة شكوى شديدة فجاءني النبي r يعودني قال ثم وضع يده على جبهته ثم مسح يده على وجهي وبطني ثم قال اللهم اشف سعدا وأتمم له هجرته فما زلت أجد برده على كبدي، فيما يخال إلي حتى الساعة.
فالهدي النبوي واضح في هذا الأمر أن الزائر يلاطف المريض بجملة من أنواع الملاطفة تشمل فيما تحمل تشجيعه على تحمل المرض بتوهين أمره وعدم خطره وبتذكيره بالأجر والثواب للمبتلي . والتقرب منه حسب مكانة الزائر دينيا واجتماعيا فما يصح لكل فرد أن يمسح بيده على وجه المريض وجسده. وإن احتج محتج بفعله r فإن بركة يد رسول الله r قد ظهرت آثارها في النماء والشفاء وأنى لغيره أن يكون مثله وإنما يفعل هذا من ترجى بركته لصلاحه وتقواه أو لكونه أصلا من أصوله.
والدعاء هو جماع الأدب وأبرز مظهر للمواساة وأقوى باعث للأمل. فقد روى البخاري عن عائشة أن رسول الله r كان إذا أتى مريضا أو أتي به إليه قال عليه الصلاة والسلام- اذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك. شفاء لا يغادر سقما .
ب- ا لعدوى
روي فى العدوى أحاديث كثيرة . بعضها يفيد بظاهرة نفى تأثير العدوى وبعضها يفيد خلاف ذلك فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال. قال رسول الله r : لا عدوى ولا صفر ولا هامة فقال أعرابي يا رسول الله فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها فقال فمن أعدى الأول؟ رواه الزهري عن أبي سلمة وسنان بن أبي سنان .
وعن أخنس أن النبي r قال : لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح .
وعن ا بن عمر أن رسول الله r قال: ( لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث: المرأة والدار والدابة) كما روي عن ابن عباس أن رسول الله r قال لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة) فذكر سماك أن صفر دابة تكون في بطن الإنسان فقال رجل يا رسول الله تكون في الإبل الجربة في المائة فتجربها قال النبي r فمن أعدى الأول.
وعن عبد الله بن مسعود. قال قام فينا رسول الله r فقال لا يعدي شيء شيئا فقام أعرابي فقال يا رسول الله النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها فقال رسول الله r فما أجرب الأول؟ لا عدوى ولا هامة ولا صفر خلق الله كل نفس فكتب حياتها و مصيبتها ورزقها. فهذه الأحاديث المروية مسندة إلى النبي r بواسطة جملة الصحابة أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك كلها تدل على نفي العدوى كما روى مسلم ومن ناحية أخرى روى البخاري. أولا عن أبي هريرة أن رسول الله r قال لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد .
وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله r لا يوردن ممرض على مصح. وأنكر أبو هريرة الحديث الأول، وقلنا ألم يحدث أنه لا عدوى؟ فرطن بالحبشية، قال أبو سلمة فما رأيته نسي حديثا غيره. وهذا الحديث الذي رواه البخاري روى مسلم ما هو أوضح منه عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثه أن رسول الله r قال لا عدوى ويحدث أن رسول الله r قال لا يورد ممرض على مصح قال أبو سلمة كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول فالهدي النبوي واضح في هذا الأمر أن الزائر يلاطف المريض بجملة مدى أنواع الملاطفة تشمل فيما تشمل تشجيعه على تحمل المرض بتوهين أمره وعدم خطره وبتذكيره بالأجر الثواب للمبتلي . والتقرب منه حسب مكانة الزائر دينيا واجتماعيا فما يصح لكل فرد أن يمسح بيده على وجه المريض وجسده. وإن احتج محتج بفعله r فإن بركة يد رسول الله r قد ظهرت آثارها في النماء والشفاء وأنى لغيره أن يكون مثله وإنما يفعل هذا من ترجى بركته لصلاحه وتقواه أو لكونه أصلا من أصوله.
والدعاء هو جماع الأدب وأبرز مظهر للمواساة وأقوى باعث للأمل. فقد روى البخاري عن عائشة أن رسول الله r كان إذا أتى مريضا أو أتي به إليه قال عليه الصلاة والسلام- اذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك . شفاء لا يغادر سقما.
ب- العدوى
روي في العدوى أحاديث كثرة . بعضها يفيد بظاهره نفي تأثير العدوى وبعضها يفيد خلاف ذلك فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال. قال رسول الله r لا عدوى ولا صفر ولا هامة فقال أعرابي يا رسول الله فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها فيجربها فقال فمن أعدى الأول؟ رواه الزهري عن أبي سلمة وسنان بن أبي سنان .
وعن أخنس أن النبي جمح قال. لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل الصالح .
وعن ابن عمر أن رسول الله r قال: لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث: المرأة والدار والدابة) كما روي عن ابن عباس أن رسول الله r قال (لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولاهامة) فذكر سماك أن صفر دابة تكون في بطن الإنسان فقال رجل يا رسول الله تكون في الإبل الجربة المائة فتجربها قال النبي r فمن أعدى الأول .
وعن عبد الله بن مسعود. قال قام فينا رسول الله r فقال لا يعدي شيء شيئا فقام أعرابي فقال يا رسول الله النقبة من الجرب تكون بمشافر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها فقال رسول الله r فما أجرب الأول؟ لا عدوى ولا هامة ولا صفر خلق الله كل نفس فكتب حياتها و مصيبتها ورزقها. فهذه الأحاديث المرونة مسندة إلى النبي جمع بواسطة جملة الصحابة أبي هريرة وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك كلها تدل على نفي العدوى كما روى مسلم ومن ناحية أخرى روى البخاري. أولا عن أبي هريرة أن رسول الله r قال لا عدوى ولا طيرة ولا طامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد .

وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله r لا يوردن ممرض على مصح. وأنكر ألو هريرة الحديث الأول، وقلنا ألم يحدث أنه لا عدوى؟ فرط بالحبشية،، قال أبو سلمة فما رأيته نسي حديثا غيره. وهذا الحديث الذي رواه البخاري روى مسلم ما هو أوضح منه عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثه أن رسول الله r قال لا عدوى ويحدث أن رسول الله r قال لا يورد ممرض على مصح قال أبو سلمة كان أبو هريرة يحدثهما كليهما عن رسول الله r ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى وأقام على أن لا يورد ممرض على مصح قال فقال الحارث بن أبي ذياب وهو ابن عم أبي هريرة قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديثا آخر قد سكت عنه كنت تقول قال رسول الله r لا عدوى فأبى أبو هريرة أن يعرف ذلك وقال لا يورد مرض على مصح فماراه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة فرطن بالحبشية ققال للحارث أتدري ماذا قلت؟ قال لا. قال أبو هريرة قلت. أبيت. قال أبو سلمة ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله r قال لا عدوى فلا أدري أنسي أبو هريرة أم أحد المقولين الآخر .
كما روى النسائي وأحمد عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال قدم وفد من ثقيف ليبايع وكان فيهم رجل مجذوم قال فأتيت النبي r ذلك له فقال ائته فأخبره أني قد بايعته فليرجع.
كما روى مالك بسنده إلى إبن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال يا أمة الله لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك. فجلست فمر بها رجل بعد ذلك فقال لها إن الذي قد نهاك قد مات فاخرجي فقالت: ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا.
إن ظاهر هذه الأحاديث أن بينها تعارضا إذ القسم الأول ينفي العدوى والأحاديث الثانية تثبت العدوى: ولنتتبع موقف العلماء من هذا الظاهر.
قبل كل شيء لابد من معرفة ما تسلط عليه النفي في قوله r لا عدوى. فإن حملنا النفي على نفي ذات العدوى كانت الأحاديث متناقضة ولا يمكن أن يكون الثاني ناسخا فعمدوا إلى التأويل: إن العدوى معدومة وإن النهي عن إيراد الممرض عن المصح والفرار من المجذوم خوف أن يمرض الصحيح فيسوء اعتقاده بتأثير العدوى وهذا مذهب جمهور المحدثين.
وذهب المحققون إلى أن النفس ليس للذات وإنما هو نفي مسلط على مقدر. (من باب دلالة الاقتضاء) تأثير أي نفي ما يعتقدونه من أن بعض العلل مؤثرة بنفسها في نقل المرض. فبدت لهم أن المرض إنما هو بقدر الله وقدرته وهذا ما يشير إليه قوله r فمن أعدى الأول؟
ونكمل هذا المفهوم من ناحية أخرى هو أن الله تعالى أجرى أمور الكون على أسباب ربط بحكمته بينها وبين مسبباتها على أن معنى القربان أن المجذوم ونحوه هو سبب ظاهر في ناقل المرض وليس سببا موجبا إذ الفاعل الحقيقي هو الله تعالى. ومن حكمة المؤمن أن يتقي الشبهات والريبة سواء في الأمور المادية أو في الأفعال.
قال الطيبي : العدوى تجاوز العلة، والأطباء يجعلون ذلك في سبع علل : الجذام والجرب والحصبة والبخر والرمد والأمراض الوبائية.
قالت الأبي: ورجح القول الأخير لأنه يجمع بين الأحاديث وأيضا فإن القول الأول يفضي إلى تعطيل الأصول الطبية ولم يرد الشرع بإبطالها بل ورد باعتبارها على وجه لا يناقض التوحيد ولا مناقضة على الوجه المذكور.. وأيضا فإن حديث ابن عباس يؤكد هذا الفهم فالزيادة التي في آخره: (خلق الله كل نفس فكتب حياتها ومصيبتها ورزقها. تدل هذه الزيادة على أن سور النفي المسلط على العدوى وما عطف عليه ليس ننمي الذات وإنما هو نفي التأثير الذاتي لإثبات أن الأسباب تتحرك لتولد ما تولده حسب القدر السابق.
مما روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله أن رسول الله r أخذ بيد مجذوم فأدخله معه القصعة. ثم قال قل بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه، وعلق عليه ابن العربي: إن النفوس تعاف مخالطة أهل الأدواء. وإن كان لا يعدي داء على صحة. وإن كان الله قد أجرى العادة بتضرر الصحيح بالسقيم ولكنه يضر الخلق عادة لا وجوبا. وأمرهم بعد ذلك بالتحرز.
إن علاقة المريض- بالأصحاء من خلال النصوص التي عرضناها تبدو متجهة إلى القضاء على عقدة الخوف من الإنسان. خوفه من الموت إذا كان مريضا وخوفه من إصابته بالمرض إذا كان صحيحا. وهذه ناحية هامة في توازن شخصية المسلم في حالتي السقم والصحة إذ يساعده العطف والكلام الطيب المتمثل في التخفيف عليه من حدة المرض (التنفيس في الأجل) والاعتقاد بأن الضر والنفع بيد الله وليس للعدوى أثر لابد منه، يساعده على التحصن بالشجاعة في مقاومة المرض. وعدم الهلع عند انتظار الأوبئة والأمراض المعدية وكم كشف الأطباء عن مرضى يحسون بآلام مختلفة وقد تكون مبرحة وما هي إلا من خداع النفس عندما تنهار ويحيط بها الخوف.
ثانيا الممرضون:
نني بالممرضين طائفة خاصة رزقوا قدرة على التأثير في غيرهم. إما تخريبا لصحتهم وإما إصلاحا لما اختل من استقامة البدن والروح.
ا) الطائفة المخربة تشمل العائنين والسحرة
أثبتت السنة أن العين تؤثر في الإنسان فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله r قال العين حق .
وروى مالك في موطئه عن محمد بن أبي أسامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول اغتسل أبي بالخرار (موضع قرب رابغ) فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر قال: وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة : ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء قال: فوعك سهل مكانه واشتد وعكه. فأتي رسول الله r فأخبر أن سهلا وعك. وأنه غير رائح معك يا رسول الله فأتاه رسول الله له فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر بن ربيعة فقال رسول الله r علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت إن العين حق توضأ له. فتوضأ له عامر فراح سهل مع رسول الله r . ليس به بأس.
إن هذه الأحاديث تثبت تأثير العنت بقدر الله قطعا. وأن التبريك يدفع الضرر. يقول أبو عمر بن عبد البر. والتبريك أن يقول. تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه .
يقول المازري . أنكر العين طوائف من المبتدعة ويرد عليهم أن ما ليس بحال في نسه. ولا يصدق إلى مخالفة دليا هو جائز وإذا أخبر الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا فرق بين التكذيب به والتكذيب بشيء من أحوال الآخرة وزعم بعض الطبائعيين المثبتين للعين أن العائن تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعيون فيهلك أو يفسد قالوا ولا يستند هذا كما لا يستنكر انبعاث ذلك من الأفعى والعقرب ثم أنكر عليهم التعبير بكلمة قوة ثم قال وأقرب طريق اقتحمها من ينتمي للإسلام أن قالوا غير بعيد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية تتصل بالمعيون وتتخلل مسام جسمه فيخلق الله سبحانه الضرر عندها. وعقب على ذلك بأن هذا ممكن لا دليل عليه .
وقد نقل العلماء ما يؤكدها وقع لسهل بن حنيف فقد ذكر ابن عبد البر أن سعد بن أبي وقاص خرج يوما وهو الكوفة فنظرت إليه امرأة فقالت إن أميركم هذا لأهضم الكشحين فعانته فرجع إلى منزله فوعك ثم إنه بلغه ما قالت فأرسل إليها فغسلت أطرافها ثم اغتسل به فذهب ذلك عنه وقال عن المدائني عن الأصمعي قال حج هشام بن عبد الملك فأتى المدينة فدخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر فلما خرج من عنده قال هشام لا رأيت ابن سبعين أحسن كدنة منه (غلظ الجسم وكثرة اللحم) فلما صار سالم في منزله حم فقال أترون الأحول لقعني بعينيه، فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه.
وروى الأبي عن شيخه ابن عرفة، أنه كان ببجاية رجل مشهور بإصابة العين فلما رجع الأمير أبو الحسن سلطان المغرب قافلا عن أفريقية إلى المغرب في الأسطول المعروف. وكان ببجاية حينئذ أمير من قبل الموحدين فأمره هذا الأمير أن ينظر إلى ذلك الأسطول ويعينه فكان من أمر الأسطول وإتلاف أكثره ما كان .
وحاول ابن قيم الجوزية إثبات تأثير العين في المعين بأن التأثير الروحي يقيني لمن تأمل، فروح الحاسد مؤذية للمحسود. إذ تتكيف بكيفيات خاصة وتقابل السود فتؤثر بتلك الخاصية.
وإذا كان الناظرون مختلفين في القدرة على التأثير مع عدم الاتصال المباشر إثباتا ونفيا يحتج النافي بالاستحالة العادية ويحتج المثبت بالإمكان العقاب وبالخبر الصادق فإن التقنية المعاصرة قد تجاوزت ذلك إذ أخرجته من حد الفرض إلى الواقع المادي في الكون. فالاليكترون وما بلغه من مستوى في التأثير يؤيد تأييدا يرفع كل شك في التأثير مع الانفصال. فالأقمار الصناعية والكواكب الفضائية يتحكم في سيرها المراقبون في الأرض والواحد منا يتحكم في جهاز التلفاز تغييرا وإشغالا وتعطيلا بواسطة جهاز الكتروني لا يتصل الاتصال المادي. أنه كلما تقدم العلم زاد تحكم الإنسان في الكائنات الكونية دون ، احتياج إلا مباشرة فعلية.
وكما خلق الله في النفس الإعجاب بكل فائق في كماله ورتب على ذلك أن بعض المعجبين قد يؤذون ما تسلطت عليه عيونهم لخواص في تركيبهم النفسي، فإنه سبحانه حسب سننه الكونية بين للناس طرق الوقاية والعلاج.
أما الوقاية فقد علم رسول الله اسم كل من أعجب بشيء أن يذكر اسم الله ويبرك عليه ولو كان متعلق الإعجاب ذاته أو أحد أحبائه فإن ضرر العين غير مرتبط بالكراهة والبغض كما تكون الوقاية بالرقية. يدل لذلك مارواه مالك في موطئه عن حميد بن قيس المكي أنه قال دخل على رسول الله كله بابني جعفر بن أبي طالب فقل لحاضنتهما مالي أراهما ضارعين؟ فقالت يا رسول الله إنه تسرع العين إليهما، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أننا لا ندري ما يوافقك من ذلك فقال
رسول الله r استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين.
وأخرج أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى ابن عباس قال كان رسول الله r يعوذ حسنا وحسيا. (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة) ثم يقول هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ إسماعيل وإسحاق .
وأما العلاج فيكون بالوضوء وفي وصف الوضوء من أجل العين صور كثيرة أقربها إلى الصحة هي الطريقة التي رواها الرواة عن الزهري راوي حديث الوضوء من العنت. قال: يغتسل العائن في قدح من ماء يدخل يده فيه فيمضمض ويمجه في القدح ويغسل وجهه فيه ثم يصب بيده اليسرى على كفه اليمنى ثم يصب باليمنى على كفه اليسرى ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفق يده اليمنى ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى ثم يغسل قدمه اليمنى تم يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين ثم يأخذ داخلة إزاره فيصب على رأسه صبة
واحدة وإلا يضع القدح حتى يفرغ .
2) الطائفة المصلحة وهي تشمل من يقوم على تمريض المصاب. فيعنى به في مأكله ودوائه وكل ما يحتاج إليه ومن يقوم على الرقيا. يجد المتتبع للسنة صورا من هدي النبوة في معاملته للمريض.
إن أول ما يلفت النظر هو التأكيد على احترام المريض وعدم الضغط عليه لأن المريض وإن كان مختل المزاج البدني إلا أن قدرته على الاختيار باقية سليمة وهو أحرص الناس على صلاح نفسه لأن حب الحياة غريزة مركوزة في باطن كل إنسان يشعر بها ويتفاعل معها بمقدار يفوق ما يشعر به غيره نحوه.
يدل لهذا ما أخرجه البخاري في مسنده إلى عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لددنا رسول الله r في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء فقال r لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم .
واللدود هو دواء يصب في جانب الفم.
هذا الحديث يصور لنا تأديبا عمليا أذن فيه رسول لله r ليقتلع عادات وتصورات ألفوها. فعندما يلد كل فرد كما لد هو في ، الوقت الذي لا حاجة به إلى ذلك يشعر بالأمر الذي يؤلم النفس في الوقت الذي يكون المريض أحوج ما يكون إلى من يساعده على الثقة في نفسه. ولا يقتصر الهدي النبوي على الدواء بل كذلك الطعام لا يجبر عليه.
روى الترمذي عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال قالت رسول الله r ليقتلع عادات وتصورات ألفوها فعندما يلد كل فرد كما له هو في الوقت الذي لا حاجة به إلى ذلك يشعر بالأمر الذي يؤلم في الوقت الذي يكون المريض أحوج ما يكون إلى من يساعده على الثقة في نفسه . ولا يقتصر الهدى النبوي على الدواء بل كذلك الطعام لا يجبر عليه .
روى الترمذي أن الله يخلق لهم القوة الكافية عن تناول الطعام والشراب فعبر عن القوة بسببها فهو أحد قسمي المجاز.
يعلق عليه ابن القيم قائلا: وفي قوله r فإن الله يطعمهم ويسقيهم معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء لا يعرفه إلا من له عناية بأحكام القلوب والأرواح وتأثيرها في طبيعة البدن وانفعال الطبيعة عندها كما تنفعل هي عن الطبيعة ونحن نشير إليه إشارة فنقول إذا حصل لها ما يشغلها من محبوب أو مكروه أو مخوف اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب فلا تحس بجوع ولا عطش ولا حر ولا برد بل تشتغل به عن الإحساس بالمؤلم الشديد الألم فلا تحس به. وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئا منه والنفس إذا اشتغلت بما داهمها وورد عليها لم تحس بألم الجوع فإن كان الوارد مفرحا قوي التفريح قام لها مقام الغذاء وإن كان الوارد محزنا أو مخوفا اشتغلت بمحاربته فهي في حال حربها في شغل عن طلب الطعام والشراب إن ظفرت في هذه الحرب انتعشت وأخلفت عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام والشراب وإن كانت مغلوبة مقهورة انحطت قواها بحسب ما حصل لها من ذلك.
فالمريض له مدد من الله تعالى يغذيه به زائدا على ما ذكره الأطباء وذلك بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه. عز وجل فيحصل له من ذلك ما يوجب قربا من ربه فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه ، ورحمة ربه قريبا منه. فإن كان وليا له حصلت له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته وتنتعش به قواه أعظم من قوتها وانتعاشها بالأغذية البدنية وكلما قوي إيمانه وحبه لربه وأنسه به وفرحه به وقوي بيقينه بربه واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه، وجد في نفسه من هذه القوة مالا يعبر عنه ولا يدركه وصف طبيب ولا يناله علمه .
فابن القيم عمل على تقريب الحكمة التي من أجلها أرشد r إلى ترك إكراه المريض على تناول الطعام وليس معنى ذلك، أنها يقينا الحكمة التي قصدها رسول الله r كما أنها ليست الحكمة الوحيدة وعلى كل فإن في كسر نفس المريض والتقوي عليه وإلزامه مالا يرغب ولا يستطيع دفعه لوهن قواه البدنية في ذلك ضرر محقق بقدرته الباطنية وتحطيم لقواه المعنوية التي لا تعود على المريض إلا بالضر.
إن عدم الإكراه يصحبه ما قدمنا من توهين أمر المرض ، والدعاء للمريض، وتقوية طاقة تحمله بالتنفيس في أجله. وبهذا يكون الجو العام الذي يحيط بالمريض هو جو رفيق مؤنس يرتاح له المصاب يقضي على الخوف ويحقق الطمأنينة. ذلك أن الخوف يؤثر على نبضات القلب ويصحبه من الإفرازات ما يجعل الاضطراب في سير بعض الأجهزة الإنسانية يتبعه حتما اختلال في توزيع الدم على الأعضاء .
ومن ناحية أخرى فإنه مما استقر في نفس المؤمن من حسن التوكل على الله والالتجاء إليه ينفتح باب الرجاء ويقضي عن، اليأس والظلام الباطني المحبط للنشاط والمعوق للإرادة عن الفعل الباطني، يبدو ذلك في صرف الإنسان عن التفكير في أساه والسمو إلى الله مع إشراقة الرجاء. قال تعالى (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) (سورة النمل آية 62). ( وإذا مرضت فهو يشفين (الشعراء آية 80).
إنه بواسطة التحويل من الاستغراق في الإحساس بالألم إلى التوجه إلى الله لعبادته ولدعائه ثم تقبل النهاية الحتمية بأن قضاء الله يجب الرضا به يكون التعليم النبوي قد انتشل المريض من العذاب النفسي. إن آخر كلمة نطق بها رسول الله r تعلم المؤمن كيف تكون صلته بقضاء الله إنها صلة الرضا الكامل إنها الابتسامة التي تنفرج بها شفتا المؤمن عندما يودع هذه الحياة إلى الحياة الآخرة. فقد روى مسلم عن عائشة قالت لما مرض رسول الله كثر وثقل أخذت بيده لأصنع به نحوها ما كان يصنع فانتزع يده من يدي ثم قال. اللهم اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى قالت فذهبت أنظر فإذا هو قد قضى .
الرقية: هي مجموعة من التوجهات قد تصحبها إشارات وحركات يقوم بها المريض أو غيره قصد تحصيل الشفاء أو التخفيف .
والرقية قديمة عرفها العرب قبل البعثة المحمدية ولعلها من بقايا الديانة الإبراهيمية فيما بقي منها متوارثا عندهم صحفت حسب انحراف العقيدة وما لا بسها من وثنية، ونجد في السنة النبوية الصحيحة أحاديث تأذن بالرقية وأحاديث يفهم منها النبي عن الرقية.
