

الجزء التاسع عشر
لم أكن أدرك قبل الآن أن المصائب لا تأتي فرادى بل جماعات وركائب متتالية لمن يعيشها بأنه ليس وحده المصاب والمبتلى، ففي قمة عذابي ويأسي ومصابي شق أذني صراخ ليس غريبا على مسمعي... صراخ حبيب ذكرني بصراخ أمي حينما أهداها أبي الزوجة الأخرى. انقبض قلبي بشدة وتهاوت أقدامي وأنا أسمع صوت شقيقتي بدرية تصرخ من أعماقها... أسرعت أهبط السلالم وبرودة غريبة تسري في جسدي ومئات الخواطر تتزاحم في مخيلتي عما يكون قد جرى لها، دعوت في سري ألا يكون شئ ما قد أصاب أحد أولادها فهم كل حياتها ومستقبلها...
بيد أن دعوتي ربما لم تصل إلى السماء حالما سمعتها تسرد ما حدث لها لزوجة أبي... كنت أقف في آخر درجة من درجات السلم وصوت بدرية يصلني حيث أنا، بل يتردد في أرجاء البيت متعبا متهالكا حزينا، فوقفت في مكاني لا أبرحه تتناهى إلىّ كلماتها الحائرة... سعود طفلها الأكبر ورجلها القادم وفارس أحلامها وأحلام أطفالها الآخرين... سعود الفتي ذو السادسة عشرة من عمره من غذته بدمها ودموعها وأنينها... من نفخت فيه روح الرجولة صغيرا وأطعمته أحلامها وأمانيها وزرعت فيه الحب والخير لك الناس... سعود ذلك الأمل الصغير الذي بدأ يكبر ويكبر ليتضاءل كل شئ ويبدو الأمل سرابا والحلم وهما والمستقبل ضربا من الجنون... سعود ذلك الطفل الذي تشرب اليتم صغيرا وتلفت حوله بحثا عن قدوة ومثل أعلى لرجل يقتدي به في كل أفعاله فلم يجد سوى امرأة... امرأة كسيرة مهيضة الجناح محطمة ممزقة تنظر إليه على أنه إله أو شئ مقدس، فتعطية كل شئ بلا مقابل لمجرد ذكورة مؤجلة وتعطش مرير لرجل يملأ البيت بالهيبة والتقدير... ميزته أنه الذكر الأول يليه بعد ثلاث بنات وذكر آخر... أمل صغير آخر لكنه ليس بحجم الأمل الأول والأكبر. تدفقت عليه ينابيع الحنان من أم تعايش عاطفة بلا رجل وأنوثة بلا رجاء، وأحاسيس معطلة حتى إشعار آخر... ظلم سعود... رغم طفولته وكم الحنان الهائل فقد كانت المسؤولية الملقاة على عاتقه كبيرة... كبيرة لا تتحملها طفولته الغضة ولا يتمه المبكر، فدور الأب والأخ والزوج والابن لم يكن يليق به أو يناسب سنه الصغيرة فنشأ يحاول الهرب ويمارس لعبة الابتعاد حتى حطم القيد الذي يكبله بأمه، فابتعد أكثر وأكثر ليضم إلى جماعة فتيان عابثين، ثم تدرج الأمر من تدخين لفافات التبغ إلى استنشاق المذيبات المتطايرة ثم التحول الرهيب والكبير بتعاطي المخدرات... كانت تحاول إعادته إلى حظيرة الأسرة بكل الطرق الممكنة ولم تكن تحكي أو تشكو لأحد، بل فضلت معالجة الأمر بنفسها كيلا يتطور الأمر وتصبح فضيحة تهدد العائلة ويعلم والدها بالأمر فتكون العاقبة وخيمة... فحاولت معه بكل الطرق بالود والملاطفة ثم السياسة والمداهنة إلى الشدة والقسوة والعقاب ثم الحرمان من النقود، لكنه لم يرتدع بل أمعن في غيه وازداد إصراراً على المعصية حتى جاءها اليوم صباحا في حالة غير طبيعية يهذي ويصرخ ويتهم أشخاصا مجهولين بملاحقته، فحادثت أخي صالح لينقلوه على وجه السرعة إلى المستشفى... المصيبة أن المستشفى حولوه إلى مستشفى الأمل بعد ظهور نتيجة التحاليل بأنه مدمن، ثم أخذت تبكي بحرقة شديدة، تبكي خيبة أملها وتحطم حلمها الوردي إلى أشلاء متناثرة... تبكي الماضي والحاضر... ماضيا لم تختره وأجبرت عليه قسراً وحاضراً بحرمانها من كل حقوقها المشروعة انتهاء بحصادها المر بعد سنوات طويلة من الحب والرعاية ثم انتهى كل شئ بلا شئ...