فمن الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم الإذن ، الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي r (عرضت علي الأمم فأجد النبي يمر معه الأمة والنبي يمر معه النفر والنبي يمر معه العشر والنبي يمر معه الخمسة والنبي يمر وحده فنظرت فإذا سواد كثير قلت يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال لا ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد كثير قال هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب قلت: ولم؟، قال: كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام إليه عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال (اللهم اجعله منهم) ثم قام إليه رجل) آخر قال ادع الله أن يجعلني منهم قال (سبقك بها عكاشة) .
الحديث يدل بظاهره على أن الذين لا يسترقون لهم ميزة يوم القيامة تتمثل في السبق إلى الجنة بدون حساب فمعنى هذا أن الذين يسترقون أحط رتبة منهم والنزول عن مراتب الكرامة لا يكون أثرا للحلال والمندوب والواجب وإنما هو للمكروه والحرام وهذا الظاهر يعارضه أحاديث أخرى جاءت في تفصيل الرقية وأنه r فعلها وأقر عليها وأذن بها. فقد اجتمعت في الرقية ضروب الهداية بالسنة من جميع وجوهها القول والفعل والإقرار ويستحيل أن يكون الأمر الواحد مأمورا به منهيا عنه فلابد من تعميق النظر للجمع بين النصوص.
نقل عياض عن الداودي أن النهي عن الرقية هو منصب على من يفعل ذلك في الصحة معناه اتخاذ الرقية وسيلة وقاية.، وهذا تأويل لا يدل عليه الحديث وزيادة غير مستندة لأصل وثانيا فقد وردت أحاديث صحيحة تدل على أن الرقية قد أذن فيها في الصحة كما سيأتي.
تم ذكر أن الحديث لا يحوج إلا التأويل لأن النبي r لم يذم من قال بالكي والرقى وإنما أخبر عن كرامة السبعين ألفا من أمته قاله على وجه التفسير لهـم. هم كذا وليس السبب من كرامتهم تجنبهم اعتقاد نفع الأدوية.
وتعقب الأبي هذا التوجيه أن الحديث عند من أخذ منه الكراهة خرج مخرج المدحة على الترك وهو خاصية المكروه لا مخرج التفسير والرد عليه بأنه لم يذم لا يتم لأن الذم على الفعل خاصية المحرم ، والذي يظهر لي أن المزية لا توجب الأفضلية فليس معنى الحديث أنهم أفضل من غيرهم بل قد يكون أن هؤلاء الذين جمعوا بين الصفات الواردة في الحديث (1) لا يكتوون (2) لا يتطيرون (3) لا يسترقون (4) يتوكلون على الله حق التوكل قد وعدهم الله مما وعدهم الله مع أنه يمكن أن يكون غيرهم أفضل منهم وهو لا يدل على الكراهية كما روى أبو داود عن رسول الله r لا رقية إلا من عين أو حمة وقد أجاب عن هذا الحديث ابن القيم في زاد المعاد وفي الطب النبوي بأن محمله على الأولوية أي لا رقية أنفع من رقية العين والحمة.
وأما الأحاديث الدالة على الرقية فكثيرة جدا مروية صت عائشة وعن أسماء بنت عميس وعن جابر وعوف بن مالك الأشجعي وعثمان بن أبي العاص الثقفي وعن أم سلمة وعن أنس بن مالك وعن الشفاء بنت عبد الله وصف سهل بن حنيف، وعن أبي هريرة وعن ابن عباس وعن ميمونة بنت أبي عسيب وعن كعب بن مالك وعن أبي سعيد الخدري وعن عبادة بن الصامت وعن أبي الدرداء وعن رافع بن خديج وعن ابن عمر وعن جبلة بن الأزرق وعن عمار بن ياسر وعن علي بن أبي طالب وعن الحارث بن عمرو البرجمي وعن بديل بن عمرو الخطمي وعن محمد بن حاطب.
هؤلاء الصحابة وغيرهم رووا أحاديث عن رسول الله r كلها تثبت صيغا من الرقى أو تنقل إذنا منه في الرقية كما وقع ولآل حزم وخال جابر وعوف بن مالك الأشجعي كما رواه مسلم في صحيحه .
وكما ثبت عن رسول الله r الرقية بعد الإصابة روي عنه الرقية المحصنة من الإصابة فقد روت عائشة عن النبي r أنه كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقُل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل به ذلك.
وناحية أخرى أرشد إليها رسول الله r هي الاستقرار النفسي بالرقية مع عدم المرض ولكن من أجل التشويش الذي يحصل في العقل فقد روى مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي r فقال يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله r ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا ففعلت ذلك فأذهبه الله عني .
كما روى البيهقي عن أبي العالية أن خالد بن الوليد قال يا رسول الله إن كائدا من الجن يكيدني قال. (قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر ما يعرج في السماء وما ينزل منها ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان (قال ففعلت ذلك فأذهب الله عني .
إن كل الرقى التي رويت عن رسول الله جميع ، تؤكد صلة المسلم بربه وتزيده وثوقا بأنه غير مهمل وأن حفظ الله يرعاه وأن عونه يسعده وأن قدرته لا يعجزها أمره وأن رحمته تسع كل داء فتشفيه إذا ما تعلقت الإرادة وسبق القضاء وهي بهذا تفارق كل ما عرف من الرقى الجاهلية التي كانت تعتمد الكهانة والكلام غير الواضح والطلاسم أو التقرب للأرواح الشريرة واستعطافها لتزيح غضبها كما أنه من ناحية أخرى أزال الاختصاص الذي كان يدعيه بعض البشر من اقتدارهم على طرد الأرواح الشريرة إذا وصل بين المؤمن وبين ربه يدعوه بكلام واضح ويلجأ إليه بقلب واتق في الرحمة الربانية.
وأعظم من كل ذلك ما أكد عليه الإسلام فجعله الركن الثاني من أركان هذا الدين أعني الصلاة.
إن الصلاة كما يتقدمها من طهارة وإقامة تساعدان على التركيز والتحول والسمو وما تألفت ومنه من نية وأقوال واضحة وأفعال أن تصحبها أقوال لتعتبر أفضل ما يعيد للإنسان طمأنينته ويرخي توتره الباطني ويعطيه مناسبة للاعتدال النفسي بل حتى المادي.
كتب الصحفي كينيث بريغر، بصحيفة النيورك تايمز فصلا عن الصلاة كان ما جاء فيه أن الدكتور هوبرت بنسون أخصائي القلب وضغط الدم بهيئة التدريس بكلية الطب بجامعة هارفارد قال : إن ممارسة الصلاة يمكن أن تخفض ضربات القلب وضغط الدم والأيض ومن ثم تخفض من مستويات التوتر وأوصى لمرضاه بتكرار كلمة أحد في حالة من سلبية كاملة للعقل مدة 20 دقيقة كل صباح وكل مساء ثم يقول كيف يحدث هذا؟ نحن لا نعرف لكن هناك صفاء العقل وتخفيض ملموس في التوتر وتوسيع القدرة على الإبداع لدى كثير من الناس.
وإن تربية المؤمن التي كون عليها رسول الله r المؤمنين لتمثل في الاتصال الدائم بالله ذكرا له ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (الرعد 28). واستسلاما رضيا إلى عزته ورعايته ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (الأنعام آية 162- 163). وإن هذا الإسلام إلى الله هو سنة المرسلين. كما جاء على لسان إبراهيم ( الذي خلقني فهو يهدينِ والذي هو يطعمني ويسقينِ وإذا مرضت فهو يشفين ) (الشعراء: 78، 79، 0 8).
كما روى النسائي وأحمد عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال قدم وفد من ثقيف ليبايع وكان فيهم رجل مجذوم قال فأتيت النبي r ذلك له فقال ائته فأخبره أني قد بايعته فليرجع.
كما روى مالك بسنده إلى إبن أبي مليكة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بامرأة مجذومة وهي تطوف بالبيت فقال يا أمة الله لا تؤذي الناس لو جلست في بيتك. فجلست فمر بها رجل بعد ذلك فقال لها إن الذي قد نهاك قد مات فاخرجي فقالت: ما كنت لأطيعه حيا وأعصيه ميتا.
إن ظاهر هذه الأحاديث أن بينها تعارضا إذ القسم الأول ينفي العدوى والأحاديث الثانية تثبت العدوى: ولنتتبع موقف العلماء من هذا الظاهر.
قبل كل شيء لابد من معرفة ما تسلط عليه النفي في قوله r لا عدوى. فإن حملنا النفي على نفي ذات العدوى كانت الأحاديث متناقضة ولا يمكن أن يكون الثاني ناسخا فعمدوا إلى التأويل: إن العدوى معدومة وإن النهي عن إيراد الممرض عن المصح والفرار من المجذوم خوف أن يمرض الصحيح فيسوء اعتقاده بتأثير العدوى وهذا مذهب جمهور المحدثين.
وذهب المحققون إلى أن النفس ليس للذات وإنما هو نفي مسلط على مقدر. (من باب دلالة الاقتضاء) تأثير أي نفي ما يعتقدونه من أن بعض العلل مؤثرة بنفسها في نقل المرض. فبدت لهم أن المرض إنما هو بقدر الله وقدرته وهذا ما يشير إليه قوله r فمن أعدى الأول؟
ونكمل هذا المفهوم من ناحية أخرى هو أن الله تعالى أجرى أمور الكون على أسباب ربط بحكمته بينها وبين مسبباتها على أن معنى القربان أن المجذوم ونحوه هو سبب ظاهر في ناقل المرض وليس سببا موجبا إذ الفاعل الحقيقي هو الله تعالى. ومن حكمة المؤمن أن يتقي الشبهات والريبة سواء في الأمور المادية أو في الأفعال.
قال الطيبي : العدوى تجاوز العلة، والأطباء يجعلون ذلك في سبع علل : الجذام والجرب والحصبة والبخر والرمد والأمراض الوبائية.
قالت الأبي: ورجح القول الأخير لأنه يجمع بين الأحاديث وأيضا فإن القول الأول يفضي إلى تعطيل الأصول الطبية ولم يرد الشرع بإبطالها بل ورد باعتبارها على وجه لا يناقض التوحيد ولا مناقضة على الوجه المذكور.. وأيضا فإن حديث ابن عباس يؤكد هذا الفهم فالزيادة التي في آخره: (خلق الله كل نفس فكتب حياتها ومصيبتها ورزقها. تدل هذه الزيادة على أن سور النفي المسلط على العدوى وما عطف عليه ليس ننمي الذات وإنما هو نفي التأثير الذاتي لإثبات أن الأسباب تتحرك لتولد ما تولده حسب القدر السابق.
مما روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله أن رسول الله r أخذ بيد مجذوم فأدخله معه القصعة. ثم قال قل بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه، وعلق عليه ابن العربي: إن النفوس تعاف مخالطة أهل الأدواء. وإن كان لا يعدي داء على صحة. وإن كان الله قد أجرى العادة بتضرر الصحيح بالسقيم ولكنه يضر الخلق عادة لا وجوبا. وأمرهم بعد ذلك بالتحرز.
إن علاقة المريض- بالأصحاء من خلال النصوص التي عرضناها تبدو متجهة إلى القضاء على عقدة الخوف من الإنسان. خوفه من الموت إذا كان مريضا وخوفه من إصابته بالمرض إذا كان صحيحا. وهذه ناحية هامة في توازن شخصية المسلم في حالتي السقم والصحة إذ يساعده العطف والكلام الطيب المتمثل في التخفيف عليه من حدة المرض (التنفيس في الأجل) والاعتقاد بأن الضر والنفع بيد الله وليس للعدوى أثر لابد منه، يساعده على التحصن بالشجاعة في مقاومة المرض. وعدم الهلع عند انتظار الأوبئة والأمراض المعدية وكم كشف الأطباء عن مرضى يحسون بآلام مختلفة وقد تكون مبرحة وما هي إلا من خداع النفس عندما تنهار ويحيط بها الخوف.
ثانيا الممرضون:
نني بالممرضين طائفة خاصة رزقوا قدرة على التأثير في غيرهم. إما تخريبا لصحتهم وإما إصلاحا لما اختل من استقامة البدن والروح.
ا) الطائفة المخربة تشمل العائنين والسحرة
أثبتت السنة أن العين تؤثر في الإنسان فروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله r قال العين حق .
وروى مالك في موطئه عن محمد بن أبي أسامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول اغتسل أبي بالخرار (موضع قرب رابغ) فنزع جبة كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر قال: وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد قال فقال له عامر بن ربيعة : ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء قال: فوعك سهل مكانه واشتد وعكه. فأتي رسول الله r فأخبر أن سهلا وعك. وأنه غير رائح معك يا رسول الله فأتاه رسول الله له فأخبره سهل بالذي كان من شأن عامر بن ربيعة فقال رسول الله r علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت إن العين حق توضأ له. فتوضأ له عامر فراح سهل مع رسول الله r . ليس به بأس.
إن هذه الأحاديث تثبت تأثير العنت بقدر الله قطعا. وأن التبريك يدفع الضرر. يقول أبو عمر بن عبد البر. والتبريك أن يقول. تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه .
يقول المازري . أنكر العين طوائف من المبتدعة ويرد عليهم أن ما ليس بحال في نسه. ولا يصدق إلى مخالفة دليا هو جائز وإذا أخبر الشارع بوقوعه وجب اعتقاده ولا فرق بين التكذيب به والتكذيب بشيء من أحوال الآخرة وزعم بعض الطبائعيين المثبتين للعين أن العائن تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعيون فيهلك أو يفسد قالوا ولا يستند هذا كما لا يستنكر انبعاث ذلك من الأفعى والعقرب ثم أنكر عليهم التعبير بكلمة قوة ثم قال وأقرب طريق اقتحمها من ينتمي للإسلام أن قالوا غير بعيد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية تتصل بالمعيون وتتخلل مسام جسمه فيخلق الله سبحانه الضرر عندها. وعقب على ذلك بأن هذا ممكن لا دليل عليه .
وقد نقل العلماء ما يؤكدها وقع لسهل بن حنيف فقد ذكر ابن عبد البر أن سعد بن أبي وقاص خرج يوما وهو الكوفة فنظرت إليه امرأة فقالت إن أميركم هذا لأهضم الكشحين فعانته فرجع إلى منزله فوعك ثم إنه بلغه ما قالت فأرسل إليها فغسلت أطرافها ثم اغتسل به فذهب ذلك عنه وقال عن المدائني عن الأصمعي قال حج هشام بن عبد الملك فأتى المدينة فدخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر فلما خرج من عنده قال هشام لا رأيت ابن سبعين أحسن كدنة منه (غلظ الجسم وكثرة اللحم) فلما صار سالم في منزله حم فقال أترون الأحول لقعني بعينيه، فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه.
وروى الأبي عن شيخه ابن عرفة، أنه كان ببجاية رجل مشهور بإصابة العين فلما رجع الأمير أبو الحسن سلطان المغرب قافلا عن أفريقية إلى المغرب في الأسطول المعروف. وكان ببجاية حينئذ أمير من قبل الموحدين فأمره هذا الأمير أن ينظر إلى ذلك الأسطول ويعينه فكان من أمر الأسطول وإتلاف أكثره ما كان .
وحاول ابن قيم الجوزية إثبات تأثير العين في المعين بأن التأثير الروحي يقيني لمن تأمل، فروح الحاسد مؤذية للمحسود. إذ تتكيف بكيفيات خاصة وتقابل السود فتؤثر بتلك الخاصية.
وإذا كان الناظرون مختلفين في القدرة على التأثير مع عدم الاتصال المباشر إثباتا ونفيا يحتج النافي بالاستحالة العادية ويحتج المثبت بالإمكان العقاب وبالخبر الصادق فإن التقنية المعاصرة قد تجاوزت ذلك إذ أخرجته من حد الفرض إلى الواقع المادي في الكون. فالاليكترون وما بلغه من مستوى في التأثير يؤيد تأييدا يرفع كل شك في التأثير مع الانفصال. فالأقمار الصناعية والكواكب الفضائية يتحكم في سيرها المراقبون في الأرض والواحد منا يتحكم في جهاز التلفاز تغييرا وإشغالا وتعطيلا بواسطة جهاز الكتروني لا يتصل الاتصال المادي. أنه كلما تقدم العلم زاد تحكم الإنسان في الكائنات الكونية دون ، احتياج إلا مباشرة فعلية.
وكما خلق الله في النفس الإعجاب بكل فائق في كماله ورتب على ذلك أن بعض المعجبين قد يؤذون ما تسلطت عليه عيونهم لخواص في تركيبهم النفسي، فإنه سبحانه حسب سننه الكونية بين للناس طرق الوقاية والعلاج.
أما الوقاية فقد علم رسول الله اسم كل من أعجب بشيء أن يذكر اسم الله ويبرك عليه ولو كان متعلق الإعجاب ذاته أو أحد أحبائه فإن ضرر العين غير مرتبط بالكراهة والبغض كما تكون الوقاية بالرقية. يدل لذلك مارواه مالك في موطئه عن حميد بن قيس المكي أنه قال دخل على رسول الله كله بابني جعفر بن أبي طالب فقل لحاضنتهما مالي أراهما ضارعين؟ فقالت يا رسول الله إنه تسرع العين إليهما، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أننا لا ندري ما يوافقك من ذلك فقال
رسول الله r استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين.
وأخرج أبو عمر بن عبد البر بسنده إلى ابن عباس قال كان رسول الله r يعوذ حسنا وحسيا. (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة) ثم يقول هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ إسماعيل وإسحاق .
وأما العلاج فيكون بالوضوء وفي وصف الوضوء من أجل العين صور كثيرة أقربها إلى الصحة هي الطريقة التي رواها الرواة عن الزهري راوي حديث الوضوء من العنت. قال: يغتسل العائن في قدح من ماء يدخل يده فيه فيمضمض ويمجه في القدح ويغسل وجهه فيه ثم يصب بيده اليسرى على كفه اليمنى ثم يصب باليمنى على كفه اليسرى ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفق يده اليمنى ثم بيده اليمنى على مرفق يده اليسرى ثم يغسل قدمه اليمنى تم يدخل اليمنى فيغسل قدمه اليسرى ثم يدخل يده اليمنى فيغسل الركبتين ثم يأخذ داخلة إزاره فيصب على رأسه صبة
واحدة وإلا يضع القدح حتى يفرغ .
2) الطائفة المصلحة وهي تشمل من يقوم على تمريض المصاب. فيعنى به في مأكله ودوائه وكل ما يحتاج إليه ومن يقوم على الرقيا. يجد المتتبع للسنة صورا من هدي النبوة في معاملته للمريض.
إن أول ما يلفت النظر هو التأكيد على احترام المريض وعدم الضغط عليه لأن المريض وإن كان مختل المزاج البدني إلا أن قدرته على الاختيار باقية سليمة وهو أحرص الناس على صلاح نفسه لأن حب الحياة غريزة مركوزة في باطن كل إنسان يشعر بها ويتفاعل معها بمقدار يفوق ما يشعر به غيره نحوه.
يدل لهذا ما أخرجه البخاري في مسنده إلى عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لددنا رسول الله r في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء فقال r لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم .
واللدود هو دواء يصب في جانب الفم.
هذا الحديث يصور لنا تأديبا عمليا أذن فيه رسول لله r ليقتلع عادات وتصورات ألفوها. فعندما يلد كل فرد كما لد هو في ، الوقت الذي لا حاجة به إلى ذلك يشعر بالأمر الذي يؤلم النفس في الوقت الذي يكون المريض أحوج ما يكون إلى من يساعده على الثقة في نفسه. ولا يقتصر الهدي النبوي على الدواء بل كذلك الطعام لا يجبر عليه.
روى الترمذي عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال قالت رسول الله r ليقتلع عادات وتصورات ألفوها فعندما يلد كل فرد كما له هو في الوقت الذي لا حاجة به إلى ذلك يشعر بالأمر الذي يؤلم في الوقت الذي يكون المريض أحوج ما يكون إلى من يساعده على الثقة في نفسه . ولا يقتصر الهدى النبوي على الدواء بل كذلك الطعام لا يجبر عليه .
روى الترمذي أن الله يخلق لهم القوة الكافية عن تناول الطعام والشراب فعبر عن القوة بسببها فهو أحد قسمي المجاز.
يعلق عليه ابن القيم قائلا: وفي قوله r فإن الله يطعمهم ويسقيهم معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء لا يعرفه إلا من له عناية بأحكام القلوب والأرواح وتأثيرها في طبيعة البدن وانفعال الطبيعة عندها كما تنفعل هي عن الطبيعة ونحن نشير إليه إشارة فنقول إذا حصل لها ما يشغلها من محبوب أو مكروه أو مخوف اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب فلا تحس بجوع ولا عطش ولا حر ولا برد بل تشتغل به عن الإحساس بالمؤلم الشديد الألم فلا تحس به. وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئا منه والنفس إذا اشتغلت بما داهمها وورد عليها لم تحس بألم الجوع فإن كان الوارد مفرحا قوي التفريح قام لها مقام الغذاء وإن كان الوارد محزنا أو مخوفا اشتغلت بمحاربته فهي في حال حربها في شغل عن طلب الطعام والشراب إن ظفرت في هذه الحرب انتعشت وأخلفت عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام والشراب وإن كانت مغلوبة مقهورة انحطت قواها بحسب ما حصل لها من ذلك.
فالمريض له مدد من الله تعالى يغذيه به زائدا على ما ذكره الأطباء وذلك بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه. عز وجل فيحصل له من ذلك ما يوجب قربا من ربه فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه ، ورحمة ربه قريبا منه. فإن كان وليا له حصلت له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته وتنتعش به قواه أعظم من قوتها وانتعاشها بالأغذية البدنية وكلما قوي إيمانه وحبه لربه وأنسه به وفرحه به وقوي بيقينه بربه واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه، وجد في نفسه من هذه القوة مالا يعبر عنه ولا يدركه وصف طبيب ولا يناله علمه .
فابن القيم عمل على تقريب الحكمة التي من أجلها أرشد r إلى ترك إكراه المريض على تناول الطعام وليس معنى ذلك، أنها يقينا الحكمة التي قصدها رسول الله r كما أنها ليست الحكمة الوحيدة وعلى كل فإن في كسر نفس المريض والتقوي عليه وإلزامه مالا يرغب ولا يستطيع دفعه لوهن قواه البدنية في ذلك ضرر محقق بقدرته الباطنية وتحطيم لقواه المعنوية التي لا تعود على المريض إلا بالضر.
إن عدم الإكراه يصحبه ما قدمنا من توهين أمر المرض ، والدعاء للمريض، وتقوية طاقة تحمله بالتنفيس في أجله. وبهذا يكون الجو العام الذي يحيط بالمريض هو جو رفيق مؤنس يرتاح له المصاب يقضي على الخوف ويحقق الطمأنينة. ذلك أن الخوف يؤثر على نبضات القلب ويصحبه من الإفرازات ما يجعل الاضطراب في سير بعض الأجهزة الإنسانية يتبعه حتما اختلال في توزيع الدم على الأعضاء .
ومن ناحية أخرى فإنه مما استقر في نفس المؤمن من حسن التوكل على الله والالتجاء إليه ينفتح باب الرجاء ويقضي عن، اليأس والظلام الباطني المحبط للنشاط والمعوق للإرادة عن الفعل الباطني، يبدو ذلك في صرف الإنسان عن التفكير في أساه والسمو إلى الله مع إشراقة الرجاء. قال تعالى (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) (سورة النمل آية 62). ( وإذا مرضت فهو يشفين (الشعراء آية 80).
إنه بواسطة التحويل من الاستغراق في الإحساس بالألم إلى التوجه إلى الله لعبادته ولدعائه ثم تقبل النهاية الحتمية بأن قضاء الله يجب الرضا به يكون التعليم النبوي قد انتشل المريض من العذاب النفسي. إن آخر كلمة نطق بها رسول الله r تعلم المؤمن كيف تكون صلته بقضاء الله إنها صلة الرضا الكامل إنها الابتسامة التي تنفرج بها شفتا المؤمن عندما يودع هذه الحياة إلى الحياة الآخرة. فقد روى مسلم عن عائشة قالت لما مرض رسول الله كثر وثقل أخذت بيده لأصنع به نحوها ما كان يصنع فانتزع يده من يدي ثم قال. اللهم اغفر لي واجعلني مع الرفيق الأعلى قالت فذهبت أنظر فإذا هو قد قضى .
الرقية: هي مجموعة من التوجهات قد تصحبها إشارات وحركات يقوم بها المريض أو غيره قصد تحصيل الشفاء أو التخفيف .
والرقية قديمة عرفها العرب قبل البعثة المحمدية ولعلها من بقايا الديانة الإبراهيمية فيما بقي منها متوارثا عندهم صحفت حسب انحراف العقيدة وما لا بسها من وثنية، ونجد في السنة النبوية الصحيحة أحاديث تأذن بالرقية وأحاديث يفهم منها النبي عن الرقية.
فمن الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم الإذن ، الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي r (عرضت علي الأمم فأجد النبي يمر معه الأمة والنبي يمر معه النفر والنبي يمر معه العشر والنبي يمر معه الخمسة والنبي يمر وحده فنظرت فإذا سواد كثير قلت يا جبريل هؤلاء أمتي؟ قال لا ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد كثير قال هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب قلت: ولم؟، قال: كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام إليه عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال (اللهم اجعله منهم) ثم قام إليه رجل) آخر قال ادع الله أن يجعلني منهم قال (سبقك بها عكاشة) .
الحديث يدل بظاهره على أن الذين لا يسترقون لهم ميزة يوم القيامة تتمثل في السبق إلى الجنة بدون حساب فمعنى هذا أن الذين يسترقون أحط رتبة منهم والنزول عن مراتب الكرامة لا يكون أثرا للحلال والمندوب والواجب وإنما هو للمكروه والحرام وهذا الظاهر يعارضه أحاديث أخرى جاءت في تفصيل الرقية وأنه r فعلها وأقر عليها وأذن بها. فقد اجتمعت في الرقية ضروب الهداية بالسنة من جميع وجوهها القول والفعل والإقرار ويستحيل أن يكون الأمر الواحد مأمورا به منهيا عنه فلابد من تعميق النظر للجمع بين النصوص.
نقل عياض عن الداودي أن النهي عن الرقية هو منصب على من يفعل ذلك في الصحة معناه اتخاذ الرقية وسيلة وقاية.، وهذا تأويل لا يدل عليه الحديث وزيادة غير مستندة لأصل وثانيا فقد وردت أحاديث صحيحة تدل على أن الرقية قد أذن فيها في الصحة كما سيأتي.
تم ذكر أن الحديث لا يحوج إلا التأويل لأن النبي r لم يذم من قال بالكي والرقى وإنما أخبر عن كرامة السبعين ألفا من أمته قاله على وجه التفسير لهـم. هم كذا وليس السبب من كرامتهم تجنبهم اعتقاد نفع الأدوية.
وتعقب الأبي هذا التوجيه أن الحديث عند من أخذ منه الكراهة خرج مخرج المدحة على الترك وهو خاصية المكروه لا مخرج التفسير والرد عليه بأنه لم يذم لا يتم لأن الذم على الفعل خاصية المحرم ، والذي يظهر لي أن المزية لا توجب الأفضلية فليس معنى الحديث أنهم أفضل من غيرهم بل قد يكون أن هؤلاء الذين جمعوا بين الصفات الواردة في الحديث (1) لا يكتوون (2) لا يتطيرون (3) لا يسترقون (4) يتوكلون على الله حق التوكل قد وعدهم الله مما وعدهم الله مع أنه يمكن أن يكون غيرهم أفضل منهم وهو لا يدل على الكراهية كما روى أبو داود عن رسول الله r لا رقية إلا من عين أو حمة وقد أجاب عن هذا الحديث ابن القيم في زاد المعاد وفي الطب النبوي بأن محمله على الأولوية أي لا رقية أنفع من رقية العين والحمة.
وأما الأحاديث الدالة على الرقية فكثيرة جدا مروية صت عائشة وعن أسماء بنت عميس وعن جابر وعوف بن مالك الأشجعي وعثمان بن أبي العاص الثقفي وعن أم سلمة وعن أنس بن مالك وعن الشفاء بنت عبد الله وصف سهل بن حنيف، وعن أبي هريرة وعن ابن عباس وعن ميمونة بنت أبي عسيب وعن كعب بن مالك وعن أبي سعيد الخدري وعن عبادة بن الصامت وعن أبي الدرداء وعن رافع بن خديج وعن ابن عمر وعن جبلة بن الأزرق وعن عمار بن ياسر وعن علي بن أبي طالب وعن الحارث بن عمرو البرجمي وعن بديل بن عمرو الخطمي وعن محمد بن حاطب.
هؤلاء الصحابة وغيرهم رووا أحاديث عن رسول الله r كلها تثبت صيغا من الرقى أو تنقل إذنا منه في الرقية كما وقع ولآل حزم وخال جابر وعوف بن مالك الأشجعي كما رواه مسلم في صحيحه .
وكما ثبت عن رسول الله r الرقية بعد الإصابة روي عنه الرقية المحصنة من الإصابة فقد روت عائشة عن النبي r أنه كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقُل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعا ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل به ذلك.
وناحية أخرى أرشد إليها رسول الله r هي الاستقرار النفسي بالرقية مع عدم المرض ولكن من أجل التشويش الذي يحصل في العقل فقد روى مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي r فقال يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله r ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا ففعلت ذلك فأذهبه الله عني .
كما روى البيهقي عن أبي العالية أن خالد بن الوليد قال يا رسول الله إن كائدا من الجن يكيدني قال. (قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن شر ما يعرج في السماء وما ينزل منها ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمان (قال ففعلت ذلك فأذهب الله عني .
إن كل الرقى التي رويت عن رسول الله جميع ، تؤكد صلة المسلم بربه وتزيده وثوقا بأنه غير مهمل وأن حفظ الله يرعاه وأن عونه يسعده وأن قدرته لا يعجزها أمره وأن رحمته تسع كل داء فتشفيه إذا ما تعلقت الإرادة وسبق القضاء وهي بهذا تفارق كل ما عرف من الرقى الجاهلية التي كانت تعتمد الكهانة والكلام غير الواضح والطلاسم أو التقرب للأرواح الشريرة واستعطافها لتزيح غضبها كما أنه من ناحية أخرى أزال الاختصاص الذي كان يدعيه بعض البشر من اقتدارهم على طرد الأرواح الشريرة إذا وصل بين المؤمن وبين ربه يدعوه بكلام واضح ويلجأ إليه بقلب واتق في الرحمة الربانية.
وأعظم من كل ذلك ما أكد عليه الإسلام فجعله الركن الثاني من أركان هذا الدين أعني الصلاة.
إن الصلاة كما يتقدمها من طهارة وإقامة تساعدان على التركيز والتحول والسمو وما تألفت ومنه من نية وأقوال واضحة وأفعال أن تصحبها أقوال لتعتبر أفضل ما يعيد للإنسان طمأنينته ويرخي توتره الباطني ويعطيه مناسبة للاعتدال النفسي بل حتى المادي.
كتب الصحفي كينيث بريغر، بصحيفة النيورك تايمز فصلا عن الصلاة كان ما جاء فيه أن الدكتور هوبرت بنسون أخصائي القلب وضغط الدم بهيئة التدريس بكلية الطب بجامعة هارفارد قال : إن ممارسة الصلاة يمكن أن تخفض ضربات القلب وضغط الدم والأيض ومن ثم تخفض من مستويات التوتر وأوصى لمرضاه بتكرار كلمة أحد في حالة من سلبية كاملة للعقل مدة 20 دقيقة كل صباح وكل مساء ثم يقول كيف يحدث هذا؟ نحن لا نعرف لكن هناك صفاء العقل وتخفيض ملموس في التوتر وتوسيع القدرة على الإبداع لدى كثير من الناس.
وإن تربية المؤمن التي كون عليها رسول الله r المؤمنين لتمثل في الاتصال الدائم بالله ذكرا له ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (الرعد 28). واستسلاما رضيا إلى عزته ورعايته ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (الأنعام آية 162- 163). وإن هذا الإسلام إلى الله هو سنة المرسلين. كما جاء على لسان إبراهيم ( الذي خلقني فهو يهدينِ والذي هو يطعمني ويسقينِ وإذا مرضت فهو يشفين ) (الشعراء: 78، 79، 0 8).

للدكتور محمد سليمان الأشقر
الكويت
الفصل الأول
في الأحاديث الواردة في الشؤون الدنيوية بصفة عامة
الأصل في أقوال النبي محمد r وأفعاله وتقريراته أنها حجة شرعية على عباد الله ، إن ثبتت بطريق صحيح . وقد تكفل ببيان ذلك والاستدلال له علم أصول الفقه.
وهذا واضح كل الوضوح فيما كان من ذلك مبينا لأمور الدين، كالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، وكالأحاديث المبينة لأحكام الله تعالى من الحلال والحرام والفرائض وأنواع التعبدات والمعاملات وغيرها من أمور الشريعة.
أما ا الأمور الدنيوية، فهل يلزم أن تكون اعتماداته وأقواله: r فيها مطابقة للواقع بمقتضى نبوته ، أو أن هذا أمر لا صلة له بمنصب النبوة؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين :
المذهب الأول: أنه r معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا، بل كل ما يعتقده في ذلك فهو مطابق للواقع، وكذلك ما يقوله ويخبر به.
ولم نجد أحدا من قدماء الأصوليين صرح بمثل هذا المذهب.
ولكنه لازم لمن جعل جميع أقواله وأفعاله r حجة حتى في الطيبات والزراعة ونحوها. وهو لازم أيضا لمن صحح منهم أن تقريره r لمخبر عن أمر دنيوي يدل على صحة ذلك الخبر، كما فعل السبكي وأيده المحلي والبناني.
وابن القيم في كتابه (الطب النبوي) يذهب إلى حجية أقواله وأفعاله r في الطب. وقال : طب النبي r متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل.
ويظهر أن هذه طريقة المحدثين. فإنا نجد عند البخاري مثلا هذه الأبواب (باب السعوط) (باب أي ساعة يحتجم) (باب الحجامة في السفر) (باب الحجامة على الرأس) (باب الحجامة من الشقيقة والصداع) وعند غيره من المحدثين ، كأصحاب السنن، تبويبات مشابهة. ويوافقهم الشراح غالبا على ذلك ، فيذكرون استحباب أدوية معينة لأمراض معينة، بناء على ما ورد في ذلك أن الأحاديث النبوية.
المذهب الثاني: أنه لا يجب أن يكون اعتقاده r في أمور الدنيا مطابقا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلا أو كثيرا ، بل قد يصيب غيره حيث يخطيء هو r.
قالوا: وليس في ذلك حط من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به ، لأن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية ، من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إن اعتقد أن فلانا مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين ، فإذا هو لا يشفى منه ، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة ، أو يدفع ضررا معينا ، فإذا هو لا يفعل ، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة ، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره، مما أدى إلى نتائج معينة. فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد.
وقد صرح بأهل هذا المذهب، دون تفاصيله، القاضي عياض ، والقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي والشيخ محمد أبو زهرة . وظاهر الحديث أنه r كغيره من الناس في ذلك، بل فيه التصريح بأن أصحاب الخبرة في صنائعهم وتجاراتهم وزراعاتهم قد يكونون أعلم منه بدقائقها، إلا أن القاضي عياضاً أوجب أن يكون الخطأ في ذلك نادراً لا كثيرا يؤذن بالبلة والغفلة.
ويحتج لهذا المذهب بأدلة، منها:
أولا: حديث تأبير النخل. ففي صحيح مسلم عن رافع بن خديج ، أنه قال " قدم النبي r المدينة، فإذا هم يأبرون النخل- يقول: يلقحون النخل- فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنفضت، فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر ".
وفي رواية طلحة، قال r " ما أظن ذلك يغني شيئا " فأخبروا بذلك، فتركوه. فأخبر رسول الله r بذلك. فقال: " إن كان ينفعهم ذلك فيصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولست إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله ".
وفي رواية عائشة وأنس: " أن النبي r مر بقوم يلقحون، فقال: لو لم يفعلوا لصلح. قال: فخرج شيصاً ، فمر بهم فقالوا : ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال: " أنتم أعلم بدنياكم " .
وشبيه به حديث ابن عباس في قصة الخرص ، وفيه: فقال رسول الله r " إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق ، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطيء وأصيب ".
وقد زذ الاستدلال بهذا الحديث بأن المراد: أنتم أعلم بدنياكم من أمر دينكم . ويكون توبيخا لهم .
وسياق الحديث على اختلاف رواياته يأبى هذا التأول ويبطله.
ثائيا: حديث أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي لما قال: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلى. ولعل بعضكم أدن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ".
وفي رواية الزهري للحديث المذكور " إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم. فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق ، فأقضي له بذلك ".
رأينا في ذلك:
نختار المذهب القائل بأن أقوال النبي r وأفعاله الدنيوية ليست تشريعا، وذلك لأجل الأدلة الآتية:
ا- قوله تعالى: ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى ) وقوله (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) وقد تكرر التأكيد في الكتاب على بشرية الرسول r وأنه لا يعلم الغيب وأنه ليحس ملكا، ومن المعلوم أنه لما نبأه الله عز وجل، لم يمنعه من تصرفاته البشرية كما يتصرف غيره من الناس على غالب الظنون والتقادير التي تخطيء وتصيب، ولا تعهد له بأن يمنعه من الخطأ في ذلك. وهذا بخلاف أمور الشريعة، فإن كلامه فيها لا يستقر فيه خطأ، كما هو ثابت في علم أصول الفقه. فالأصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة ، لما لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل.
وقد أكدت السنة النبوية ما بينه القرآن من ذلك. كما يأتي.
2- قوله r " إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر دينكم فاقبلوه، وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر " وفي رواية: " أنتم أعلم بدنياكم " وقد تقدم هذا الحديث.
وبهذا الحديث، برواياته المختلفة، يؤصل النبي r أصلا عظيما في الشريعة، ويبينه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحيانا أعلم منه r بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعي شرعا لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه r من ذلك إلا كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس.
3- ما ذكر ابن إسحق في سيرته في سياق غزوة بدر، قال: حدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر، قال: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فنزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسوله الله r: لقد أشرت بالرأي.
4- ما ورد في الحديث أن نفرا دخلوا على زيد بن ثابت، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله r. قال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له. فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرها الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله r!؟ .
5- ما ورد عن هشام بن عروة، أن عروة بن الزبير كان يقول لعائشة " يا أماه، لا أعجب من فهمك ، أقول: زوجة رسول الله r وبنت أبي بكر. ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس، أو من أعلم الناس. ولكن أعجب من علمك بالطب ، كيف هو ومن أين هو؟ " قال: فضربت على منكبه، وقالت: " أي عربة ! إن رسول الله r كان يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره. فكانت تقدم
عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات ، وكنت أعالجها له ".
وممن صرح بهذه القاعدة بصفتها العامة، من الأصوليين القدامى القاضي عبد الجبار.
وصرح به حديثا الشيخ ولي الله الدهلوي ، والشيخ محمد أبو زهرة ، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ عبد الجليل عيسى ، والشيخ فتحي عثمان.
أما من حيث التفصيل فقد قال ابن خلدون: " الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل (يعني طب البادية المبني على تجارب قاصرة) وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي r من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه r إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع. فقال: " أنتم أعلم بأمور دنياكم ". قال: " فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم النفع، وليست ذلك في الطب المزاجي " .
وقال القاضي عياض في الشفاء: (فصل) فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسير بها على أسلوبنا المتقدم بالاعتقاد والقول والفعل . فأما العقد بها أيعني اعتقادها، فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن، بخلاف أمور الشرع .
ثم ذكر القاضي عياض حديث تأبير النخل، وحديث الخرص ، ثم قال: وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها، لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها. ثم ذكر القاضي عياض حديث ابن إسحاق في قصة غزوة بدر، وما أشار به الحباب بن المنذر على النبي r ، وأنه قال: " أشرت بالرأي " وفعل ما قاله. وقد قال الله تعالى له r ( وشاورهم في الأمر) ، وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمار المدينة، فاستشار الأنصار، فلما أخبروه برأيهم رجع عنه. قال القاضي عياض: فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجلها همه وشغل نفسه بها ، والنبي r مشحون القلب بمعرفة الربوبية ، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية. ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة. انتهى كلام القاضي عياض. وقال شاه ولي الله الدهلوي:
" باب بيان أقسام علوم النبي r: اعلم أن ما روي عن النبي r ودون في كتب الحديث على قسمين: أحدهما ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فمنه علوم المعاد، وعجائب الملكوت، ومنه شرائع وضبط للعبادات والارتفاقات الخ.
والقسم الثاني: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله r " إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر " وقوله r في قصة تأبير النخل " إني إنما ظننت ظنا ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لم أكذب على الله " قال: فمنه الطب ، ومنه باب قوله r : " عليكم بالأدهم الأقرح " ومستنده التجربة، ومنه ما فعله r على سبيل العادة دون العبادة... وقول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله r. قال: كنت جاره. فكان إذا نزل عليه الوحي بعوث إلي ، فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله r؟!
وقال الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه " تاريخ المذاهب الإسلامية " في شأن حديث تأبير النخل " الحديث يتعلق بالصناعات وفنون الزراعة، وتثمير الأشجار، فهل يتصور أن النبي يمكن أن يكون حجة وذا خبرة في فنون الزراعة والتجارة، وصناعة الزجاج والجلود، ونسج الأقطان والحرير، وغير ذلك مما يتعلق بالمهن المختلفة!؟ إن كانوا يتصورون ذلك، فقد خلطوا خلطا كبيرا، ولن يميزوا بين رسول جاء بشرع من السماء، وصانع ذي خبرة فنية، وتاجر عالم بالأسواق.
إن الحديث وارد في مثل موضوعه، وهو تأبير النخل وغيره من الصناعات والزراعات ونحوها، فما كان الرسول مبعوثا لمثل هذا، والتشريع فوق هذا، وهو الذي جاء به النبي " ا هـ كلام الشيخ أبي زهرة.
والأمور الدنيوية التي هذا سبيلها، ووردت فيها أحاديث نبوية، هي على ثلاثة أنواع:
النوع الأول:
الأمور الغائبة عنه r مما شأنه أن يعرفه من رآه أو سمع به، ولا يعرفه الإنسان المعتاد بمجرد الفكر، كمعرفة ما في بيت مغلق، أو معرفة ما يجري في مكان بعيد من أرض الله. فهذا من علم الغيب، لا يعلمه إلا الله، لقوله: (قل يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) وقوله (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ) فلا يعلم النبي r مثل ذلك إلا بطرق المعرفة المعتادة، ما لم يخبرنا أن الله أطلعه عليه،) وأوحى إليه به. كما ورد أن ناقة نبيئ الله r ضلت فخرج بعض أصحابه يبحثون عنها. فقال بعض المنافقين: يزعم محمد أنه نبي ولا يدري أين ناقته؟! فلما علم بذلك النبي r
: " إني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وإن الله قد دلني عليها. وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حسبتها شجرة بزمامها " فذهبوا فأتوا بها.
النوع الثاني:
أمور البشر وأسرارهم، وما في قلوبهم ، وما عملوا في حال غيبتهم، فلا يعلم النبي قال ذلك بغير اطلاع خاص من الله تعالى، كما أطلعه على حال بعض المنافقين. ثم قد يعتقد الشيء من ذلك الذي لم يوح إليه به على غير ما هو عليه. قال القاضي عياض: أما ما يعتقده في أمور البشر الجارية على يديه وقضاياهم، ومعرفة المحق من المبطل، وعلم المصلح من المفسد ، فكذلك، لقوله r إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار " وفي رواية الزهري عن عروة. " فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له " وكان يجري أحكامه r على الظاهر وموجب غلبة الظن، بالشاهدين، أو يمين الحالف، أو مراعاة الأشبه، أو معرفة القرائن. ولو شاء الله لأطلعه على سرائر عباده ومخبات ضمائر أمته، ولكته غيب عنه ذلك.
النوع الثالث:
ما يدخل من أمور الدنيا ضمن ما يسمى العلوم البحتة والعلوم التطبيقية، وهي ما يفعله الإنسان بقصد تحصيل نفع في البدن أو المال، له أو لغيره، أو دفع ضرر كذلك، أو يدبر تدبيرا في شأنه خاصة، أو شؤون المسلمين عامة، لغرض التوصل إلى جلب نفع أو دفع ضرر.
ويشمل هذا النوع الأضرب التالية:
الضرب الأول: الأمور الطبية، وهي ما يجريه على بدنه خاصة، أو أبدان غيره من الناس بقصد دفع مرض حاضر أو متوقع.
فقد تناول النبي r، أو أعطى غيره، أو وصف له، أطعمة وأشربة متنوعة على سبيل حفظ الصحة، أو لدرء أمراض معينة، كألبان الإبل وأبوالها .
وكذلك تعاطى أو أعطى أنواعا مختلفة من العلاج، فقد احتجم واستعط، وكانت حجامته في وسط رأسه، وكانت حجامته من شقيقة كانت به. ولما اشتد به وجعه أهريق عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، ولما جرح بأحد ألصق على جرحه رماد حصير ليرقأ الدم . وداوى بريقه مع تراب . ورفض أدوية معينة كاللدود .
الضرب الثاني: شؤون الزراعة، بأن يزرع الإنسان أنواعا معينة من النبات، أو يزرع بطريقة ما، أو يسقي المزروعات كذلك، أو يفعل بالنبات شيئا بقصد تكثير إنتاجه أو تحسينه أو نحو ذلك.
وشبيه بها ما يفعل بالحيوان بقصد تكثير إنتاجه وتحسينه، كإطعامه أعلافا معينة، أو المزاوجة بين سلالات منه مختلفة بقصد الحصول على نسل أجود.
الضرب الثالث : الصناعة ، بأن يصنع الإنسان بمادة شيئا ما بقصد تحويلها إلى شكل ذي أوصاف مخالفة لشكلها الأول ، لتكون أنفع، أو يحلل مادة ما إلى حالات أبسط، أو يركب مادة مع مادة بقصد الحصول منهما على مادة جديدة ، هي أنفع من الأصل.
الضرب الرابع: التجارة، بأن يعمل في البيع والشراء، في أشياء معينة، في ظروف معينة ، بقصد تحصيل مكسب عن فروق الأسعار.
الضرب الخامس : أنواع أخرى من المكاسب كرعي الغنم، أو العمل للغير بأجر.
الضرب السادس: مثل التدابير الفنية التي اتخذها r في الحرب، من استعمال المجانيق والسيوف والرماح والسهام، وتربية الخيل للقتال، وحفر الخنادق، وترتيب الجيوش وتدريبها.
الضرب السابع : مثل التدابير التي اتخذها r في الإدارة المدنية، من اتخاذ الولاة والكتاب والحراس والحجاب والسفراء ، وكذلك الأعلام والشعارات، والمرافق من الطرق والحصون وغيرها.
فهذه الأضرب وأمثالها قد وقع من النبي r الكثير من أفرادها ونقل إلينا أشياء من ذلك.
والنظر في الأحكام التي يمكن أن تدل عليها مثل تلك الأحاديث من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أصل الطب والزراعة والصناعة والتجارة والقصد إلى تحصيل المكاسب، والسعي لتحقيق التدابير المدنية والعسكرية المناسبة، ونحو ذلك : تعتبر أقواله r في ذلك حجة يجب اعتقادها واتباعها، ويستفاد من الأحاديث القولية والفعلية في ذلك إباحته، وأنه لا يخالف العقيدة ولا الشريعة. وقد يرتقي إلى درجة الاستحباب أو الوجوب، بحسب الأحوال الداعية إليه ودلالة نطقه في ذلك.
وفي الحديث إشارة إلى ذلك حيث قال r : " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " فهذا في الصناعة، وقال: " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين يوم القيامة " فهذا في التجارة، وورد في الزراعة وغيرها أحاديث أخرى، وتأتي الأحاديث التي تأمر بالتطبيب والعلاج .