أسرعت لأضمها إلى صدري، فلا ملجأ لها سواي ولن تجد صدراً يستوعب أحزانها سوى صدري، ولا يداً تمسح عنها عذابها سوى يدي، ولا صوتاً حنوناً يداوي جرحها سوى صوتي... تعانقنا وفي داخل كل منا عواصف من الأحزان. هي بأملها الذي انهار أمام عينيها ومستقبلها الزاهر الذي بنته لبنة لبنة لينتهي في مستشفى الأمل بلا أية بارقة من أمل... وأنا بقتل أحلامي وآمالي على يد أبي وانتهاء قصة حبي نهاية مؤسفة ستظل طوال عمري جرحا عميقا ينزف داخلي بغزارة، سعد حبي الأول والأخير أول إنسان يفتح عليه قلبي... وتزهر به آمالي... أحببته حبا ملأ عليّ حياتي وملك عليّ عقلي وقلبي، أحببته بكل كياني وبكل قطرة دم تسوي في شراييني... ولم يكن اختياري خاطئا... لم أقع في يد سكير عربيد أو لص خبيث أو عاطل متسكع أو حتى عابث يتلاعب بقلوب الفتيات... كلا فمن أحببته واخترته بملء إرادتي كان رجلا بمعنى الكلمة، صادقا وشريفا... أحبني مثلما أحببته بل ربما أحبني أكثر مما أحببته ولم يأت من النافذة سارقا كلص، بل أتي من الباب كأي رجل صادق الوعد والعهد يحترم نفسه كما يحترم حبيبته، ولم يكن ينقصه شئ ليرفض، فهو شاب له مستقبل، مدرس من عائلة مرموقة، أخلاقه فوق مستوى الشبهات، مستواه المادي ممتاز أيضا، فهو مشروع أديب أمامه مستقبل عريض ومع كل هذا فقد رفضه أبي... رفضه بكل قسوة وعنجهية وظلم...
رفضه لمجرد أنه أوصلني ذات يوم فتنبأ بان هناك شيئا ما بيننا وبدلا من أن يوافق ويسارع للم الشمل يرفض الرجل ويصر على الرفض ثم يطرده بلا حياء. وزيادة في العنجهية والغرور وإثبات السلطة يقرر زواجي من عجوز سبعيني لا يعرف الفرق بين الألف والعصا لمجرد إبعاد الشاب عن طريقي ودفعه لأن ينسى أمري ويبحث عن نصيبه في مكان آخر... أي تفكير هو تفكيرك يا أبي وأي ظلم هو ظلمك! قتلتني وأنا لا أزال على قيد الحياة.... حرمتني حق الاختيار وطعم الحرية وإحساس الحب والسعادة وأردتني أداة لظلمك وقسوتك... أداة تحركها كيفما تشاء... تقتلها... تحرقها... تحرمها... أداة طيعة بين يديك بلا اختيار ولا أي إحساس... أردتني كأخوتي تصنع مستقبلهم كما أردت أنت لا كما أرادوا هم، فعاشوا وما زالوا تعساء يعانون خطأ الاختيار ومرارة الانصياع والانحناء للعاصفة... أبي أستطيع أن أقف في وجهك وأرفض اختيارك الظالم لي وأثور على كل الأوضاع، بل أستطيع أن أهرب، أن أنتحر وأقتل نفسي بتوقيعك... كعادتك دائما... لكن لا.. شئ ما في داخلي يمنعني بشدة ربما هو آثار " لا حول ولا قوة إلا بالله" التي جملتها في داخلي إرثاً من أمي أو هو طريق رأيت أخوتي ساروا عليه فسرت عليه كشيء لا بد منه كحال المحكوم عليه بالإعدام حينما يرى رفاقه يعدمون أمام عينيه فهو يحني رأسه باستسلام... كشيء حتمي لا مفر منه أم هي رغبة داخلية في الانتقام... الانتقام من أبي في نفسي... ليراني سلعة ذليلة في يد رجل لا يعرف قدري... ليراني بأم عينيه مهانة كرامتي مستباحة وجمالي يذبل شيئا فشيئا ليغدو إلى سراب... ليراني حزينة ضائعة باكية أرنو إلى أشياء لا أمتلكها وأزهد في أشياء