الوجه الثاني: إرشادات وتوجيهات شرعية في ممارسة تلك الأعمال، كتجنب البول وقضاء الحاجة تحث الشجر المثمر، ووجوب إحسان الذبح، وتحديد الشفرة، لئلا يتعذب الحيوان المذبوح، وإمكانية استعمال المنجنيق في الحرب، وتجنب قتل النساء والأطفال فيها، ونحو ذلك، فهذا شرع يؤخذ كما يؤخذ غيره من الشرع في العبادات ونحوها.
الوجه الثالث: الأمر الذي عمله بخصوصه ، هو مباح له، وقد يكون مستحبا له، أو واجبا عليه، لاعتقاده r أنه هو المؤدي إلى غرض مستحب أو واجب. ولكن هل يكون حكم مثله بالنسبة إلينا كذلك؟ كما لو شرب دواء معينا لعلاج مرض معين، فهل يستحب لنا شرب ذلك الدواء لذلك المرض مثلا، أو يجب، بل هل يباح بناء على ذلك أم لا؟
هذا ينبني على القاعدة التي سبق تحريرها، وقد رجحنا فيها قول من قال من العلماء إن أقواله r وأفعاله في ذلك الباب ليست حجة، ولا يلزم الأخذ بها، بل هي أقوال وأفعال مبنية في الأصل على التجارب الشخصية للنبي r من حيث هو بشر ، وما قد سمع به من أهل التجربة والمعرفة، وكثيرا ما تكون تلك المعرفة والتجربة صحيحة، ولكن احتمال الخطأ قائم، كما قال r " إنما أنا بشر أخطىء وأصيب ".
وأحب أن أنبه هنا إلى أنه إذا نص القرآن على أمر دنيوي فهو حق لا مرية فيه، لأنه من الله تعالى الذي لا يخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض.
فإذا كان الحديث النبوي في الشؤون الدنيوية استجابة لإرشادات القرآن التي تتعلق بذلك الأمر، فيكون الفعل بيانا أو امتثالا للقرآن، ويحمل على الشرعي. ولعل خير مثال على ذلك شربه r العسل للتداوي ، فإن ذلك تطبيق لقوله تعالى: ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) .
وشبيه بذلك ما أخبر r أنه فعله عن وحي من الله تعالى.
وأنبه إلى أمر آخر وهو أنه إذا تردد الفعل بين أن يكون دنيويا أو دينيا، حمل على الديني، لأنه الأكثر من أفعاله r . والله أعلم.
الفصل الثاني
في الأحاديث الواردة في شأن الطلب والعلاج
بعد تأصيل القواعد العامة التي ذكرت في الفصل الأول، والتي تصدق على جميع الأحاديث النبوية المتعلقة بالشؤون الدنيوية المختلفة ، نخص بالكلام الأحاديث الواردة في الشؤون الطبية بالذات، بتطبيق القواعد السابقة عليها:
فنقول: إن الأحاديث المذكورة نوعان رئيسيان: أولهما: ما يعتبر شرعا يتبع، ويعمل به، كسائر الأحاديث الواردة عنه r في شؤون الاعتقادات والعبادات والمعاملات والأحكام المختلفة التكليفية والوضعية. والثاني: مالا يعتبر شرعا، ولا يلزم العمل به، وسبيله سبيل الشؤون الدنيوية التي تقدم بيانها، يعتبر قول النبي r فيها كقول سائر الناس:
النوع الأول
وهو ما ورد من الأحاديث في الطب ويعتبر شرعا يتبع:
ويشمل فئات:
الفئة الأولى:
أ- ما كان من الأحاديث الواردة في حكم أصل العمل بالطب والمعالجات وتناول الأدوية.
فهذا النوع شرع يتبع، لأن الطمث فعل من أفعال المكلفين، والشرع جاء ليحكم أفعال المكلفين ببيان ما يوجبه الله منها وما يحرمه، أو يستحبه أو يكرهه، أو يجيزه بلا تفضيل لفعله على تركه ولا عكسه، وهي الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والمحرم، والمستحب، والمكروه، والمباح، ولا يخرج عنها أي فعل من أفعال المكلفين.
وقد وردت في أصلى العمل بالطب أحاديث منها:
حديث الأمر بالتداوي، وأن الله تعالى ما أنزل داء إلا أنزل له دواء، غير داء واحد، اختلفت الأحاديث في تعيينه، ففي بعضها: هو الهرم، وفي بعضها: هو الموت. فمن ذلك حديث أسامة بن شريك أن رسول الله r قال: " يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم ". رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
وحديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا السام، وهو الموت " رواه الحاكم. وبمعناه من حيث الجملة روى من طريق أنس ، وأبي هريرة، وأم الدرداء ، وابن مسعود ، وجابر. ورواه البخاري من حديث أبي هربرة مرفوعا مختصرا هكذا " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء " وفي صحيح مسلم من حديث جابر " لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى " وفي الموطأ مرسلا " أن النبي r قال لرجل: أيكما أطب ؟ قالا: يا رسول الله، وفي الطب خير؟ فقال: أنزل الداء الذي أنزل الدواء " .
قال ابن حجر: في هذه الأحاديث الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله، وفيها الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد ، وفيها إثبات الأسباب، وأن العمل بالطب لا ينافي التوكل على الله، لقوله " بإذن الله " والتداوي لا ينافي التوكل كما لا تنافيه سائر الأسباب، كدفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكتجنب المهلكات، وكالدعاء بطلب العافية، ودفع المضار، ونحو ذلك.
وقد أخرج ابن ماجه حديث أبي خزامة عن أبيه قال " قلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، هل يرد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله ".
ومثلها الأحاديث الواردة التي تفيد أن النبي r كان إذا مرض يتداوى، وربما سأل الأطباء عن دواء مرضه، وكانت وفود العرب تصف له الأدوية، فكانت عائشة رضي الله عنها تعالج له تلك الأدوية أي تمزجها وتهيئها، ومن ثم كان لها علم بالطب. وكان إذا مرض غيره وصف له دواء، وربما أرشده إلى طبيب ليداويه، كما يعلم من سائر الأحاديث الواردة في هذا البحث.
فكل ذلك يشير إلى أن الطب من حيث الأصل مشروع، والتداوي مطلوب شرعا، فليس هو حراما ، ولا يخالف عقيدة الإسلام ولا شريعته. وذلك واضح من القواعد الشرعية العامة أيضا، فإن الشريعة تأمر بالسعي في أسباب المصالح، ودرء المفاسد، وتوقي الأضرار والمهلكات.
الكويت
الفصل الأول
في الأحاديث الواردة في الشؤون الدنيوية بصفة عامة
الأصل في أقوال النبي محمد r وأفعاله وتقريراته أنها حجة شرعية على عباد الله ، إن ثبتت بطريق صحيح . وقد تكفل ببيان ذلك والاستدلال له علم أصول الفقه.
وهذا واضح كل الوضوح فيما كان من ذلك مبينا لأمور الدين، كالإيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، وكالأحاديث المبينة لأحكام الله تعالى من الحلال والحرام والفرائض وأنواع التعبدات والمعاملات وغيرها من أمور الشريعة.
أما ا الأمور الدنيوية، فهل يلزم أن تكون اعتماداته وأقواله: r فيها مطابقة للواقع بمقتضى نبوته ، أو أن هذا أمر لا صلة له بمنصب النبوة؟
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين :
المذهب الأول: أنه r معصوم من خطأ الاعتقاد في أمور الدنيا، بل كل ما يعتقده في ذلك فهو مطابق للواقع، وكذلك ما يقوله ويخبر به.
ولم نجد أحدا من قدماء الأصوليين صرح بمثل هذا المذهب.
ولكنه لازم لمن جعل جميع أقواله وأفعاله r حجة حتى في الطيبات والزراعة ونحوها. وهو لازم أيضا لمن صحح منهم أن تقريره r لمخبر عن أمر دنيوي يدل على صحة ذلك الخبر، كما فعل السبكي وأيده المحلي والبناني.
وابن القيم في كتابه (الطب النبوي) يذهب إلى حجية أقواله وأفعاله r في الطب. وقال : طب النبي r متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ومشكاة النبوة وكمال العقل.
ويظهر أن هذه طريقة المحدثين. فإنا نجد عند البخاري مثلا هذه الأبواب (باب السعوط) (باب أي ساعة يحتجم) (باب الحجامة في السفر) (باب الحجامة على الرأس) (باب الحجامة من الشقيقة والصداع) وعند غيره من المحدثين ، كأصحاب السنن، تبويبات مشابهة. ويوافقهم الشراح غالبا على ذلك ، فيذكرون استحباب أدوية معينة لأمراض معينة، بناء على ما ورد في ذلك أن الأحاديث النبوية.
المذهب الثاني: أنه لا يجب أن يكون اعتقاده r في أمور الدنيا مطابقا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلا أو كثيرا ، بل قد يصيب غيره حيث يخطيء هو r.
قالوا: وليس في ذلك حط من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به ، لأن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية ، من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إن اعتقد أن فلانا مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين ، فإذا هو لا يشفى منه ، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة ، أو يدفع ضررا معينا ، فإذا هو لا يفعل ، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة ، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره، مما أدى إلى نتائج معينة. فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد.
وقد صرح بأهل هذا المذهب، دون تفاصيله، القاضي عياض ، والقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي والشيخ محمد أبو زهرة . وظاهر الحديث أنه r كغيره من الناس في ذلك، بل فيه التصريح بأن أصحاب الخبرة في صنائعهم وتجاراتهم وزراعاتهم قد يكونون أعلم منه بدقائقها، إلا أن القاضي عياضاً أوجب أن يكون الخطأ في ذلك نادراً لا كثيرا يؤذن بالبلة والغفلة.
ويحتج لهذا المذهب بأدلة، منها:
أولا: حديث تأبير النخل. ففي صحيح مسلم عن رافع بن خديج ، أنه قال " قدم النبي r المدينة، فإذا هم يأبرون النخل- يقول: يلقحون النخل- فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنفضت، فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر ".
وفي رواية طلحة، قال r " ما أظن ذلك يغني شيئا " فأخبروا بذلك، فتركوه. فأخبر رسول الله r بذلك. فقال: " إن كان ينفعهم ذلك فيصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولست إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله ".
وفي رواية عائشة وأنس: " أن النبي r مر بقوم يلقحون، فقال: لو لم يفعلوا لصلح. قال: فخرج شيصاً ، فمر بهم فقالوا : ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا. قال: " أنتم أعلم بدنياكم " .
وشبيه به حديث ابن عباس في قصة الخرص ، وفيه: فقال رسول الله r " إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق ، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطيء وأصيب ".
وقد زذ الاستدلال بهذا الحديث بأن المراد: أنتم أعلم بدنياكم من أمر دينكم . ويكون توبيخا لهم .
وسياق الحديث على اختلاف رواياته يأبى هذا التأول ويبطله.
ثائيا: حديث أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي لما قال: " إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلى. ولعل بعضكم أدن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ".
وفي رواية الزهري للحديث المذكور " إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم. فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق ، فأقضي له بذلك ".
رأينا في ذلك:
نختار المذهب القائل بأن أقوال النبي r وأفعاله الدنيوية ليست تشريعا، وذلك لأجل الأدلة الآتية:
ا- قوله تعالى: ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى ) وقوله (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) وقد تكرر التأكيد في الكتاب على بشرية الرسول r وأنه لا يعلم الغيب وأنه ليحس ملكا، ومن المعلوم أنه لما نبأه الله عز وجل، لم يمنعه من تصرفاته البشرية كما يتصرف غيره من الناس على غالب الظنون والتقادير التي تخطيء وتصيب، ولا تعهد له بأن يمنعه من الخطأ في ذلك. وهذا بخلاف أمور الشريعة، فإن كلامه فيها لا يستقر فيه خطأ، كما هو ثابت في علم أصول الفقه. فالأصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة ، لما لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل.
وقد أكدت السنة النبوية ما بينه القرآن من ذلك. كما يأتي.
2- قوله r " إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر دينكم فاقبلوه، وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر " وفي رواية: " أنتم أعلم بدنياكم " وقد تقدم هذا الحديث.
وبهذا الحديث، برواياته المختلفة، يؤصل النبي r أصلا عظيما في الشريعة، ويبينه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحيانا أعلم منه r بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعي شرعا لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه r من ذلك إلا كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس.
3- ما ذكر ابن إسحق في سيرته في سياق غزوة بدر، قال: حدثت عن رجال من بني سلمة، أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر، قال: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فنزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسوله الله r: لقد أشرت بالرأي.
4- ما ورد في الحديث أن نفرا دخلوا على زيد بن ثابت، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله r. قال: كنت جاره، فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إلي فكتبته له. فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرها الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله r!؟ .
5- ما ورد عن هشام بن عروة، أن عروة بن الزبير كان يقول لعائشة " يا أماه، لا أعجب من فهمك ، أقول: زوجة رسول الله r وبنت أبي بكر. ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس، أقول: ابنة أبي بكر، وكان أعلم الناس، أو من أعلم الناس. ولكن أعجب من علمك بالطب ، كيف هو ومن أين هو؟ " قال: فضربت على منكبه، وقالت: " أي عربة ! إن رسول الله r كان يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره. فكانت تقدم
عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات ، وكنت أعالجها له ".
وممن صرح بهذه القاعدة بصفتها العامة، من الأصوليين القدامى القاضي عبد الجبار.
وصرح به حديثا الشيخ ولي الله الدهلوي ، والشيخ محمد أبو زهرة ، والشيخ عبد الوهاب خلاف، والشيخ عبد الجليل عيسى ، والشيخ فتحي عثمان.
أما من حيث التفصيل فقد قال ابن خلدون: " الطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل (يعني طب البادية المبني على تجارب قاصرة) وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديا للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي r من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه r إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع. فقال: " أنتم أعلم بأمور دنياكم ". قال: " فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم النفع، وليست ذلك في الطب المزاجي " .
وقال القاضي عياض في الشفاء: (فصل) فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسير بها على أسلوبنا المتقدم بالاعتقاد والقول والفعل . فأما العقد بها أيعني اعتقادها، فقد يعتقد في أمور الدنيا الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن، بخلاف أمور الشرع .
ثم ذكر القاضي عياض حديث تأبير النخل، وحديث الخرص ، ثم قال: وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها، لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها. ثم ذكر القاضي عياض حديث ابن إسحاق في قصة غزوة بدر، وما أشار به الحباب بن المنذر على النبي r ، وأنه قال: " أشرت بالرأي " وفعل ما قاله. وقد قال الله تعالى له r ( وشاورهم في الأمر) ، وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث ثمار المدينة، فاستشار الأنصار، فلما أخبروه برأيهم رجع عنه. قال القاضي عياض: فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجلها همه وشغل نفسه بها ، والنبي r مشحون القلب بمعرفة الربوبية ، ملآن الجوانح بعلوم الشريعة، مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية. ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة. انتهى كلام القاضي عياض. وقال شاه ولي الله الدهلوي:
" باب بيان أقسام علوم النبي r: اعلم أن ما روي عن النبي r ودون في كتب الحديث على قسمين: أحدهما ما سبيله سبيل تبليغ الرسالة، وفيه قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فمنه علوم المعاد، وعجائب الملكوت، ومنه شرائع وضبط للعبادات والارتفاقات الخ.
والقسم الثاني: ما ليس من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله r " إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر " وقوله r في قصة تأبير النخل " إني إنما ظننت ظنا ولا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لم أكذب على الله " قال: فمنه الطب ، ومنه باب قوله r : " عليكم بالأدهم الأقرح " ومستنده التجربة، ومنه ما فعله r على سبيل العادة دون العبادة... وقول زيد بن ثابت حيث دخل عليه نفر، فقالوا له: حدثنا أحاديث رسول الله r. قال: كنت جاره. فكان إذا نزل عليه الوحي بعوث إلي ، فكتبته له، فكان إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله r؟!
وقال الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه " تاريخ المذاهب الإسلامية " في شأن حديث تأبير النخل " الحديث يتعلق بالصناعات وفنون الزراعة، وتثمير الأشجار، فهل يتصور أن النبي يمكن أن يكون حجة وذا خبرة في فنون الزراعة والتجارة، وصناعة الزجاج والجلود، ونسج الأقطان والحرير، وغير ذلك مما يتعلق بالمهن المختلفة!؟ إن كانوا يتصورون ذلك، فقد خلطوا خلطا كبيرا، ولن يميزوا بين رسول جاء بشرع من السماء، وصانع ذي خبرة فنية، وتاجر عالم بالأسواق.
إن الحديث وارد في مثل موضوعه، وهو تأبير النخل وغيره من الصناعات والزراعات ونحوها، فما كان الرسول مبعوثا لمثل هذا، والتشريع فوق هذا، وهو الذي جاء به النبي " ا هـ كلام الشيخ أبي زهرة.
والأمور الدنيوية التي هذا سبيلها، ووردت فيها أحاديث نبوية، هي على ثلاثة أنواع:
النوع الأول:
الأمور الغائبة عنه r مما شأنه أن يعرفه من رآه أو سمع به، ولا يعرفه الإنسان المعتاد بمجرد الفكر، كمعرفة ما في بيت مغلق، أو معرفة ما يجري في مكان بعيد من أرض الله. فهذا من علم الغيب، لا يعلمه إلا الله، لقوله: (قل يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) وقوله (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ) فلا يعلم النبي r مثل ذلك إلا بطرق المعرفة المعتادة، ما لم يخبرنا أن الله أطلعه عليه،) وأوحى إليه به. كما ورد أن ناقة نبيئ الله r ضلت فخرج بعض أصحابه يبحثون عنها. فقال بعض المنافقين: يزعم محمد أنه نبي ولا يدري أين ناقته؟! فلما علم بذلك النبي r
: " إني والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وإن الله قد دلني عليها. وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حسبتها شجرة بزمامها " فذهبوا فأتوا بها.
النوع الثاني:
أمور البشر وأسرارهم، وما في قلوبهم ، وما عملوا في حال غيبتهم، فلا يعلم النبي قال ذلك بغير اطلاع خاص من الله تعالى، كما أطلعه على حال بعض المنافقين. ثم قد يعتقد الشيء من ذلك الذي لم يوح إليه به على غير ما هو عليه. قال القاضي عياض: أما ما يعتقده في أمور البشر الجارية على يديه وقضاياهم، ومعرفة المحق من المبطل، وعلم المصلح من المفسد ، فكذلك، لقوله r إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار " وفي رواية الزهري عن عروة. " فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له " وكان يجري أحكامه r على الظاهر وموجب غلبة الظن، بالشاهدين، أو يمين الحالف، أو مراعاة الأشبه، أو معرفة القرائن. ولو شاء الله لأطلعه على سرائر عباده ومخبات ضمائر أمته، ولكته غيب عنه ذلك.
النوع الثالث:
ما يدخل من أمور الدنيا ضمن ما يسمى العلوم البحتة والعلوم التطبيقية، وهي ما يفعله الإنسان بقصد تحصيل نفع في البدن أو المال، له أو لغيره، أو دفع ضرر كذلك، أو يدبر تدبيرا في شأنه خاصة، أو شؤون المسلمين عامة، لغرض التوصل إلى جلب نفع أو دفع ضرر.
ويشمل هذا النوع الأضرب التالية:
الضرب الأول: الأمور الطبية، وهي ما يجريه على بدنه خاصة، أو أبدان غيره من الناس بقصد دفع مرض حاضر أو متوقع.
فقد تناول النبي r، أو أعطى غيره، أو وصف له، أطعمة وأشربة متنوعة على سبيل حفظ الصحة، أو لدرء أمراض معينة، كألبان الإبل وأبوالها .
وكذلك تعاطى أو أعطى أنواعا مختلفة من العلاج، فقد احتجم واستعط، وكانت حجامته في وسط رأسه، وكانت حجامته من شقيقة كانت به. ولما اشتد به وجعه أهريق عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، ولما جرح بأحد ألصق على جرحه رماد حصير ليرقأ الدم . وداوى بريقه مع تراب . ورفض أدوية معينة كاللدود .
الضرب الثاني: شؤون الزراعة، بأن يزرع الإنسان أنواعا معينة من النبات، أو يزرع بطريقة ما، أو يسقي المزروعات كذلك، أو يفعل بالنبات شيئا بقصد تكثير إنتاجه أو تحسينه أو نحو ذلك.
وشبيه بها ما يفعل بالحيوان بقصد تكثير إنتاجه وتحسينه، كإطعامه أعلافا معينة، أو المزاوجة بين سلالات منه مختلفة بقصد الحصول على نسل أجود.
الضرب الثالث : الصناعة ، بأن يصنع الإنسان بمادة شيئا ما بقصد تحويلها إلى شكل ذي أوصاف مخالفة لشكلها الأول ، لتكون أنفع، أو يحلل مادة ما إلى حالات أبسط، أو يركب مادة مع مادة بقصد الحصول منهما على مادة جديدة ، هي أنفع من الأصل.
الضرب الرابع: التجارة، بأن يعمل في البيع والشراء، في أشياء معينة، في ظروف معينة ، بقصد تحصيل مكسب عن فروق الأسعار.
الضرب الخامس : أنواع أخرى من المكاسب كرعي الغنم، أو العمل للغير بأجر.
الضرب السادس: مثل التدابير الفنية التي اتخذها r في الحرب، من استعمال المجانيق والسيوف والرماح والسهام، وتربية الخيل للقتال، وحفر الخنادق، وترتيب الجيوش وتدريبها.
الضرب السابع : مثل التدابير التي اتخذها r في الإدارة المدنية، من اتخاذ الولاة والكتاب والحراس والحجاب والسفراء ، وكذلك الأعلام والشعارات، والمرافق من الطرق والحصون وغيرها.
فهذه الأضرب وأمثالها قد وقع من النبي r الكثير من أفرادها ونقل إلينا أشياء من ذلك.
والنظر في الأحكام التي يمكن أن تدل عليها مثل تلك الأحاديث من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أصل الطب والزراعة والصناعة والتجارة والقصد إلى تحصيل المكاسب، والسعي لتحقيق التدابير المدنية والعسكرية المناسبة، ونحو ذلك : تعتبر أقواله r في ذلك حجة يجب اعتقادها واتباعها، ويستفاد من الأحاديث القولية والفعلية في ذلك إباحته، وأنه لا يخالف العقيدة ولا الشريعة. وقد يرتقي إلى درجة الاستحباب أو الوجوب، بحسب الأحوال الداعية إليه ودلالة نطقه في ذلك.
وفي الحديث إشارة إلى ذلك حيث قال r : " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " فهذا في الصناعة، وقال: " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين يوم القيامة " فهذا في التجارة، وورد في الزراعة وغيرها أحاديث أخرى، وتأتي الأحاديث التي تأمر بالتطبيب والعلاج .
الوجه الثاني: إرشادات وتوجيهات شرعية في ممارسة تلك الأعمال، كتجنب البول وقضاء الحاجة تحث الشجر المثمر، ووجوب إحسان الذبح، وتحديد الشفرة، لئلا يتعذب الحيوان المذبوح، وإمكانية استعمال المنجنيق في الحرب، وتجنب قتل النساء والأطفال فيها، ونحو ذلك، فهذا شرع يؤخذ كما يؤخذ غيره من الشرع في العبادات ونحوها.
الوجه الثالث: الأمر الذي عمله بخصوصه ، هو مباح له، وقد يكون مستحبا له، أو واجبا عليه، لاعتقاده r أنه هو المؤدي إلى غرض مستحب أو واجب. ولكن هل يكون حكم مثله بالنسبة إلينا كذلك؟ كما لو شرب دواء معينا لعلاج مرض معين، فهل يستحب لنا شرب ذلك الدواء لذلك المرض مثلا، أو يجب، بل هل يباح بناء على ذلك أم لا؟
هذا ينبني على القاعدة التي سبق تحريرها، وقد رجحنا فيها قول من قال من العلماء إن أقواله r وأفعاله في ذلك الباب ليست حجة، ولا يلزم الأخذ بها، بل هي أقوال وأفعال مبنية في الأصل على التجارب الشخصية للنبي r من حيث هو بشر ، وما قد سمع به من أهل التجربة والمعرفة، وكثيرا ما تكون تلك المعرفة والتجربة صحيحة، ولكن احتمال الخطأ قائم، كما قال r " إنما أنا بشر أخطىء وأصيب ".
وأحب أن أنبه هنا إلى أنه إذا نص القرآن على أمر دنيوي فهو حق لا مرية فيه، لأنه من الله تعالى الذي لا يخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض.
فإذا كان الحديث النبوي في الشؤون الدنيوية استجابة لإرشادات القرآن التي تتعلق بذلك الأمر، فيكون الفعل بيانا أو امتثالا للقرآن، ويحمل على الشرعي. ولعل خير مثال على ذلك شربه r العسل للتداوي ، فإن ذلك تطبيق لقوله تعالى: ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) .
وشبيه بذلك ما أخبر r أنه فعله عن وحي من الله تعالى.
وأنبه إلى أمر آخر وهو أنه إذا تردد الفعل بين أن يكون دنيويا أو دينيا، حمل على الديني، لأنه الأكثر من أفعاله r . والله أعلم.
الفصل الثاني
في الأحاديث الواردة في شأن الطلب والعلاج
بعد تأصيل القواعد العامة التي ذكرت في الفصل الأول، والتي تصدق على جميع الأحاديث النبوية المتعلقة بالشؤون الدنيوية المختلفة ، نخص بالكلام الأحاديث الواردة في الشؤون الطبية بالذات، بتطبيق القواعد السابقة عليها:
فنقول: إن الأحاديث المذكورة نوعان رئيسيان: أولهما: ما يعتبر شرعا يتبع، ويعمل به، كسائر الأحاديث الواردة عنه r في شؤون الاعتقادات والعبادات والمعاملات والأحكام المختلفة التكليفية والوضعية. والثاني: مالا يعتبر شرعا، ولا يلزم العمل به، وسبيله سبيل الشؤون الدنيوية التي تقدم بيانها، يعتبر قول النبي r فيها كقول سائر الناس:
النوع الأول
وهو ما ورد من الأحاديث في الطب ويعتبر شرعا يتبع:
ويشمل فئات:
الفئة الأولى:
أ- ما كان من الأحاديث الواردة في حكم أصل العمل بالطب والمعالجات وتناول الأدوية.
فهذا النوع شرع يتبع، لأن الطمث فعل من أفعال المكلفين، والشرع جاء ليحكم أفعال المكلفين ببيان ما يوجبه الله منها وما يحرمه، أو يستحبه أو يكرهه، أو يجيزه بلا تفضيل لفعله على تركه ولا عكسه، وهي الأحكام التكليفية الخمسة: الواجب، والمحرم، والمستحب، والمكروه، والمباح، ولا يخرج عنها أي فعل من أفعال المكلفين.
وقد وردت في أصلى العمل بالطب أحاديث منها:
حديث الأمر بالتداوي، وأن الله تعالى ما أنزل داء إلا أنزل له دواء، غير داء واحد، اختلفت الأحاديث في تعيينه، ففي بعضها: هو الهرم، وفي بعضها: هو الموت. فمن ذلك حديث أسامة بن شريك أن رسول الله r قال: " يا عباد الله تداووا، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، غير داء واحد: الهرم ". رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة.
وحديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا السام، وهو الموت " رواه الحاكم. وبمعناه من حيث الجملة روى من طريق أنس ، وأبي هريرة، وأم الدرداء ، وابن مسعود ، وجابر. ورواه البخاري من حديث أبي هربرة مرفوعا مختصرا هكذا " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء " وفي صحيح مسلم من حديث جابر " لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى " وفي الموطأ مرسلا " أن النبي r قال لرجل: أيكما أطب ؟ قالا: يا رسول الله، وفي الطب خير؟ فقال: أنزل الداء الذي أنزل الدواء " .
قال ابن حجر: في هذه الأحاديث الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله، وفيها الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد ، وفيها إثبات الأسباب، وأن العمل بالطب لا ينافي التوكل على الله، لقوله " بإذن الله " والتداوي لا ينافي التوكل كما لا تنافيه سائر الأسباب، كدفع الجوع والعطش بالأكل والشرب، وكتجنب المهلكات، وكالدعاء بطلب العافية، ودفع المضار، ونحو ذلك.
وقد أخرج ابن ماجه حديث أبي خزامة عن أبيه قال " قلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، هل يرد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله ".
ومثلها الأحاديث الواردة التي تفيد أن النبي r كان إذا مرض يتداوى، وربما سأل الأطباء عن دواء مرضه، وكانت وفود العرب تصف له الأدوية، فكانت عائشة رضي الله عنها تعالج له تلك الأدوية أي تمزجها وتهيئها، ومن ثم كان لها علم بالطب. وكان إذا مرض غيره وصف له دواء، وربما أرشده إلى طبيب ليداويه، كما يعلم من سائر الأحاديث الواردة في هذا البحث.
فكل ذلك يشير إلى أن الطب من حيث الأصل مشروع، والتداوي مطلوب شرعا، فليس هو حراما ، ولا يخالف عقيدة الإسلام ولا شريعته. وذلك واضح من القواعد الشرعية العامة أيضا، فإن الشريعة تأمر بالسعي في أسباب المصالح، ودرء المفاسد، وتوقي الأضرار والمهلكات.

لكن هل التداوي في حيز الواجبات، أو حكم المستحبات، أو حكم المباحات ؟
حكم التداوي:
اختلف العلماء في حكم التداوي لمن به مرض:
فذهب الشافعية إلى أنه سنة، واحتجوا بالحديث المتقدم " ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء " وقالوا: قد فعله النبي r.
قالوا: ولا نقول بوجوبه، لأنه لا يقطع بنفعه ، أي بخلاف الطعام والشراب لمن هو في مخمصة وخشي الهلاك ، فإنه يجب عليه تناوله لأنه مقطوع بنفعه.
لكن قال الأسنوي من الشافعية : يحرك ترك التداوي في جرح يظن فيه التلف ونحو ذلك. (44) أي لأنه لو كان جرحا بالغا وتركه ينزف لمات منه، وربط الجرح حينئذ نافع يقينا أو شبه اليقين. وقد داوى النبي r جرحه يوم أحد. غير أن بعض الفقهاء، منهم النووي في شرح المهذب ، ادعوا أن ترك التداوي توكلا أفضل. وقال بعضهم: التداوي لضعيف التوكل ، وترك التداوي لقوي التوكل أفضل.
وهذا لا يستقيم مع ما علم قطعا أن النبي r تداوى مرات كثيرة، وأنه كانت وفود العرب ترد عليه، وتنعت له الأدوية ، فتصنعها له عائشة ، كما تقدمت الرواية بذلك، وهو أقوى المتوكلين بلا شك. وقد قدمت قول ابن حجر إنه لا منافاة أصلا بين الأخذ بالأسباب وبين التوكل.
ولم يرد في القرآن فيما نعلم ما يفيد المنافاة المذكورة.
وورد في السنة في باب الطب حديثان ظاهرهما يفيد ذلك:
أولهما: حديث عمران بن حصين عند أحمد والبخاري ومسلم، وفيه أن النبي r ذكر سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، ثم قال : " هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ".
فهذا ظاهره أنهم تركوا التداوي بالكي توكلا على الله.
ولكن يحتمل أن صفة التوكل في الحديث ليست متعلقة بالأمور الثلاثة، وهي ترك الاسترقاء والتطير والاكتواء، بل هي أمر رابع مستقل مضاف إلى الثلاثة، فلا تنافي أصلا .
ويحتمل- وهو الأوجه - أنه لما كان الكي منهيا عنه ، لما فيه من التعذيب بالنار، فقد أمرنا بتركه والبحث عما سواه من أنواع المداواة، مع التوكل على الله في أن ييسر دواء آخر. قال ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه " لم يتوكل من اكتوى " والثاني كي الجرح إذا نغل أي فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي يشرع التداوي له. فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى ، لما فيه من التعذيب بالنار لأمر غير محقق .
وثانيهما: حديث في الكي أيضا ، وهو ما رواه المغيرة أن رسول الله r قال: " من استرقى أو اكتوى برىء من التوكل " رواه أحمد والترمذي. والقول فيه شبيه بما تقدم.
ونقل ابن حجر في موضعا خر، بعض كلام من أوغل في هذا الباب، وادعى أن خواص الأولياء الذين اشتد توكلهم لا يضرهم ترك الأسباب. وأن الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما، أي ممن باشرها، وأن الذي يستحق اسم التوكل هو من لم يخالط قلبه شيء، حتى من المع الضاري، والعدو، ومن لم يسع في طلب رزق، ولا مداواة ألم.
وعندي أن هذا من أعظم الانتكاسات التي طرأت على العقلية الإسلامية بتأثير ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام، والتي أدت إلى التواكل، والانصراف عن الأخذ بأسباب الصحة والقوة والتقدم والنصر، اعتمادا على وضع فكرة التوكل في غير موضعها. وأصبح ذلك في الأمة الإسلامية مرضا مزمنا عر علاجه، وأيس منه الأطباء، إلا من شاء الله له أن يستمسك بالكتاب والسنة الصحيحة، عالما أن الحق كل الحق فيما ورد فيهما بعد أن يفهما حق الفهم، والله المستعان.
وقد سأل رجل الإمام أحمد قائلا. إنه يريد أن يخرج من العراق إلى مكة للحج بلا زاد، توكلا على الله. فقال الإمام أحمد للسائل : أخرج مع غير القافلة. قال: لا أستطيع. فقال: إنك لم تتوكل على الله ، ولكن توكلت على أزواد الناس.
ولذا قال ابن حجر رحمه الله " الحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطي الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر r بين درعين، ولبس على رأسه المغفر ، وأقعد الرماة على فم الشعب ، وخندقا حول المدينة ، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب ، وأدخر لأهله قوت سنتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك. وقال للذي سأله: " أعقل ناقتي أو أدعها ؟ " قال " اعقلها وتؤكل " فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل . كلام ابن حجر.
وأنا ألتمس من كل من يذهب هذا المذهب المردود المرفوض، أن يدلني ولو على واقعة واحدة ترك فيها النبي r الأخذ بسبب معتاد، وهو يقدر عليه، في أمر يحتاج إليه، فترك الأخذ بالسبب توكل! على الله. بل كان r يأخذ بالأسباب التي يقدر عليها ويتوكل على الله .
وقد قال ابن القيم في ذلك كلمة عظيمة لمن يعقلون شرع الله، قال: "التداوي لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه، من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، الذي حقيقته: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره فيهما، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا " .
ب- ومنها حديث أبي رمثة أن النبي r قال لطبيب " الله الطبيب، بل أنت رفيق، طبيبها الذي خلقها " رواه أبو داود.
هذا الحديث إقرار للعمل بالطب. وفيه التنبيه إلى قوى البرء المركبة في البدن الإنساني في أصل خلقته، وأن مهمة الطبيب الرفق بالمريض لإتاحة الفرصة لهذه القوى كي تعمل عملها.
وشبيه بهذا قول النبي r في رقية المريض، كما في صحيح البخاري، عن عائشة " اللهم اشف، وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك " فبين أن حقيقة الشفاء هي بيد الله تعالى وحده.
الفئة الثانية:
أحاديث فيها توجيهات شرعية متعلقة بعملية التداوي وشؤون المرضى :
أ- من ذلك حديث البخاري عن الصحابية ربيع بنت معوذ ، قالت " كنا نغزو مع رسول الله-حب نسقي القوم، ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة " وفي رواية " ونداوى الجرحى ".
ففيه جواز مداواة المرأة للجرحى من الرجال. قال ابن حجر : يجوز عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك .
وهذا الذي قاله عندي فيه نظر، فليس في الحديث إشارة إلى أي ضرورة، بل هي الحاجة إلى العلاج، والحاجة أخف من الضرورة. وقد كان يمكن تفريغ بعض الرجال لذلك العمل، لو كان في الأصل محرما.
وأيضا ما ورد أن رفيدة الأسلمية كان لها خيمة بالمسجد تداوي فيها الجرحى، ينفي وجوب الاقتصار على قدرا لضرورة.
ب- ومنها أحاديث الأمر بعيادة المريض ، وأن النبي r كان يعودهم، حتى " إن غلاما يهوديا كان يخدم النبي r ، فمرض، فأتاه النبي r يعوده فقال: أسلم. فأسلم " وكان إذا عاد المريض ربما وضع يده على جبهته، ومسح على صدره وبطنه، ودعا له. نقل البخاري أنه r فعل ذلك عندما زار سعدا. وربما رقى المريض.
ففي صحيح البخاري من حديث عائشة: " أن النبي r كان إذا أتى مريضا، أو أتى إليه به قال: "أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما "
ج - ومنها حديث النهي عن التداوي بالمحرمات:
كحديث أنه r سئل عن الخمر يتداوى بها فقال: " إنها ليست بدواء ولكنها داء " رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي .
وكحديث: " أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " رواه عبد الرزاق والطبراني مرفوعا. ورواه الحاكم عن ابن مسعود موقوفا.
وكحديث " إن الله جعل لكل داء دواء، فتداووا ، ولا تتداوا بحرام "
فهذه الأحاديث هي من قبيل الشرع، لأنه r ناط الحكم بمعنى شرعي، وهو التحريم، فما كان من المواد محرما لم يجز التداوي به.
ولا يعني هذا أنه لا يجوز استعماله عند الضرورة، مع عدم وجود دواء آخر غير الدواء المحرم، بل إن الضرورة تبيح المحظور، فيعود حلالا لذلك المضطر، لقوله تعالى: ( وقد فضل لكم ما حرتم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) فإذا عاد حلالا لم يكن داخلا في قوله (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ) ومن هذا القبيل التداوي بالنجاسات.
وفي كل من النوعين خلاف يعرف بالرجوع إلى كتب الفقه.
د- ومنها: حديث أم سلمة عند البخاري " أن امرأة توفي زوجها، فاشتكت عينها، فذكروها للنبي r ، وذكروا له الكحل وأنه يخاف على عينها " في الحديث أنه نهاها عن ذلك، أي لأن المعتدة لا يحل لها شرعا أن تتزين بكحل أو غيره.
أما إن كان النهي عن الدواء لا لعلة شرعية ، بل لكونه r قدر فيه ضررا بمقتضى تجربته وخبرته الدنيوية فلا يكون من هذا الباب ، بل يكون من النوع الثاني ، وهو ما لا يكون شرعا يتبع. فمنها النهي عن الغيل، وهو رضاع الحامل، ومنها النهي عن علاج العذرة بالعلاق كما يأتي في النوع الثاني.
الفئة الثالثة:
أحاديث أبطلت أنواعا من المعالجات، كانت سائدة في الجاهلية، تنافي صحة الاعتقاد الإيماني، لأنها ليست أسبابا حقيقية للشفاء:
أ- من ذلك ما و رد أن النبي r " دخل عليه رجل وفي يده حلقة من صفر. فقال ما هذا؟ فقال: من الواهنة. فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، وأنت لو مت وأنت ترى (أي تعتقد) أنها تنفعك لمت على غير الفطرة " رواه أحمد والطبراني من حديث عمران بن حصين. ورواه الطبري.
(الواهنة ريح تأخذ في المنكبين عند الكبر. وقيل مرض يأخذ في عضد الرجل. كذا في لسان العرب).
ب- ومنها " أن عبد الله بن عكيم الجهني الصحابي رضي الله عنه خرج به خراج، فقيل له. ألا تعلق عليه خرزا؟ فقال: لو علمت أن نفسي تكون فيه ما علقته. ثم قال: إن نبي الله r نهانا عنه " رواه ابن جرير وصححه .
ج- ومنها قوله " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث ابن مسعود. ومثله حديث: " من علق تميمة فقد أشرك " والمراد بالرقى الرقى المجهولة، وما كانت الاستعاذة فيها بغير الله تعالى، بخلاف الرقية بالفاتحة والمعوذتين والأدعية المشروعة. والمراد بالتمائم الأحجبة التي تعلق على الأطفال والبيوت والسيارات ونحو ذلك، يزعم الجهلة أنها ترد العين، أو تمنع المرض والحوادث. والتولة شيء كانوا يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها.
الفئة الرابعة:
أحاديث أمرت بأدوية ومعالجات ربطتها بأحكام تعبدية وشعائر دينية.
أ- من ذلك حديث أحمد والنسائي عن عائشة مرفوعا: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " وفي صحيحي البخاري أيضا " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ".
ب- ونهى أحاديث الاسترقاء ، منها ما في صحيح البخاري من حديث عائشة قالت: كان رسوله الله r إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به " ثقته يا رواية عند البخاري أيضا بأنها كانت تمسح جسد النبي r بيد نفس " بعد أن ينفث هو بها.
ج- ومنها أحاديث الدعاء للمريض ، كقوله r " اللهم رب الناس، مذهب الباس ، اشف وألت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما ".
د- ومنها حديث " داووا مرضاكم بالصدقة " .
الفئة الخامسة:
أحاديث مبنية على النص القرآني:
أ- فمن ذلك أحاديث التداوي بالعسل، منها حديث البخاري عن جابر بن عبد الله أن النبي r قال " إن كان في شيء ، من أدويتكم خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء. ولا أحب أن أكتوي ".
وإنما قلنا إنها حجة لكونها أخذا بنص القرآن: ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ).
ب - ومنها ما روى عمر بن الخطاب عند أحمد والترمذي والحاكم أن النبي r قال " كلو! الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة " فإنه ينظر إلى قوله تعالى: ( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ) .
الفئة السادسة:
أحاديث فيها ذكر أدوية أو معالجات يخبر النبي r أنه علمها بطريق الوحي ، أو إخبار الملائكة، أو أن الله يحبيا، أو يكرهها، و نحو ذلك.
وإنما كان هذ ا النوع من الأدوية صحيحا ومشروعا لأنه منسوب إلى الله تعالى أو ملائكته. وقد تقدم قول النبي r في حديث تأبير النخل " ما حدثتكم عن الله فخذوا به، وما حدثتكم من رأي فإنما أنا بشر أخطىء وأصيب " فهذه الفئة منضمة إلى ما حدثنا به النبي r عن الله تعالى من سائر أمور الدين، فلزمنا العمل به، سواء كان نهيا، فيمنع التداوي به، أو أمرا فيكون دواء مقبولا.
أ- فمز ذلك أحاديث الأمر بالتداوي وأصل العمل بالطب كما تقدم في الفئة الأولى لأن فيه " أن الله ما أنزل من داء إلا " أنزل له شفاء " فأسند ذلك إلى الله تعالى، ومنها أحاديث الني عن التداوي بالمحرمات كما تقدم في الفئة الثانية ، كما في رواية " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ".
ب- ومنها ، حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والحاكم أن النبي r قال: " إن كان في شيء مما تتداوون به خير فالحجامة " في رواية ابن مسعود أنه قال: " ما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا قالوا: يا محمد بشر أمتك بالحجامة " رواها الترمذي.
وروى مثلها أحمد والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا. وأحاديث الأمر بالحجامة كثيرة ، ولكن ليس في شيء منها إسناد الخبر عنها إلى الملائكة، إلا رواية ابن مسعود، فإن صحت رواية ابن مسعود، وإلا تكون أحاديث الحجامة كلها من النوع الثاني، وهو ما لا حجة فيه.
تنبيه:
لابد لاعتبار الأحاديث التي صت هذه الفئة الأخيرة حجة في باب الطب ليس أحد أمرين.
الأول: أن يكون الحديث على درجة عالية من الصحة، لأن تطبيقه على الأجسام الإنسانية قد يكون فيه ضرر كبير، فإن وقع الضرر فلا يكون للطبيب عذر أن يتبين كون العلاج مبنيا على حديث صحيح ظاهرا لكنه في الحقيقة موهوم أو مكذوب .
ولذا أقترح أن لا يعتبر حجة من الناحية الطبية الصرفة حديث ما لم يكن ثابتا على سبيل القطع، وهو الحديث المتواتر، أو على شبه القطع ، وهو ما ورد من طريقين على الأقل ، منفصلين، من أول السند إلى آخره ، بحيث يعرف أنه لم ينفرد برواية الحديث راو واحد في أي طبقة من طبقات السند ، حتى ولو كان صحابيا ، لاحتمال الوهم والغلط ، مع اشتراط كون كل من الروايتين أو الروايات صحيحة لذاتها، طبقا لما هو معمول به في علم مصطلح الحديث. وهذا الأمر إذا أريد تحقيقه يطرح عبئا على المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ، لتكليف بعض أهل الاختصاص العمل لذلك، حتى يعرف من الأحاديث الطبية ما هو مقطوع به طبقا لما ذكرنا هنا.
الثاني. أن يخضع مضمون الحديث للتجارب الطبية تحت نظر الاختصاصيين. فإن ثبتت صلاحيته كفى ، وتكون التجارب هي الحجة في ذلك.
النوع الثاني
وهو مالا حجة فيه من أحاديث الطب
وهو سائر الأحاديث النبوية الواردة في الطب والعلاج ، وليس فيها ما يشعر أنها من قبل الله تعالى، أو أنها من قبيل الشرع.
وقد وضح من القواعد المذكورة في الفصل الأول أن هذا النوع ثمن الأحاديث ليس من قبيل التشريع.
ونحن نذكر جملة من تلك الأحاديث على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
ا- فمنها حديث: " أصل كل داء البردة " رواه ابن السني وأبو نعيم في " الطب " والدار قطني في " العلاج "، من حديث علي وأبي سعيد وأنس بن مالك.
البردة : برودة المعدة.
2- ومنها حديث مقدام بن معد يكرب عند أحمد والترمذي مرفوعا "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وتلث لنفسه. "
ومنها حديث.... عند الإمام أحمد مرفوعا " كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ المعدة "
3- ومنها أحاديث الحجامة، كما تقدم في الفئة السادسة من النوع الأول، إن لم يصح الحديث بأن الملائكة أمروا النبي r بها .
فمنها قوله r " إذا اشتد الحر فاستعينوا بالحجامة ، ولا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله " رواه الحاكم الحاكم من حديث أنس . .
4- ومنها حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود مرفوعا " إن كان في شيء مما تتداوون به خير فالحجامة " .
في أحاديث مختلفة جمعها صاحب كنز العمال ، أن الحجامة تذهب الدم ، وتجلو البصر، وتجف الصلب، وتنفع لن وجع الرأس الأضراس ، والنعاس، والبرص ، والجنون.
وروى عبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن يهودية قدمت للنبي r في خيبر طعاما مسموماً فأكل منه ، وأكل منه بعض اصحابه . وفي القصة أن الوحي أخبره بالسم ن فاحتجم النبي r ثلاثة على الكاهل ، وأمر أصحابه أن يحتجموا ، فاحتجموا فمات بعضهم .
5 - ومنها حديث ابن عباس عند الترمزي ولحاكم ، وحديث ابن مسعود عن
الترمذي وأبي نعيم في الطب " إن خير ما تداويتم به اللدود والسعوط والحجامة والمشي ، وخير ما اكتحلتم به الإثمد ، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر " .
اللدود : هو الدواء الذي يسقاه المريض من أحد جانبي الفم .
والمشي : الإسهال . والمراد أخذ المسهل .
6- ومنها حديث أنس عند مالك وأحمد مرفوعا " أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري " .
(القسط البحري : عود يجاء به من الهند ، يتبخر به النساء والأطفال. وقيل هو العود المعروف (كذا في لسان العرب) أي هو عود الطيب الهندي ).
7- ومثل هذا حديث آخر في العود ، وهو ما رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث أم قيس بنت محصن أن النبي r قال: " علام تدعرن أولادكن بهذا العلاق ؟ عليكن بهذا العود الهندي ، فإن فيه سبعة أشفية من سبعة أدواء ، منها ذات الجنب ، ويسعط به من العذرة ، ويلد به من ذات الجنب ".
جاء في لسان العرب ، ومثله في فتح الباري (10/ 149) 0 العذرة وجع في الحلق يهيج من الدم . وقيل هي قرحة تخرج في الحزم الذي بين الحلق والأنف، يعرض للصبيان عند طلوع العذرة (وهي نجم يطلع في أيام الحر) فتعمد المرأة إلى خرقة، فتفتلها فتلا شديدا، وتدخلها في أنف الصبي، فتطعن ذلك الموضع ، فينفجر منه دم أسود ربما أقرحه. وذلك الطعن يسمى الدغر .