تطفح بها حياتي. ليراني مبعثرة أجاهد حلما يسكنني وأبحث عن أمل مستحيل أهفو إليه... ترى هل بعد كل هذا أرى دموع الندم في عينيه... الدموع التي أتحرق شوقا لأن أراها فتطفئ بعضا من النيران المشتعلة في جوفي والتي لا تطفئها المحيطات. إنه رغم قسوته وجبروته يشعر ببعض الأسى حينما يرى حال أولاده... غصة مرارة... أو ربما سحابة ألم عابرة يمر بها في فترات استشعرتها به في أحوال مختلفة حتى حال سعاد الأخيرة وهي تعود لزوجها ذليلة مهانة بلا آمال وربيع العمر يتبعثر تحت أقدام رجال لا يستحقون... أبي ألا تعتبر... ألا ترى في أحوال أخوتي الكفاية كل الكفاية من هذا المصير الذي تدفعني إليه... ألا زالت شهوة التشفي والانتقام جزءا لا يتجزأ منك؟ لماذا لا ترضى إلا أن تحصد المرارة كاملة والعذاب مضاعفا وعقاب الرب شاملا... لم لا تخفف من الآثام وتكفر عن ذنبك في حق أخوتي بي... فتزوجني من أحببته وأحبني... من سيرعاني حق الرعاية وأخدمه برموش عيني... ممن سنعرف أنا وهو سيمفونية حب كاملة لا يعرفها سوى العشاق... لم يزين بها بيته تضاف إلى قطيع كامل من البشر لا يربطه بها سوى المال والمال فقط لا غير يا أبي.. أبي أين ضميرك وكيف يهنأ لك بال ويغمض لك جفن وابنتك تباع وتشتري كسلعة لها ثمن يضمها بيت واحد موحش مقفر مع رجل عجوز يفوق أباها عمراً لا يجمعهما شئ سوى عقد الزواج، فلا حوار متبادل ولا حب أو ود أو أي شئ مشترك بينهما... فأية هاوية تدفعني إليها يا أبي بقرارك وباختيارك دونما تقدير لإحساسي ومشاعري وشبابي الذي حصدته قبل الأوان...؟
أي تفكير هو تفكيرك يا أبي؟ وأي ظلم هو ظلمك؟ وأي جرف عميق ننحدر إليه جميعا بتخطيطك وتقديرك ومباركتك...؟ حتى سعود هذا الصبي المراهق الغض أشم في انحرافه رائحة غدرك وتخليك ونكرانك. فأي سجلات حافلة سطرها تاريخك أبي بدءا باغتيال زوجتك على مذبح شهواتك مرورا بتدمير أبنائك الواحد تلو الآخر وانتهاء بتشريد أحفادك... عفوا وعذرا يا أبي أستميحك المعذرة، لكنها الحقيقة البشعة التي لو لم أحكها بلساني لنطقت بها عيناي... سعود هو الضحية وأنت الجاني الأول والأخير... سعود طفل غرير نشأ في أحضان امرأة هي أمه ولا وجود لرجل في حياتهما على الإطلاق سوى لمسات بعيدة... بعيدة تأتي أحيانا من الأخوال... ولأنها نادرة وبعيدة ولأنك رفضت زواج بدرية من أي رجل على وجه الأرض نشأ الطفل وهو يشعر نفسه محور الكون والنبي المنتظر بلا محظورات أو محرمات أو أسلاك شائكة يحيطه بها المربون من الرجال، فبدرية رغم فطنتها لن تستطيع ملاحقة الصبي على أرصفة الشوارع لتعرف مع من يتحدث ويسير ويصادق وماذا يفعلون أو يأكلون ويشربون، فهي امرأة أولا وامرأة مقيدة ثانيا وامرأة مكبلة بالأغلال ثالثا، لأنك يا أبي حرمتها الزواج كما حرمتها الحرية وممارسة حقوقها كامرأة، فلا زوج ولا صداقات. تسير ضمن دائرة مغلقة لا تتعداها هي بيتها وأطفالها تحيط بها المحرمات من كل جانب فلا دخول ولا خروج ولا علاقات مع أي كان سوى في أضيق الحدود... مسكينة أنت يا بدرية وتعيس هذا الصبي اليتيم...