8- ومنها- حديث عائشة مرفوعا، عند أحمد " مكان الكي التكميد ، ومكان العلاق السعوط ، ومكان النفخ اللدود ".
9- ومنها. حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم وأبي داود " من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا يسخر. "
وحديث عائشة مرفوعا عند مسلم " إن في عجوة العالية شفاء ، وإنها ترياق أول البكرة ."
(العالية القرى والحوائط التي بجوار المدينة المنورة من جهتها العليا من جهة نجد ، والسافلة ما كان من أسفلها من قبل البحر ، والترياق دواء السم ) .
وحديث عائشة مرفوعا أيضا عند ابن عدي وأبي نعيم في " لطب " : " ينفع من الجذام أن تأخذ سبع ثمرات من عجوة المدينة كل يوم ، تفعل ذلك سبعة أيام " .
10 - ومنها حديث سعد مرفوعا عند أبي داود " إنك رجل مقؤود ، ائت الحارث ابن كلدة أخا ثقيف ، فإنه رجل يتطبب ، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة ، فليجأهن بنواهن ، ثم ليدلك بهن " .
11- ومنها حديث عائشة مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم " التلبية مجمة لفؤاد المريض ، تذهب ببعض الحزن " وحديثها المرفوع ، عند ابن ماجه والحاكم " عليكم بالبغيض النافع ، التلبية ، فوالذي بيده إنه ليغسل بطن أحدكم كما يغسل أحدكم الوسخ عن وجهه بالماء " .
12 - ومنها حديث ابن عباس مرفوعا ، عند أحمد والبخاري ومسلم " الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء " وروى مثله عن ابن عمر وعائشة ورافع بن خديج وأسماء بنت أبي بكر .
13 - وحديث عائشة أنه r في مرض موته " صب عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن" .
14- ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا عند أحمد والترمذي " العجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم ، والكمأة من المن ، وفيها شفاء للعين " وروى مثله أبو سعيد وجابر مرفوعا عند أحمد والنسائي . وروى نصفه الثاني البخاري ومسلم وأحمد والنسائي مرفوعا من حديث سعيد بن زيد .
15- ومنها حديث أنس عند أحمد والحاكم " شفاء عرق النسا ألية شاة أعرابية، تذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ، ثم تشرب على الريق كل يوم جزء ".
16- وحديث طارق بن شهاب عند أحمد، وابن مسعود عند الحاكم ، مرفوعا " عليكم بألبان البقر فإنها ترم أن كل الشجر، وهو شفاء من كل داء " وفي رواية الطبراني في الكبير" عليكم بألبان البقر فإنها دواء، وأسمانها شفاء ، وإياكم ولحومها فإنها داء ".
17- وحديث أبي هريرة مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم، ومثله عند أحمد عن عائشة، وعند ابن ماجه عن عمر مرفوعا "في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام " والسام الموت .
18- ومنها حديث أنس عند النسائي مرفوعا ، ونحوه عند أحمد والترمذي والحاكم عن أسماء بنت عميس مرفوعا " ثلاث في فيهن شفاء من كل داء إلا السام: السنا والسنوت "
19- وحديث ط لمحة عند الطبراني والحاكم والضياء مرفوعا . " أتيت النبي r وبيده السفرجل ، فقال: دونكها يا أب محمد فإنها تشد القلب، وتطيب النفس، وتذهب بطخاوة الصدر " .
20- ومنها حديث أحمد والبخاري وأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء " زاد أحمد في رواية " وإنه يتقي بجناحيه الذي فيه الداء ، فليغمسه كله " وأخرجه كله أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعا .
21- ومنها الأحاديث الواردة في العدوى :
فمنها حديث أبي هريرة مرفوعا " لا يوردن ممرض على مصح " رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود .
الممرض هو الذي له لإبل مريضة ، نهاه أن يوردها على الإبل الصحيحة .
ومنها حديث أبي هريرة عند البخاري أن النبي r قال " لا عدوى ولا صفر ولا هامة . فقال أعرابي : يا رسول الله ، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء ، فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ؟ فقال رسول الله r : " فمن أعدى الأول ؟ " .
ومها حديث أحمد والبخاري عن أبي هريرة مرفوعا " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ، وفر من المجذوم فرارك من الأسد " .
وروى مسلم أوله .
22- ومنها أحاديث الجذام :
أ- كحديث ابن سعد عن عبد الله بن جعفر مرفوعا " اتقوا صاحب الجذم كما يتقى السبع: إذا هبط واديا فاهبطوا غيره ".
ب-- وحديث أحمد والطبراني وعبد الرزاق وابن جرير عن الحسين مرفوعا " لا تديموا النظر إلى المجذومين إذا كلمتموهم فليكن بينكم وبينهم قيد رمح " .
وفي صحيح مسلم كن حديث جابر أنه r قال للمجذوم " ارجع فقد بايعناك " .
23- ومنها أحاديث الغيل:
أ-- كحديث مالك ومسلم عن جذامة بنت وهب مرفوعا. " لقد هممت أن أنهى عن الغيل، فنظرت في فارس والروم فإذا هم يجيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا. " .
ب-- وكحديث أحمد وأبي داود من حديث أسماء بنت السكن مرفوعا: " لا تقتلوا أولادكم سرا، فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثرة " (100) قال السيوطي: وقد فسر مالك الغيل بأن يطأ الرجل امرأته وهي ترضع.
وفسره إبن السكيت بأن ترضع المرأة وهي حامل. كان الأطباء يقولون إن ذلك اللبن داء. والعرب تكرهه وتتقيه .
24- ومنها أحاديث الطاعون، كحديث أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف عند البخاري " إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها " رواه مسلم .
25- ومنها ما رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي r بعث إلى أبي بن كعب طبيبا، فقطع له عرقا وكواه عليه. "
26- ومنها حديث عند الإمام أحمد مرفوعا " إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء " وحديث ابن عباس مرفوعا عند ابن المنذر، " عليكم بأبوال الإبل فإن فيها شفاء للذربة بطونهم ".
ومثله ، حديث أنس في الصحيحين " أن ناسا اجتووا في المدينة ، فأمرهم النبي r أن نموا براعيه- يعني راعي الإبل- فيشربوا من أبوالها حتى صلحت أبدانهم.. الحديث " وفي رواية النسائي " فاجتووا المدينة حتى اصفرت ألوانهم وعظمت بطونهم ".
27- ومنها حديث ابن عباس عند الترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن حبان وصححه مرفوعا " (اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشر " .
28- ومنها حديث استعمال أن الرماد لقطع دم الجرح ، وهو ما رواه البخاري في قصة أحد لما دمي وجه النبي r " غمدت فاطمة إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله r فرقا الدم " .
29- ومنها حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي r قال في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات. " إنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل " .
30- ومنها حديث جابر في صحيح مسلم مرفوعا " غطوا الإناء، وأؤكوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليست عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء ، إلا وقع فيه ذلك الداء " .
فهذه الأحاديث المذكورة في هذا النوع الثاني، ونحوها من الأحاديث التي تدخل في صلب الأمور الطبية والعلاجية، لا ينبغي أن تؤخذ حجة الطب والعلاج ، بل مرجع ذلك إلى أهل الطب ، فهم أهل الاختصاص في ذلك، وقد تقدم إثبات ذلك في الفصل الأول من هذا البحث، ونقلنا هناك قوله r لأهل النخيل والزراعة " أنتم أعلم بأمور دنياكم " وشؤون الطب الصرفة هي من هذا الباب ، أهل الطب هم أهل الحذق والمعرفة بها، وإلى المرجع في هذا الباب. وقد يتبين في شيء من هذه الأحاديث الخطأ من الناحية الطبية الصرفة، وكما قال الماضي عياض: ليست في ذلك محطة ولا نقيصة، لأنها أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همة وشغل ننساه بها، ولذا يجوز على النبي r فيها ما ذكرنا- يعني الخطأ والصواب.
ثم إنه وإن قلنا في هذه الأحاديث التي من النوع الثاني من الفصل الثاني وفي أمثالها إنها ليست بحجة في باب الطب ، لأنها في نظرنا لا تدخل في الفئات الست المذكورة في النوع الأول، فذلك على الأصل في الأحاديث الواردة في الشؤون الطبية لكن قد يبدو لبعض أهل العلم في شيء منها ملحظ صحيح يكون قرينة على أنها تشريع، فتخرج بذلك عن أن تكون من هذا النوع الثاني، وتدخل في النوع الأول، وتعتبر حجة في باب الطب، كما ظهر لنا في الفئات الست. والله أعلم .
إثبات فاعلية هذه الأدوية والمعالجات:
إنه وإن قلنا في أحاديث هذا النوع الثاني وأمثالها إنها ليست حجة في الأمور الطبية، فإنه لا ينبغي مع ذلك إطراحها بالكلية ، بل ينبغي أن تثير احتمالا بالصحة، كسائر الأقوال الطبية المأثورة عن أهل التجارب والمعرفة من غير أهل الاختصاص، بل هي أولى منها ، للشبهة في أنها قد تكون مبنية على الوحي، ولو كانت شبهة ضعيفة، ولا يخفى ماذا حدث الطاعون المتقدم ذكره من الحكمة البالغة التي يؤيدها الطب الحديث كل التأييد، عام ما هو معلوم.
ولذا أرى أن تخضع للتحليل وللتجارب على الأسس المتعارفة عند أهل الاختصاص. فإن و جدت صالحة أدخلت حيز العمل ، و يكون التحليل والتجريب هو الحجة في صلاحيتها، دون كونها مما ورد عن النبي r، وخاصة وأن الكثير منها لا يثبت من حيث الرواية بطريق القطع أو شبهه على الوجه الذي تقدم بيانه في آخر الكلام على أحاديث النوع الأول، فالحاجة إلى إثبات صلاحيتها أو عددها قائمة أيضا لهذا المعنى .
وإن لم تثبت صلاحيتها أو ثبت ضررها فلا مانع من بيان ذلك للجمهور لئلا يستمر العمل بها.
تناول الأدوية المأثورة على أساس الاعتقاد الإيماني :
إن ابن: خلدون رحمه الله بعد كلامه الذي نتلقاه سابقا (ص) من أن الطب المنقول في الشرعيات عن النبي r لا ينبغي أن يحمل على أنه مشروع، وأنه ليس هناك ما يدل على ذلك ، تابع كلامه قائلا " إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني ، فيكون له أثر عظيم في النفع ، وليس ذلك في الطب المزاجي ، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية " .
وقال ابن ، حجر " استعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، وبدفع الله عنه الضرر بنيته، والعكس بالعكس " ولعله يعني بالعكس أن من استعمل الأدوية المذكورة مع عدم تصديق بها ولا يحصل بفائدتها لا يحصل له انتفاع بها. وفي بعض كلام ابن حجر في فتح الباري تشبيه ذلك بالشفاء القرآني لما في الصدور، كما قال الله تعالى ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) أي. فكما أن مواعظ القرآن لا ينتفع بها إلا من كان مؤمنا بالقرآن وهدايته، فكذلك الأدوية النبوية للأجسام لا ينتفع بها إلا من كان مؤمنا بنفعها لصدورها عن النبي r.
والذي نقوله أنه لا شك أن من فضائل النبي r أنه يجوز التبرك بآثاره، والاستشفاء بها، فقد نقل أنه r دعا بقدح فيه ماء ، فغسل يديه ووجهه ومج فيه، ثم قال لأبي موسى وبلال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما. وتوضأ وصب على جابر.
وأمر بشعراء أن يقسم بين المسلمين.
وبعض ثيابه كانت تغسل بعده ويعطى ماؤها للمرضى يستشفون بها. ثبت ذلك في صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر.
وحنك بعض صبيان الأنصار بالتمر.
وكل هذا من خصائصه r. فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يتبركوا بأفاضلهم. وليس في الأمة بعد نبيها أفضل من أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، فلم ينقل عن أحد من الصحابة، ولو حادثة واحدة، أنهم تبركوا بهؤلاء الأولياء الأربعة أو غيرهم فهذا إجماع منهم على الترك .
إذا علم هذا ، فهل يكون ما ورد من النبي r من المعالجات الطبية هو من جنس آثاره وملابسه ونحو ذلك ، حتى يستشفى بها ويتبر بها ؟
يبدو أن في هذا نظرا ، فإنه لما ثبت أن النبي r نبه على أن كما يصدر عنه في مثل ذلك هو مجرد رأي يراه ، وأنه بشر يخطيء ويصيب ، وأن الناس يأخذون من كلامه في الشؤون الدنيوية بما حدث به عن الله تعالى ، وأما ما حدث به من قبل نفسه فهم أعلم بدنياهم ، فكيف يتساوى ما نبه على عدم نفعه من الشؤون التي قالها من عند نفسه ، ما أذن فيه من التبرك بآثاره r.
ثم إن الصحابة الذين تركوا تأبير النخل إنما تركوه تصديقا لرسول الله : r وإيمانا به ، وعملا بقوله ، ومع ذلك خرج ثمره ذلك العام شيصا ، أي تالفا غير صالح، ولم يأت إيمانهم وتصديقهم كافيا ليصلح به الثمر، لأنه ليس في الحقيقة سببا لذلك . ولذلك فإن النبي r صحح لهم اعتقادهم ، وأعلمهم أنهم ما كان لهم أن يأخذوا بقوله في ذلك، فإن ذلك من شؤون الدنيا وهم بها أعلم. فكذلك هذه الأمور الطبية الصرفة ، هي من صميم الأمور الدنيوية ، لا يكفي فيه مجرد الإيمان- التصديق مع كونها ليست أسبابا في حقيقة الأمر .
وأما القياس على الشفاء القرآني بالمواعظ فهو قياس فاسد ، فإن مواعظ القرآن من لم يصدق بها لا يستمع إليها ، وإن استمع إليها فإنه لا يقبلها ولا يعمل بها، فكيف تنفعه؟ كالدواء المادي إذا لم يتناوله المريض لا ينفعه. أما إن تناوله فإن تأثيره في الأجسام لا يختلف بالتصديق وعدمه.
هذا ما ظهر لي من نتائج هذا البحث ، وآمل أن تكشف مناقشات هذا المؤتمر عن وجه الصواب في هذأ الأمر، ليكون المسلمون- وخاصة العاملين في ميادين الطب- على بصيرة فيه من أمر دينهم ودنياهم .
والله أعلم. وصلى الله على عبده ورسوله نبينا وحبيبنا محمد وآله وصحبه وسلم.
حكم التداوي:
اختلف العلماء في حكم التداوي لمن به مرض:
فذهب الشافعية إلى أنه سنة، واحتجوا بالحديث المتقدم " ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء " وقالوا: قد فعله النبي r.
قالوا: ولا نقول بوجوبه، لأنه لا يقطع بنفعه ، أي بخلاف الطعام والشراب لمن هو في مخمصة وخشي الهلاك ، فإنه يجب عليه تناوله لأنه مقطوع بنفعه.
لكن قال الأسنوي من الشافعية : يحرك ترك التداوي في جرح يظن فيه التلف ونحو ذلك. (44) أي لأنه لو كان جرحا بالغا وتركه ينزف لمات منه، وربط الجرح حينئذ نافع يقينا أو شبه اليقين. وقد داوى النبي r جرحه يوم أحد. غير أن بعض الفقهاء، منهم النووي في شرح المهذب ، ادعوا أن ترك التداوي توكلا أفضل. وقال بعضهم: التداوي لضعيف التوكل ، وترك التداوي لقوي التوكل أفضل.
وهذا لا يستقيم مع ما علم قطعا أن النبي r تداوى مرات كثيرة، وأنه كانت وفود العرب ترد عليه، وتنعت له الأدوية ، فتصنعها له عائشة ، كما تقدمت الرواية بذلك، وهو أقوى المتوكلين بلا شك. وقد قدمت قول ابن حجر إنه لا منافاة أصلا بين الأخذ بالأسباب وبين التوكل.
ولم يرد في القرآن فيما نعلم ما يفيد المنافاة المذكورة.
وورد في السنة في باب الطب حديثان ظاهرهما يفيد ذلك:
أولهما: حديث عمران بن حصين عند أحمد والبخاري ومسلم، وفيه أن النبي r ذكر سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ، ثم قال : " هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون ".
فهذا ظاهره أنهم تركوا التداوي بالكي توكلا على الله.
ولكن يحتمل أن صفة التوكل في الحديث ليست متعلقة بالأمور الثلاثة، وهي ترك الاسترقاء والتطير والاكتواء، بل هي أمر رابع مستقل مضاف إلى الثلاثة، فلا تنافي أصلا .
ويحتمل- وهو الأوجه - أنه لما كان الكي منهيا عنه ، لما فيه من التعذيب بالنار، فقد أمرنا بتركه والبحث عما سواه من أنواع المداواة، مع التوكل على الله في أن ييسر دواء آخر. قال ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه " لم يتوكل من اكتوى " والثاني كي الجرح إذا نغل أي فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي يشرع التداوي له. فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى ، لما فيه من التعذيب بالنار لأمر غير محقق .
وثانيهما: حديث في الكي أيضا ، وهو ما رواه المغيرة أن رسول الله r قال: " من استرقى أو اكتوى برىء من التوكل " رواه أحمد والترمذي. والقول فيه شبيه بما تقدم.
ونقل ابن حجر في موضعا خر، بعض كلام من أوغل في هذا الباب، وادعى أن خواص الأولياء الذين اشتد توكلهم لا يضرهم ترك الأسباب. وأن الأسباب وفوض وأخلص في ذلك كان أرفع مقاما، أي ممن باشرها، وأن الذي يستحق اسم التوكل هو من لم يخالط قلبه شيء، حتى من المع الضاري، والعدو، ومن لم يسع في طلب رزق، ولا مداواة ألم.
وعندي أن هذا من أعظم الانتكاسات التي طرأت على العقلية الإسلامية بتأثير ثقافات الشعوب التي دخلت في الإسلام، والتي أدت إلى التواكل، والانصراف عن الأخذ بأسباب الصحة والقوة والتقدم والنصر، اعتمادا على وضع فكرة التوكل في غير موضعها. وأصبح ذلك في الأمة الإسلامية مرضا مزمنا عر علاجه، وأيس منه الأطباء، إلا من شاء الله له أن يستمسك بالكتاب والسنة الصحيحة، عالما أن الحق كل الحق فيما ورد فيهما بعد أن يفهما حق الفهم، والله المستعان.
وقد سأل رجل الإمام أحمد قائلا. إنه يريد أن يخرج من العراق إلى مكة للحج بلا زاد، توكلا على الله. فقال الإمام أحمد للسائل : أخرج مع غير القافلة. قال: لا أستطيع. فقال: إنك لم تتوكل على الله ، ولكن توكلت على أزواد الناس.
ولذا قال ابن حجر رحمه الله " الحق أن من وثق بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماض، لم يقدح في توكله تعاطي الأسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر r بين درعين، ولبس على رأسه المغفر ، وأقعد الرماة على فم الشعب ، وخندقا حول المدينة ، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب ، وأدخر لأهله قوت سنتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك. وقال للذي سأله: " أعقل ناقتي أو أدعها ؟ " قال " اعقلها وتؤكل " فأشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل . كلام ابن حجر.
وأنا ألتمس من كل من يذهب هذا المذهب المردود المرفوض، أن يدلني ولو على واقعة واحدة ترك فيها النبي r الأخذ بسبب معتاد، وهو يقدر عليه، في أمر يحتاج إليه، فترك الأخذ بالسبب توكل! على الله. بل كان r يأخذ بالأسباب التي يقدر عليها ويتوكل على الله .
وقد قال ابن القيم في ذلك كلمة عظيمة لمن يعقلون شرع الله، قال: "التداوي لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه، من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، الذي حقيقته: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره فيهما، ولابد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا " .
ب- ومنها حديث أبي رمثة أن النبي r قال لطبيب " الله الطبيب، بل أنت رفيق، طبيبها الذي خلقها " رواه أبو داود.
هذا الحديث إقرار للعمل بالطب. وفيه التنبيه إلى قوى البرء المركبة في البدن الإنساني في أصل خلقته، وأن مهمة الطبيب الرفق بالمريض لإتاحة الفرصة لهذه القوى كي تعمل عملها.
وشبيه بهذا قول النبي r في رقية المريض، كما في صحيح البخاري، عن عائشة " اللهم اشف، وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك " فبين أن حقيقة الشفاء هي بيد الله تعالى وحده.
الفئة الثانية:
أحاديث فيها توجيهات شرعية متعلقة بعملية التداوي وشؤون المرضى :
أ- من ذلك حديث البخاري عن الصحابية ربيع بنت معوذ ، قالت " كنا نغزو مع رسول الله-حب نسقي القوم، ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة " وفي رواية " ونداوى الجرحى ".
ففيه جواز مداواة المرأة للجرحى من الرجال. قال ابن حجر : يجوز عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجس باليد وغير ذلك .
وهذا الذي قاله عندي فيه نظر، فليس في الحديث إشارة إلى أي ضرورة، بل هي الحاجة إلى العلاج، والحاجة أخف من الضرورة. وقد كان يمكن تفريغ بعض الرجال لذلك العمل، لو كان في الأصل محرما.
وأيضا ما ورد أن رفيدة الأسلمية كان لها خيمة بالمسجد تداوي فيها الجرحى، ينفي وجوب الاقتصار على قدرا لضرورة.
ب- ومنها أحاديث الأمر بعيادة المريض ، وأن النبي r كان يعودهم، حتى " إن غلاما يهوديا كان يخدم النبي r ، فمرض، فأتاه النبي r يعوده فقال: أسلم. فأسلم " وكان إذا عاد المريض ربما وضع يده على جبهته، ومسح على صدره وبطنه، ودعا له. نقل البخاري أنه r فعل ذلك عندما زار سعدا. وربما رقى المريض.
ففي صحيح البخاري من حديث عائشة: " أن النبي r كان إذا أتى مريضا، أو أتى إليه به قال: "أذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما "
ج - ومنها حديث النهي عن التداوي بالمحرمات:
كحديث أنه r سئل عن الخمر يتداوى بها فقال: " إنها ليست بدواء ولكنها داء " رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي .
وكحديث: " أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " رواه عبد الرزاق والطبراني مرفوعا. ورواه الحاكم عن ابن مسعود موقوفا.
وكحديث " إن الله جعل لكل داء دواء، فتداووا ، ولا تتداوا بحرام "
فهذه الأحاديث هي من قبيل الشرع، لأنه r ناط الحكم بمعنى شرعي، وهو التحريم، فما كان من المواد محرما لم يجز التداوي به.
ولا يعني هذا أنه لا يجوز استعماله عند الضرورة، مع عدم وجود دواء آخر غير الدواء المحرم، بل إن الضرورة تبيح المحظور، فيعود حلالا لذلك المضطر، لقوله تعالى: ( وقد فضل لكم ما حرتم عليكم إلا ما اضطررتم إليه ) فإذا عاد حلالا لم يكن داخلا في قوله (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ) ومن هذا القبيل التداوي بالنجاسات.
وفي كل من النوعين خلاف يعرف بالرجوع إلى كتب الفقه.
د- ومنها: حديث أم سلمة عند البخاري " أن امرأة توفي زوجها، فاشتكت عينها، فذكروها للنبي r ، وذكروا له الكحل وأنه يخاف على عينها " في الحديث أنه نهاها عن ذلك، أي لأن المعتدة لا يحل لها شرعا أن تتزين بكحل أو غيره.
أما إن كان النهي عن الدواء لا لعلة شرعية ، بل لكونه r قدر فيه ضررا بمقتضى تجربته وخبرته الدنيوية فلا يكون من هذا الباب ، بل يكون من النوع الثاني ، وهو ما لا يكون شرعا يتبع. فمنها النهي عن الغيل، وهو رضاع الحامل، ومنها النهي عن علاج العذرة بالعلاق كما يأتي في النوع الثاني.
الفئة الثالثة:
أحاديث أبطلت أنواعا من المعالجات، كانت سائدة في الجاهلية، تنافي صحة الاعتقاد الإيماني، لأنها ليست أسبابا حقيقية للشفاء:
أ- من ذلك ما و رد أن النبي r " دخل عليه رجل وفي يده حلقة من صفر. فقال ما هذا؟ فقال: من الواهنة. فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، وأنت لو مت وأنت ترى (أي تعتقد) أنها تنفعك لمت على غير الفطرة " رواه أحمد والطبراني من حديث عمران بن حصين. ورواه الطبري.
(الواهنة ريح تأخذ في المنكبين عند الكبر. وقيل مرض يأخذ في عضد الرجل. كذا في لسان العرب).
ب- ومنها " أن عبد الله بن عكيم الجهني الصحابي رضي الله عنه خرج به خراج، فقيل له. ألا تعلق عليه خرزا؟ فقال: لو علمت أن نفسي تكون فيه ما علقته. ثم قال: إن نبي الله r نهانا عنه " رواه ابن جرير وصححه .
ج- ومنها قوله " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديث ابن مسعود. ومثله حديث: " من علق تميمة فقد أشرك " والمراد بالرقى الرقى المجهولة، وما كانت الاستعاذة فيها بغير الله تعالى، بخلاف الرقية بالفاتحة والمعوذتين والأدعية المشروعة. والمراد بالتمائم الأحجبة التي تعلق على الأطفال والبيوت والسيارات ونحو ذلك، يزعم الجهلة أنها ترد العين، أو تمنع المرض والحوادث. والتولة شيء كانوا يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها.
الفئة الرابعة:
أحاديث أمرت بأدوية ومعالجات ربطتها بأحكام تعبدية وشعائر دينية.
أ- من ذلك حديث أحمد والنسائي عن عائشة مرفوعا: " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " وفي صحيحي البخاري أيضا " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة ".
ب- ونهى أحاديث الاسترقاء ، منها ما في صحيح البخاري من حديث عائشة قالت: كان رسوله الله r إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد والمعوذتين جميعا، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده. قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به " ثقته يا رواية عند البخاري أيضا بأنها كانت تمسح جسد النبي r بيد نفس " بعد أن ينفث هو بها.
ج- ومنها أحاديث الدعاء للمريض ، كقوله r " اللهم رب الناس، مذهب الباس ، اشف وألت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما ".
د- ومنها حديث " داووا مرضاكم بالصدقة " .
الفئة الخامسة:
أحاديث مبنية على النص القرآني:
أ- فمن ذلك أحاديث التداوي بالعسل، منها حديث البخاري عن جابر بن عبد الله أن النبي r قال " إن كان في شيء ، من أدويتكم خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء. ولا أحب أن أكتوي ".
وإنما قلنا إنها حجة لكونها أخذا بنص القرآن: ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ).
ب - ومنها ما روى عمر بن الخطاب عند أحمد والترمذي والحاكم أن النبي r قال " كلو! الزيت وادهنوا به، فإنه من شجرة مباركة " فإنه ينظر إلى قوله تعالى: ( وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ) .
الفئة السادسة:
أحاديث فيها ذكر أدوية أو معالجات يخبر النبي r أنه علمها بطريق الوحي ، أو إخبار الملائكة، أو أن الله يحبيا، أو يكرهها، و نحو ذلك.
وإنما كان هذ ا النوع من الأدوية صحيحا ومشروعا لأنه منسوب إلى الله تعالى أو ملائكته. وقد تقدم قول النبي r في حديث تأبير النخل " ما حدثتكم عن الله فخذوا به، وما حدثتكم من رأي فإنما أنا بشر أخطىء وأصيب " فهذه الفئة منضمة إلى ما حدثنا به النبي r عن الله تعالى من سائر أمور الدين، فلزمنا العمل به، سواء كان نهيا، فيمنع التداوي به، أو أمرا فيكون دواء مقبولا.
أ- فمز ذلك أحاديث الأمر بالتداوي وأصل العمل بالطب كما تقدم في الفئة الأولى لأن فيه " أن الله ما أنزل من داء إلا " أنزل له شفاء " فأسند ذلك إلى الله تعالى، ومنها أحاديث الني عن التداوي بالمحرمات كما تقدم في الفئة الثانية ، كما في رواية " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ".
ب- ومنها ، حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والحاكم أن النبي r قال: " إن كان في شيء مما تتداوون به خير فالحجامة " في رواية ابن مسعود أنه قال: " ما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا قالوا: يا محمد بشر أمتك بالحجامة " رواها الترمذي.
وروى مثلها أحمد والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا. وأحاديث الأمر بالحجامة كثيرة ، ولكن ليس في شيء منها إسناد الخبر عنها إلى الملائكة، إلا رواية ابن مسعود، فإن صحت رواية ابن مسعود، وإلا تكون أحاديث الحجامة كلها من النوع الثاني، وهو ما لا حجة فيه.
تنبيه:
لابد لاعتبار الأحاديث التي صت هذه الفئة الأخيرة حجة في باب الطب ليس أحد أمرين.
الأول: أن يكون الحديث على درجة عالية من الصحة، لأن تطبيقه على الأجسام الإنسانية قد يكون فيه ضرر كبير، فإن وقع الضرر فلا يكون للطبيب عذر أن يتبين كون العلاج مبنيا على حديث صحيح ظاهرا لكنه في الحقيقة موهوم أو مكذوب .
ولذا أقترح أن لا يعتبر حجة من الناحية الطبية الصرفة حديث ما لم يكن ثابتا على سبيل القطع، وهو الحديث المتواتر، أو على شبه القطع ، وهو ما ورد من طريقين على الأقل ، منفصلين، من أول السند إلى آخره ، بحيث يعرف أنه لم ينفرد برواية الحديث راو واحد في أي طبقة من طبقات السند ، حتى ولو كان صحابيا ، لاحتمال الوهم والغلط ، مع اشتراط كون كل من الروايتين أو الروايات صحيحة لذاتها، طبقا لما هو معمول به في علم مصطلح الحديث. وهذا الأمر إذا أريد تحقيقه يطرح عبئا على المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ، لتكليف بعض أهل الاختصاص العمل لذلك، حتى يعرف من الأحاديث الطبية ما هو مقطوع به طبقا لما ذكرنا هنا.
الثاني. أن يخضع مضمون الحديث للتجارب الطبية تحت نظر الاختصاصيين. فإن ثبتت صلاحيته كفى ، وتكون التجارب هي الحجة في ذلك.
النوع الثاني
وهو مالا حجة فيه من أحاديث الطب
وهو سائر الأحاديث النبوية الواردة في الطب والعلاج ، وليس فيها ما يشعر أنها من قبل الله تعالى، أو أنها من قبيل الشرع.
وقد وضح من القواعد المذكورة في الفصل الأول أن هذا النوع ثمن الأحاديث ليس من قبيل التشريع.
ونحن نذكر جملة من تلك الأحاديث على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:
ا- فمنها حديث: " أصل كل داء البردة " رواه ابن السني وأبو نعيم في " الطب " والدار قطني في " العلاج "، من حديث علي وأبي سعيد وأنس بن مالك.
البردة : برودة المعدة.
2- ومنها حديث مقدام بن معد يكرب عند أحمد والترمذي مرفوعا "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وتلث لنفسه. "
ومنها حديث.... عند الإمام أحمد مرفوعا " كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ المعدة "
3- ومنها أحاديث الحجامة، كما تقدم في الفئة السادسة من النوع الأول، إن لم يصح الحديث بأن الملائكة أمروا النبي r بها .
فمنها قوله r " إذا اشتد الحر فاستعينوا بالحجامة ، ولا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله " رواه الحاكم الحاكم من حديث أنس . .
4- ومنها حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود مرفوعا " إن كان في شيء مما تتداوون به خير فالحجامة " .
في أحاديث مختلفة جمعها صاحب كنز العمال ، أن الحجامة تذهب الدم ، وتجلو البصر، وتجف الصلب، وتنفع لن وجع الرأس الأضراس ، والنعاس، والبرص ، والجنون.
وروى عبد الرزاق من حديث عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن يهودية قدمت للنبي r في خيبر طعاما مسموماً فأكل منه ، وأكل منه بعض اصحابه . وفي القصة أن الوحي أخبره بالسم ن فاحتجم النبي r ثلاثة على الكاهل ، وأمر أصحابه أن يحتجموا ، فاحتجموا فمات بعضهم .
5 - ومنها حديث ابن عباس عند الترمزي ولحاكم ، وحديث ابن مسعود عن
الترمذي وأبي نعيم في الطب " إن خير ما تداويتم به اللدود والسعوط والحجامة والمشي ، وخير ما اكتحلتم به الإثمد ، فإنه يجلو البصر وينبت الشعر " .
اللدود : هو الدواء الذي يسقاه المريض من أحد جانبي الفم .
والمشي : الإسهال . والمراد أخذ المسهل .
6- ومنها حديث أنس عند مالك وأحمد مرفوعا " أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري " .
(القسط البحري : عود يجاء به من الهند ، يتبخر به النساء والأطفال. وقيل هو العود المعروف (كذا في لسان العرب) أي هو عود الطيب الهندي ).
7- ومثل هذا حديث آخر في العود ، وهو ما رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث أم قيس بنت محصن أن النبي r قال: " علام تدعرن أولادكن بهذا العلاق ؟ عليكن بهذا العود الهندي ، فإن فيه سبعة أشفية من سبعة أدواء ، منها ذات الجنب ، ويسعط به من العذرة ، ويلد به من ذات الجنب ".
جاء في لسان العرب ، ومثله في فتح الباري (10/ 149) 0 العذرة وجع في الحلق يهيج من الدم . وقيل هي قرحة تخرج في الحزم الذي بين الحلق والأنف، يعرض للصبيان عند طلوع العذرة (وهي نجم يطلع في أيام الحر) فتعمد المرأة إلى خرقة، فتفتلها فتلا شديدا، وتدخلها في أنف الصبي، فتطعن ذلك الموضع ، فينفجر منه دم أسود ربما أقرحه. وذلك الطعن يسمى الدغر .
8- ومنها- حديث عائشة مرفوعا، عند أحمد " مكان الكي التكميد ، ومكان العلاق السعوط ، ومكان النفخ اللدود ".
9- ومنها. حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم وأبي داود " من تصبح كل يوم بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا يسخر. "
وحديث عائشة مرفوعا عند مسلم " إن في عجوة العالية شفاء ، وإنها ترياق أول البكرة ."
(العالية القرى والحوائط التي بجوار المدينة المنورة من جهتها العليا من جهة نجد ، والسافلة ما كان من أسفلها من قبل البحر ، والترياق دواء السم ) .
وحديث عائشة مرفوعا أيضا عند ابن عدي وأبي نعيم في " لطب " : " ينفع من الجذام أن تأخذ سبع ثمرات من عجوة المدينة كل يوم ، تفعل ذلك سبعة أيام " .
10 - ومنها حديث سعد مرفوعا عند أبي داود " إنك رجل مقؤود ، ائت الحارث ابن كلدة أخا ثقيف ، فإنه رجل يتطبب ، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة ، فليجأهن بنواهن ، ثم ليدلك بهن " .
11- ومنها حديث عائشة مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم " التلبية مجمة لفؤاد المريض ، تذهب ببعض الحزن " وحديثها المرفوع ، عند ابن ماجه والحاكم " عليكم بالبغيض النافع ، التلبية ، فوالذي بيده إنه ليغسل بطن أحدكم كما يغسل أحدكم الوسخ عن وجهه بالماء " .
12 - ومنها حديث ابن عباس مرفوعا ، عند أحمد والبخاري ومسلم " الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء " وروى مثله عن ابن عمر وعائشة ورافع بن خديج وأسماء بنت أبي بكر .
13 - وحديث عائشة أنه r في مرض موته " صب عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن" .
14- ومنها حديث أبي هريرة مرفوعا عند أحمد والترمذي " العجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم ، والكمأة من المن ، وفيها شفاء للعين " وروى مثله أبو سعيد وجابر مرفوعا عند أحمد والنسائي . وروى نصفه الثاني البخاري ومسلم وأحمد والنسائي مرفوعا من حديث سعيد بن زيد .
15- ومنها حديث أنس عند أحمد والحاكم " شفاء عرق النسا ألية شاة أعرابية، تذاب، ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ، ثم تشرب على الريق كل يوم جزء ".
16- وحديث طارق بن شهاب عند أحمد، وابن مسعود عند الحاكم ، مرفوعا " عليكم بألبان البقر فإنها ترم أن كل الشجر، وهو شفاء من كل داء " وفي رواية الطبراني في الكبير" عليكم بألبان البقر فإنها دواء، وأسمانها شفاء ، وإياكم ولحومها فإنها داء ".
17- وحديث أبي هريرة مرفوعا عند أحمد والبخاري ومسلم، ومثله عند أحمد عن عائشة، وعند ابن ماجه عن عمر مرفوعا "في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام " والسام الموت .
18- ومنها حديث أنس عند النسائي مرفوعا ، ونحوه عند أحمد والترمذي والحاكم عن أسماء بنت عميس مرفوعا " ثلاث في فيهن شفاء من كل داء إلا السام: السنا والسنوت "
19- وحديث ط لمحة عند الطبراني والحاكم والضياء مرفوعا . " أتيت النبي r وبيده السفرجل ، فقال: دونكها يا أب محمد فإنها تشد القلب، وتطيب النفس، وتذهب بطخاوة الصدر " .
20- ومنها حديث أحمد والبخاري وأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء " زاد أحمد في رواية " وإنه يتقي بجناحيه الذي فيه الداء ، فليغمسه كله " وأخرجه كله أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعا .
21- ومنها الأحاديث الواردة في العدوى :
فمنها حديث أبي هريرة مرفوعا " لا يوردن ممرض على مصح " رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود .
الممرض هو الذي له لإبل مريضة ، نهاه أن يوردها على الإبل الصحيحة .
ومنها حديث أبي هريرة عند البخاري أن النبي r قال " لا عدوى ولا صفر ولا هامة . فقال أعرابي : يا رسول الله ، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء ، فيخالطها البعير الأجرب فيجربها ؟ فقال رسول الله r : " فمن أعدى الأول ؟ " .
ومها حديث أحمد والبخاري عن أبي هريرة مرفوعا " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ، وفر من المجذوم فرارك من الأسد " .
وروى مسلم أوله .
22- ومنها أحاديث الجذام :
أ- كحديث ابن سعد عن عبد الله بن جعفر مرفوعا " اتقوا صاحب الجذم كما يتقى السبع: إذا هبط واديا فاهبطوا غيره ".
ب-- وحديث أحمد والطبراني وعبد الرزاق وابن جرير عن الحسين مرفوعا " لا تديموا النظر إلى المجذومين إذا كلمتموهم فليكن بينكم وبينهم قيد رمح " .
وفي صحيح مسلم كن حديث جابر أنه r قال للمجذوم " ارجع فقد بايعناك " .
23- ومنها أحاديث الغيل:
أ-- كحديث مالك ومسلم عن جذامة بنت وهب مرفوعا. " لقد هممت أن أنهى عن الغيل، فنظرت في فارس والروم فإذا هم يجيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا. " .
ب-- وكحديث أحمد وأبي داود من حديث أسماء بنت السكن مرفوعا: " لا تقتلوا أولادكم سرا، فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثرة " (100) قال السيوطي: وقد فسر مالك الغيل بأن يطأ الرجل امرأته وهي ترضع.
وفسره إبن السكيت بأن ترضع المرأة وهي حامل. كان الأطباء يقولون إن ذلك اللبن داء. والعرب تكرهه وتتقيه .
24- ومنها أحاديث الطاعون، كحديث أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف عند البخاري " إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها " رواه مسلم .
25- ومنها ما رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي r بعث إلى أبي بن كعب طبيبا، فقطع له عرقا وكواه عليه. "
26- ومنها حديث عند الإمام أحمد مرفوعا " إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء " وحديث ابن عباس مرفوعا عند ابن المنذر، " عليكم بأبوال الإبل فإن فيها شفاء للذربة بطونهم ".
ومثله ، حديث أنس في الصحيحين " أن ناسا اجتووا في المدينة ، فأمرهم النبي r أن نموا براعيه- يعني راعي الإبل- فيشربوا من أبوالها حتى صلحت أبدانهم.. الحديث " وفي رواية النسائي " فاجتووا المدينة حتى اصفرت ألوانهم وعظمت بطونهم ".
27- ومنها حديث ابن عباس عند الترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن حبان وصححه مرفوعا " (اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشر " .
28- ومنها حديث استعمال أن الرماد لقطع دم الجرح ، وهو ما رواه البخاري في قصة أحد لما دمي وجه النبي r " غمدت فاطمة إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله r فرقا الدم " .
29- ومنها حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي r قال في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات. " إنهما يلتمسان البصر، ويسقطان الحبل " .
30- ومنها حديث جابر في صحيح مسلم مرفوعا " غطوا الإناء، وأؤكوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليست عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء ، إلا وقع فيه ذلك الداء " .
فهذه الأحاديث المذكورة في هذا النوع الثاني، ونحوها من الأحاديث التي تدخل في صلب الأمور الطبية والعلاجية، لا ينبغي أن تؤخذ حجة الطب والعلاج ، بل مرجع ذلك إلى أهل الطب ، فهم أهل الاختصاص في ذلك، وقد تقدم إثبات ذلك في الفصل الأول من هذا البحث، ونقلنا هناك قوله r لأهل النخيل والزراعة " أنتم أعلم بأمور دنياكم " وشؤون الطب الصرفة هي من هذا الباب ، أهل الطب هم أهل الحذق والمعرفة بها، وإلى المرجع في هذا الباب. وقد يتبين في شيء من هذه الأحاديث الخطأ من الناحية الطبية الصرفة، وكما قال الماضي عياض: ليست في ذلك محطة ولا نقيصة، لأنها أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همة وشغل ننساه بها، ولذا يجوز على النبي r فيها ما ذكرنا- يعني الخطأ والصواب.
ثم إنه وإن قلنا في هذه الأحاديث التي من النوع الثاني من الفصل الثاني وفي أمثالها إنها ليست بحجة في باب الطب ، لأنها في نظرنا لا تدخل في الفئات الست المذكورة في النوع الأول، فذلك على الأصل في الأحاديث الواردة في الشؤون الطبية لكن قد يبدو لبعض أهل العلم في شيء منها ملحظ صحيح يكون قرينة على أنها تشريع، فتخرج بذلك عن أن تكون من هذا النوع الثاني، وتدخل في النوع الأول، وتعتبر حجة في باب الطب، كما ظهر لنا في الفئات الست. والله أعلم .
إثبات فاعلية هذه الأدوية والمعالجات:
إنه وإن قلنا في أحاديث هذا النوع الثاني وأمثالها إنها ليست حجة في الأمور الطبية، فإنه لا ينبغي مع ذلك إطراحها بالكلية ، بل ينبغي أن تثير احتمالا بالصحة، كسائر الأقوال الطبية المأثورة عن أهل التجارب والمعرفة من غير أهل الاختصاص، بل هي أولى منها ، للشبهة في أنها قد تكون مبنية على الوحي، ولو كانت شبهة ضعيفة، ولا يخفى ماذا حدث الطاعون المتقدم ذكره من الحكمة البالغة التي يؤيدها الطب الحديث كل التأييد، عام ما هو معلوم.
ولذا أرى أن تخضع للتحليل وللتجارب على الأسس المتعارفة عند أهل الاختصاص. فإن و جدت صالحة أدخلت حيز العمل ، و يكون التحليل والتجريب هو الحجة في صلاحيتها، دون كونها مما ورد عن النبي r، وخاصة وأن الكثير منها لا يثبت من حيث الرواية بطريق القطع أو شبهه على الوجه الذي تقدم بيانه في آخر الكلام على أحاديث النوع الأول، فالحاجة إلى إثبات صلاحيتها أو عددها قائمة أيضا لهذا المعنى .
وإن لم تثبت صلاحيتها أو ثبت ضررها فلا مانع من بيان ذلك للجمهور لئلا يستمر العمل بها.
تناول الأدوية المأثورة على أساس الاعتقاد الإيماني :
إن ابن: خلدون رحمه الله بعد كلامه الذي نتلقاه سابقا (ص) من أن الطب المنقول في الشرعيات عن النبي r لا ينبغي أن يحمل على أنه مشروع، وأنه ليس هناك ما يدل على ذلك ، تابع كلامه قائلا " إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني ، فيكون له أثر عظيم في النفع ، وليس ذلك في الطب المزاجي ، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية " .
وقال ابن ، حجر " استعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، وبدفع الله عنه الضرر بنيته، والعكس بالعكس " ولعله يعني بالعكس أن من استعمل الأدوية المذكورة مع عدم تصديق بها ولا يحصل بفائدتها لا يحصل له انتفاع بها. وفي بعض كلام ابن حجر في فتح الباري تشبيه ذلك بالشفاء القرآني لما في الصدور، كما قال الله تعالى ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ) أي. فكما أن مواعظ القرآن لا ينتفع بها إلا من كان مؤمنا بالقرآن وهدايته، فكذلك الأدوية النبوية للأجسام لا ينتفع بها إلا من كان مؤمنا بنفعها لصدورها عن النبي r.
والذي نقوله أنه لا شك أن من فضائل النبي r أنه يجوز التبرك بآثاره، والاستشفاء بها، فقد نقل أنه r دعا بقدح فيه ماء ، فغسل يديه ووجهه ومج فيه، ثم قال لأبي موسى وبلال: اشربا منه، وأفرغا على وجوهكما ونحوركما. وتوضأ وصب على جابر.
وأمر بشعراء أن يقسم بين المسلمين.
وبعض ثيابه كانت تغسل بعده ويعطى ماؤها للمرضى يستشفون بها. ثبت ذلك في صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أسماء بنت أبي بكر.
وحنك بعض صبيان الأنصار بالتمر.
وكل هذا من خصائصه r. فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يتبركوا بأفاضلهم. وليس في الأمة بعد نبيها أفضل من أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، فلم ينقل عن أحد من الصحابة، ولو حادثة واحدة، أنهم تبركوا بهؤلاء الأولياء الأربعة أو غيرهم فهذا إجماع منهم على الترك .
إذا علم هذا ، فهل يكون ما ورد من النبي r من المعالجات الطبية هو من جنس آثاره وملابسه ونحو ذلك ، حتى يستشفى بها ويتبر بها ؟
يبدو أن في هذا نظرا ، فإنه لما ثبت أن النبي r نبه على أن كما يصدر عنه في مثل ذلك هو مجرد رأي يراه ، وأنه بشر يخطيء ويصيب ، وأن الناس يأخذون من كلامه في الشؤون الدنيوية بما حدث به عن الله تعالى ، وأما ما حدث به من قبل نفسه فهم أعلم بدنياهم ، فكيف يتساوى ما نبه على عدم نفعه من الشؤون التي قالها من عند نفسه ، ما أذن فيه من التبرك بآثاره r.
ثم إن الصحابة الذين تركوا تأبير النخل إنما تركوه تصديقا لرسول الله : r وإيمانا به ، وعملا بقوله ، ومع ذلك خرج ثمره ذلك العام شيصا ، أي تالفا غير صالح، ولم يأت إيمانهم وتصديقهم كافيا ليصلح به الثمر، لأنه ليس في الحقيقة سببا لذلك . ولذلك فإن النبي r صحح لهم اعتقادهم ، وأعلمهم أنهم ما كان لهم أن يأخذوا بقوله في ذلك، فإن ذلك من شؤون الدنيا وهم بها أعلم. فكذلك هذه الأمور الطبية الصرفة ، هي من صميم الأمور الدنيوية ، لا يكفي فيه مجرد الإيمان- التصديق مع كونها ليست أسبابا في حقيقة الأمر .
وأما القياس على الشفاء القرآني بالمواعظ فهو قياس فاسد ، فإن مواعظ القرآن من لم يصدق بها لا يستمع إليها ، وإن استمع إليها فإنه لا يقبلها ولا يعمل بها، فكيف تنفعه؟ كالدواء المادي إذا لم يتناوله المريض لا ينفعه. أما إن تناوله فإن تأثيره في الأجسام لا يختلف بالتصديق وعدمه.
هذا ما ظهر لي من نتائج هذا البحث ، وآمل أن تكشف مناقشات هذا المؤتمر عن وجه الصواب في هذأ الأمر، ليكون المسلمون- وخاصة العاملين في ميادين الطب- على بصيرة فيه من أمر دينهم ودنياهم .
والله أعلم. وصلى الله على عبده ورسوله نبينا وحبيبنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الصفحة الأخيرة
ويتحدّث القرآن عن الطعام والغذاء والعناية بحاجة الجسد فيثبت أنّ توفير الأمن الغذائي حقّ للانسان، وأنّه جزء من نظام الوجود، وقد بيّنت الآية الكريمـة هذا المعنى بنصّها الذي تحدّث عن الأرض والرزق فيها فقال:
{وقدَّر فيها أقواتها في أربعةِ أيّامٍ سواءً للسائلِين}.(فصّلت/10)
وفي مورد آخر من كتاب الله نجد توضيحاً لهذه الحقيقة لآدم أبي النوع البشري بقوله:
{إنّ لكَ ألاّ تجوعَ فيها ولا تَعرى * وأنّك لا تظمأُ فيها ولا تضحى}.(طه/118 ـ 119)
شرّع كلّ ذلك ووضع القوانين والأنظمة اللازمة لتوفير الحاجة الغذائية للانسان، كأحكام الزكاة التي فرضت في الموادّ الغذائية، والقمح والشعير والتمر والزبيب والأغنام والأبقار والإبل كما فرضت في النقد واستحبّت في باقي الحبوب والثمار…الخ. وحمل القرآن على الذين يكنزون الذهب والفضّة والمال، ويحرمون الآخرين من التمتّع بما يحتاجونه من طعام وشراب، وسمّى الفقراء بالمحرومين، وأثنى على الذين يجعلون جزءاً من مالهم لحلّ مشاكل المحرومين فقال:
{وفي أموالهِم حقٌّ للسائلِ والمحرومِ}.(الذاريات/19)
ولكي لا يتلاعب الجشعون وأعداء الانسانية بقوت الطبقات الفقيرة حرّم الاسلام احتكار الطعام، وأعطى الدولة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والعاملين في حقول الحسبة صلاحية المنع من الاحتكار وإرغام المحتكر على عرض الطعام المحتكَر في الأسواق لتتوفّر المادّة الغذائية، وتنخفض الأسعار بكثرة العرض.
ومما نقرأ من توجيهات صحّية وعناية بالغذاء نكتشف عناية التشريع والفكر الاسلاميين بالثقافة الغذائية والتربية الصحّية، فنجد الحثّ على تناول الأطعمة والأغذية التي تحقق نموّ الجسم نموّاً صحّياً وتوفّر له المناعة ضدّ الأمراض وعوامل الضعف.
ويمكننا أن نلخّص منهاج الاسلام وعنايته بالصحّة البدنية بالآتي:
1 ـ العناية بالتغذية وحثّ الأبوين لاسيما المرأة الحامل والمرضع على تناول بعض الأغذية للحفاظ على صحّة الحمل واكسابه الصفة الجمالية، والتأكيد على العناية بغذاء الصبي لما للتغذية من أثر في صحّة الحمل وسلامة بنية الناشئة وجمال الصورة.
ونستطيع أن نلمس حقيقة حضارية هامّة، وهي أنّ اهتمام الاسلام بفقه الأغذية لا يقل عن اهتمامه بفقه العبادة والتنظيم الاجتماعي، نجد ذلك واضحاً فيما ورد من روايات وأحكام(1).
وهناك عشرات التوصيات تتناول الفواكه والخضراوات وأنواع اللحوم والبقول، داعية إلى الاهتمام بتغذية البدن والحفاظ على التوازن الغذائي والبنية البدنية.
ــــــــــــــــــــ
1 ـ للتفصيل والاستزادة: راجع بحار الانوار للعلاّمة المجلسي/ ج104، ووسائل الشيعة للحرّ العاملي/ ج7 / ص133 وغيرهما من كتب الفقه والحديث.
2 ـ تحريم المأكولات والمشروبات والممارسات الضارّة بصحّة الجسم، ولعلّ أبرز ما في المنهاج الاسلامي وفقهه الصحّي لحفظ الصحّة وتوفير الأمن الصحّي هو تحريمـه للأطعمـة والأشربة والممارسات الضارّة بالجسم.
فقد حرّم الاسلام الخمر والمخدّرات والزنى واللواط والمساحقة وسمسرة الفواحش الجنسية والدم ولحم الخنزير وكثيراً غيرها، كما حرّم كل ما من شأنه الإضرار بالبدن عملاً بقاعدة (لا ضرر ولا ضرار) التي وردت في قول الرسول الكريم محمّد (صلى الله عليه وآله).
وفي جواب الامام الباقر (عليه السلام) لأحد سائليه نجد تحليلاً علمياً لحكمة الاباحة والتحريم، قال السائل: قلت: لِمَ حرّم الله الخمر والميتة ولحم الخنزير والدّم؟ فقال:
(إنّ الله تبارك وتعالى لم يحرّم ذلك على عباده، وأحلّ لهم ماوراء ذلك من رغبة فيما أحـلّ لهم ، ولا زهـد فيما حرّمه عليهم، ولكنّه خلق الخلق فعلم ماتقوم به أبدانهم ، ومايصلحهم، فأحلّه لهم وأباحه لهم، وعلم مايضرّهم فنهاهم عنه، ثـمّ أحلّه للمضطرّ في الوقت الذي لايقوم بدنه إلاّ به).
وإذن فملاك الاباحة هو: (ماتقوم به أبدانهم، ومايصلحهم فأحلّه لهم). وملاك التحريم هو: (وعلم مايضرّهم فنهاهم عنه).
وقد أثبتت الدراسات والابحاث العلمية أنّ أخطر أمراض البشرية المعاصرة سببها الخمر والممارسات الجنسية الشاذّة وغير المشروعة، كالزنى وغيره من أنواع الفساد الاخلاقي.
ولعلّ كارثة الايدز أو مرض (السيدا) هو أفدح كارثة مرعبة تهدد حياة البشرية والتي سببها الممارسات الجنسية الشاذّة.
أمّا أمراض الخمر والمخدّرات وأضرارها الصحيّة فتعتبر من أفدح أنواع الأمراض وأخطرها على الصحّة وسلامة المجتمع. وتلك الأمراض لا تضرّ بالصحة وحسب بل وتضرّ بالوضع الاقتصادي والأمني، فكثير من جرائم القتل والاغتصاب وحوادث السيّارات سببها الخمور والمخدّرات.
وكم تبذل الدول والحكومات من جهود وأموال لمكافحة الخمر والمخدرات دون جدوى.
3 ـ النهي عن الاسراف: ومن الممارسات الخطرة على صحّة الجسم هو الاسراف في الطعام والشراب والجنس... الخ، فكثير من الأمراض الجسدية سببها الشراهة والانسياق وراء الشهوة، والاسراف في تناول الأطعمة والأشربة، لذلك نهى القرآن عن الاسراف في الطعام والشراب وغيره، فقال تعالى:{ كلوا واشربوا ولا تُسرِفوا }.
وورد عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله):
(ما ملأ ابن آدم وعاء شرّاً من بطنه).
كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله):(المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء).
وبهذه التشريعات الصحّية وتوعية الانسان أضرار الاسراف ونهيه عنه وضع الاسلام أبرز الوصايا للحفاظ على الصحّة، وهي وصايا الوقاية من المرض، عملاً بالحكمة المشهورة:
(الوقاية خيرٌ من العلاج).
4 ـ الحفاظ على الطهارة والنظافة: وبتشريع الطهارة والدعوة الى النظافة وضع الاسلام منهاجاً واسعاً لحماية الانسان والبيئة من التلوّث والقاذورات، ومصادر الاضرار بالصحّة. ويمكننا أن نلخّص المنهاج الاسلامي في هذا المجال في مرتكزين أساسين هما:
أ ـ لقد اعتبر الاسلام بعض الأشياء نجسة، وألزم بالتطهّر منها.
وهذه النجاسات هي المصدر الأكبر للجراثيم والميكروبات المرضية، كالغائط والبول وفضلات كثير من الحيوانات والميتة والدم والمني والأشياء المتنجسة بها…الخ، فتلك الفضلات والمواد تشكّل مصدر التلوّث والاصابة بالأمراض، وبالتطهّر والتوقي منها نوفّر أُسساً هامّة في الوقاية من الأمراض وحفظ الصحّة.
ب ـ النظافة: تشكل النظافة مظهراً من أبرز مظاهر الانسان المتحضّر الذي يعني بصحّته وذوقه ومظهره، وجاء الاسلام ليحقق المصالح ويدرأ المفاسد، وفي مقدمة تلك المصالح حفظ صحّة الانسان والتسامي بذوقه ووعيه الصحّي والحضاري.
وتتركّز اليوم اهتمامات الانسان وبحوثه العلمية على حماية البيئة وحفظها من القاذورات ومصادر التلوّث التي أصبحت من أبرز مشاكل العصر. والالتزام بمنهاج الاسلام في النظافة والطهارة يحقق لنا حماية البيئة وحفظ الصحّة، والتخلّص من الأمراض التي تنتج عن إهمال النظافة والتلوّث بالقاذورات، فقد جاء التأكيد على النظافة والدعوة إلى التخلص من القاذورات والأوساخ، نجد ذلك واضحاً في بيان القرآن الكريم:
{ ما يريدُ اللهُ ليجعلَ عليكمْ منْ حرجٍ ولكنْ يُريدُ ليُطهّركُمْ وليُتمّ نعمتهُ عليكم لعلكُمْ تشكرون}.(المائدة/6)
فبالتأمّل في آية الطهارة هذه نجد القرآن قد اعتبر التطهير من القاذورات اتماماً للنعم الالهية على الانسان التي تستحق الشكر، وذلك لأنّ الطهارة إحدى مصادر الصحّة، والصحّة إحدى النعمتين اللتين ذكّر الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) الانسان بهما، بقوله:
(نعمتان مكفورتان ـ مجهولتان ـ الأمن والعافية).
وفي التوجيه النبوي الشريف نجد الدعوة إلى التخلص من الأوساخ والقاذورات، وتحقيق النظافة في الملبس والبيت والبدن...الخ.
فقد جاء ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله):
(تنظّفوا إنّ الاسلام نظيف).
(إنّ الله يبغض الوسخ الشعث).
(بئس العبد القاذورة).
5 ـ الرياضة: الرياضة مجموعة من الفعاليات والتمارين التي تصعّد قدرة البدن وقوّته وتحقق للانسان اللياقة البدنية كالسباحة وركوب الخيل والمشي والمصارعة وغيرها من الفعّاليات الاُخرى.
ومثل هذا الاعداد الرياضي يزيد من قدرة الجسم على العمل والانتاج، كما يزيد من قدرته على مقاومة الأمراض وظروف البيئة التي تتسبب بجلب الأمراض. وقد مرّ ذكر الآيات والأحاديث التي تثبت اهتمام الاسلام وتأكيده على الرياضة وتصعيد قدرة الانسان وقوته.
ومن الواضح في مبادئ التشريع الاسلامي أن الرسول (صلى الله عليه وآله) قدوة في كل شيء وعندما يفعل شيئاً إنّما يثبت بذلك شريعة للبشرية ومنهجاً للعمل، ما لم يكن ذلك الفعل خاصاً بشخص النبي الكريم(صلى الله عليه وآله).
6 ـ العمل والتخلص من الفراغ:
{فامشُوا في مناكِبِها وكُلُوا مِنْ رزقهِ وإليهِ النُّشورُ}.(الملك/15)
في هذه الآية الكريمة حثّ القرآن الانسان على السعي في الأرض لطلب الرزق والكسب الحلال، والسعي حركة وعمل، والحركة والعمل مصدران مهمّان من مصادر النشاط والقوّة.
وجاء عن الرسول (صلى الله عليه وآله) قوله:
(العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال).
وجاء أيضاً:
(إنّ الله يبغض العبد الفارغ النوّام).
والعمل لا يعطي فوائد اقتصادية وتنموية وحسب، بل ويحقق للانسان فائدة صحية أيضاً، فالعمل جهد عضلي، ينمّي قدرة الانسان وقوّته البدنية، ويكسبه صحّة وحيوية وقدرة عضلية تفوق في بعض جوانبها التمارين والنشاطات الرياضية. وكما أنّ للعمل آثاره الايجابية على بنية الجسم ولياقته الصحية، فإنّ له تأثيره على الوضع النفسي للانسان، فكثير من مشاكل الانسان النفسية سببها البطالة والفراغ، فتنعكس حالات مرضية وآلام نفسية يتحوّل الكثير منها إلى آلام وأمراض جسدية. وكما يكون العمل مصدراً مـن مصـادر القوّة والنشـاط النفسي والجسـدي ، فـإنّ البطالـة والفراغ يكونان مصدراً من مصادر ترهل الجسم وضعفـه وانحلال قواه.
7 ـ العلاج والوقاية من الأمراض: إنّ التشريعات والتوجيهات التي تحدثت عن الصحّة والوقاية والعلاج وحقوق البدن، تشكل مساحة واسعة من الفقه والثقافة والآداب الاسلامية، وقد شدّدت الأحكام والوصايا الاسلامية على العناية بالبدن وحفظ الصحّة والمعالجة من الأمراض إلى درجة الوجوب، إذا كان المرض لا يزول إلاّ بالعلاج، لذا اعتبر الاسلام أنّ ما يحتاجه الانسان للعلاج والرعاية الصحية لنفسه ولأفراد أُسرته من مصروفه السنوي المعفو من فريضتي الخمس والزكاة.
ولاهتمام الاسلام بالعلاج والتداوي اعتبر التشريع الاسلامي توفير الأدوية والخبرات والمؤسسات الطبية في المجتمع واجباً كفائياً كما اعتبر العلاج واجباً عينياً على الطبيب المعالج الذي لا يوجد غيره.
وإذا كان وجوب توفير الخبرات الطبّية واجباً على عموم أفراد المجتمع، فإنّ معالجة النفس وبذل المال اللازم واجب عيني على الشخص لعلاج نفسه، ولعلاج من كلّف شرعاً بالنفقة عليه، كالزوجة والأبناء الصغار والوالدين العاجزين عن النفقة، فإذا عجز عن ذلك أُعطي من الفرائض المالية للتداوي والعلاج، وبالاضافة الى ذلك فإن الدولة مكلّفة بتوفير العلاج ومستلزماته للمواطنين العاجزين عنه.
والاسلام ينطلق في وجوب العلاج من مبدأ أساسي في فهم الصحّة والمرض والعلاج ومن رؤيته العقيدية ونظرته الفلسفية العامّة للحياة.
فالفكر الاسلامي يؤمن بأنّ العالم بأسره هو عالم يقوم على أساس مبدأ العلية (مبدأ السبب والنتيجة) وفلسفة الترابط العام بين الأشياء، فهو عبارة عن سلسلة من الأسباب والنتائج، فالمرض نتيجة لأسباب وعلل، وانّ الشفاء منه يأتي لازالة تلك الأسباب والعلل بواسطة أسباب ووسائل أُخرى (العلاج)، وانّ العلاقة بين المرض والعلاج هي جزء من نظام الصراع القائم في عالم الطبيعة والاحياء وفي اطار الجسم البشري، والمرض في معظم حالاته هو جزء من هذا الصراع، لذا فإنّ العلاج يسير وفق نظام الصراع وقانون العلّة والمعلول (السبب والنتيجة)، وهذا الفهم العلمي نقرأه في ما ورد عن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) من ارشادات طبّية وأوامر بطلب العلاج.
وإنّ اللجوء الى العلاج يتفق والعقيدة الاسلامية التي تجمع بين الايمان بقانون العلّية الطبيعية والاعتماد على الله سبحانه. ذلك لأنّ عمل العلل والأسباب الطبيعية يجري ضمن سياق القدر الالهي والاستعانة به، فالأسباب والعلل كما عبّر الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) عنها هي جزء من القدر الالهي.
لذا جاء الحث على العلاج والتداوي، وجاء توضيح العلاقة بين السببية العلاجية والقدر الالهي. فعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) انّه قال:
(ما أنزل الله داء إلاّ أنزل له شفاء)(1).
وعن جابر بن عبد الله الانصاري أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
(لكلّ داء دواء، فإذا أُصيب دواء الداء، برئ بإذن الله عزّ وجلّ)(2).
وجاء في الاخبار:
(أنّ موسى بن عمران اعتلّ بعلّة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علّته، فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرئت. فقال: لا أتداوى حتى يعافيني الله من غير دواء. فأوحى الله إليه: وعزّتي وجلالي لا أُبرئك حتى تتداوى بما ذكروه لك. فقال لهم: داووني بما ذكرتم فداووه، فبرئ. فأوجس في نفسه في ذلك فأوحى الله إليه: أردت أن تبطل حكمتي بتوكّلك عليّ، فمن أودع العقاقير منافع الاشياء غيري)(3).
وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده أن أُسامة بن شريك قال:
(كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله) وجاءت الاعراب فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ فقال: (نعم يا عباد الله تداووا، فإنّ الله عزّ وجلّ لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاء غير داء واحد)، قالوا: ما هو؟ قال: «الهرم»)(4).
وكما أمر بالعلاج والتداوي أوضح أنّ لكلّ مرض علاجاً غير أنّنا نجهله، لذا أوجب البحث عنه واكتشافه، جاء ذلك في قوله (صلى الله عليه وآله):
(إنّ الله عزّ وجلّ لم ينزل داء إلاّ أنزل له شفاء، عَلِمَه مَنْ عَلِمَه، وجَهلَهُ مَنْ جَهلُهُ).
بل اعتبرت الشريعة الاسلامية كتم المرض وعدم بيانه للطبيب ليعالج معالجة دقيقة هو خيانة للبدن، لذا ورد الحديث عن الامام الصادق (عليه السلام): (من كتم عن الطبيب مرضه، فقد خان بدنه).
ولتشخيص العلاقة بين السببية العلاجية وبين القدر الالهي فلنقرأ ما رواه أبو خزامة من الحديث النبوي الذي اعتبر العلاج من قدر الله سبحانه، قال: (قلت: يا رسول الله أرأيت رُقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: «هي من قدر الله»)(5).
وهكذا يثبت الفقه الطبّي في الاسلام وجوب رعاية البدن وتوفير العلاج والأمن الصحّي. وهذه القيم التشريعية، وهذا التفكير العلمي أوجد منهاجاً علمياً للبحث الطبّي؛ فتقدّم الطبّ على يد العلماء المسلمين، وارتقى الى مستوى البحث العلمي والمنهجية التجريبية، واكتشاف النظريات الطبّية في الأمراض والعلاج ونظام الجسم وتكوينه.
ــــــــــــــــــــ
1 ـ البخاري / ج7 / ص12.
2 ـ مسلم / كتاب الطب.
3 ـ النراقي / جامع السعادات / ج3 / ص228 / ط3.
4 ـ مسند أحمد بن حنبل / كتاب الطب.
5 ـ ابن ماجة / كتاب الطب.
8 ـ وضع منهاج للصحّة النفسية: الحياة البشرية بمختلف جوانبها السياسية والاقتصادية والأمنية والعقيدية والصحّة البدنية والنفسية والعلاقات الاجتماعية والعائلية... الخ، كلّ متكامل يؤثّر بعضها في بعض، ويتأثّر به، فالصحّة النفسية التي هي مصدر سعادة الانسان وشقائه يؤثّر فيها مجمل الوضع المحيط بالانسان. فالفقر والبطالة والارهاب السياسي وانعدام الأمن ومشاكل الاُسرة، كلّها عوامل تؤثّر على الصحّة النفسية سلباً أو إيجاباً. والمنهاج الاسلامي منهاج علمي متكامل أتقن في مختلف مجالاته ومعالجاته، وبشكل يحقق للانسان الصحة والطمأنينة النفسية، إضافة إلى منهاجه التربوي في مجال الحفاظ على سلامة الوضع النفسي من العقد والأمراض النفسية. فقد كرّس الاسلام جانباً كبيراً من فكره وتشريعه لحماية الوضع النفسي من الخوف والقلق والحقد والأنانية والحسد والغيرة عند المرأة...الخ.
وبذا رسم للنفس البشرية خطّ السير ومنهج الحركة الذي يحميها من الأمراض التي تصيبها وتفتك بها وبالجسد عن طريقها.
9 ـ مكافحة الفقر: الفقر هو سبب خطر من أسباب المرض وفقدان الصحّة النفسية والجسدية، ولقد غدا الفقر رغم التقدّم العلمي والتطور الآلي مشكلة الانسان الكبرى، ذلك لأنّ تطوّر العلوم والصناعة لم يؤثّر في إصلاح الجانب الانساني والأخلاقي من الانسان، فكلّما تقدّم الوضع المادّي للانسان المتكبّر انهار وضعه النفسي والأخلاقي، فازداد ظلماً وجشعاً وحباً للمال وسيطرة على خيرات الانسان المستضعف، ممّا زاد في محنة الفقراء واتّساع مساحة الفقر.
ولعلّ من أبرز أمراض الفقر هو مرض سوء التغذية، وعدم توفّر الغذاء المتوازن صحيّاً للانسان.
فللجسم حاجته من البروتين والفيتامينات والنشويات والسكّريات والدهنيات...الخ، فما لم تتوفّر الحاجة الغذائية للجسم يصاب بالعديد من الأمراض وضعف المقاومة وانهيار الصحّة والقوّة.
وعندما تحلّ مشكلة الفقر يتحقق القضاء على أمراض الفقر هذه.
وكما يفرز الفقر أمراضاً غذائية مباشرة بسبب سوء التغذية فإنّه يتسبب في إضعاف المؤسسات والاجراءات الوقائية، وتوفير الحياة الصحّية للانسان أو انعدامها.
والاسلام عندما وضع منهاجه الاقتصادي راعى فيه توفير حاجة الانسان من الغذاء والسكن واللباس والدواء...الخ، وانقاذ المجتمع من الفقر.
والملاحظ في المنهاج الاقتصادي الاسلامي أنّ فريضة الزكاة تركّزت في الموادّ الغذائية، كالقمح والتمر والشعير والزبيب والحيوانات، إضافة إلى النقود، ممّا يوفّر الأمن الغذائي، ويساعد على مكافحة أمراض سوء التغذيـة.
10 ـ الراحة والنوم: والجسم آلة حيّة مليئة بالحركة والفعّالية والنشاط فيصيبها التعب والارهاق، وما لم تحصل على الراحة واستعادة النشاط يصيبها العطب والانهيار والمرض.
وقدر الله سبحانه نظام النوم راحة للفكر والنفس والبدن، ولتنظيم الحياة البشرية، كما وضع قانوناً علمياً للعمل وبذل الجهد وللراحة، بشكل متوازن، فقال تعالى: {وَجَعلنا نَومَكُمْ سُباتاً * وَجَعلنا الليلَ لِباساً وَجَعلنا النهارَ مَعاشا}.(النبأ/9 ـ 11)
وبذا قسّم الوقت بين الراحة والعمل والحركة والنشاط.
وجاء في الارشاد النبوي الحثّ على التقليل من متاعب البدن، وقيمة الراحة، والحدّ من دوافع الطمع والجشع التي تدفع الانسان الى إرهاق جسمه وفكره ونفسه. فالارهاق سبب من أهم أسباب تعكير الحياة النفسية، والتوتر العصبي، إضافة إلى الاضرار بالجسم. كما انّ النوم والراحة هما أفضل وسيلة من وسائل العلاج العصبي، وإعطاء الجسم فرصة لاستعادة النشاط. نجد ذلك الارشاد في قول الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله):(أجملوا في الطلب فإنّ روح القدس نفث في روعي لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها).
وبهذا التنظيـم وتقسيم الوقت بين الراحة والجهد والعمل وضع الاسلام منهجـاً عملياً دقيقاً لحفظ الجسـم والنفس والفكر من الارهاق والمرض.