همست من بين دموعها:
- أحلام... هل تعتقدين أنه سيشفى ... هل سيعود ... فتي... سويا كما كان؟
جاهدت كثيرا كيلا تسقط دموعي وأنا أقول لها :
- بالتأكيد سيعود يا بدرية وسينسى كل شئ حدث له، فجميعنا نكبر وننسى لكن كفي عن معاملته كرجل بالغ وعامليه بمستوى طفولته وأنك لا تطلبين منه سوى أن يتفوق وينجح... ينجح فقط لا غير... أليس كذلك يا بدرية؟
انهارت في بكاء عاصف حينما دخل أبي وكان رد فعله تماما كما توقعت فقد غضب وصرخ وشتم وكاد يتهجم عليها بالضرب قائلا:
- أنت السبب... أنت من أفسدته بتدليلها حتى حدث ما حدث... إنها فضيحة... فضيحة كبيرة... لكنه لن يعيش معك بعد اليوم بل سيعيش معي وسأربيه كما ربيت أبنائي ولا تتدخلي في شؤونه أبدا بعد اليوم ... أفهمت؟
ومن بين دموعها وقعت بدرية إقرارا لأبي بأنها لن تتدخل في شؤونه ابنها بعد اليوم ولا حتى عندما يتزوج وينجب...
قبل أن تعود إلى بيتها مشتتة النفس حائرة تتقاذفها الهواجس والظنون ويؤرقها مصير ابنها الذي يفارقها لأول مرة في حياتها وحياته قررت أن أبلغها خبر زواجي المرتقب لتكتمل ثالثة الأثافي... نظرت إلى غير مصدقة ثم ضربت صدرها بيدها وهى تهتف:
- هل أنت جادة أم تهزلين؟
قلت لها بلا مبالاة:
- وهل عهدتني إلا جادة يا بدرية ... إن زواجي بداية الشهر القادم كما أخبرني أبي ولا مفر...
انبثقت الدموع من عينيها مجددا وهي تقول:
- وهل ستقبلين هذا الأمر... هل سترضخين .... كلا .. افعلي شيئا يا أحلام... ناقشي أبي... امرضي... اهربي.. افعلي أي شئ.
أشحت بوجهي عنها وأنا أمسح دمعه هاربة من عيني:
- لن أفعل شيئا يا بدرية... وليقدر الله أمرا كان مفعولا...
ثم أدرت ظهري لها وأسرعت أرتقي السلالم بسرعة مذهلة لألقي بنفسي على فراشي وأنا أنشج ببكاء مرير...
وللقصة بقية :
لم أكن أدرك قبل الآن أن المصائب لا تأتي فرادى بل جماعات وركائب متتالية لمن يعيشها بأنه ليس وحده المصاب والمبتلى، ففي قمة عذابي ويأسي ومصابي شق أذني صراخ ليس غريبا على مسمعي... صراخ حبيب ذكرني بصراخ أمي حينما أهداها أبي الزوجة الأخرى. انقبض قلبي بشدة وتهاوت أقدامي وأنا أسمع صوت شقيقتي بدرية تصرخ من أعماقها... أسرعت أهبط السلالم وبرودة غريبة تسري في جسدي ومئات الخواطر تتزاحم في مخيلتي عما يكون قد جرى لها، دعوت في سري ألا يكون شئ ما قد أصاب أحد أولادها فهم كل حياتها ومستقبلها...
بيد أن دعوتي ربما لم تصل إلى السماء حالما سمعتها تسرد ما حدث لها لزوجة أبي... كنت أقف في آخر درجة من درجات السلم وصوت بدرية يصلني حيث أنا، بل يتردد في أرجاء البيت متعبا متهالكا حزينا، فوقفت في مكاني لا أبرحه تتناهى إلىّ كلماتها الحائرة... سعود طفلها الأكبر ورجلها القادم وفارس أحلامها وأحلام أطفالها الآخرين... سعود الفتي ذو السادسة عشرة من عمره من غذته بدمها ودموعها وأنينها... من نفخت فيه روح الرجولة صغيرا وأطعمته أحلامها وأمانيها وزرعت فيه الحب والخير لك الناس... سعود ذلك الأمل الصغير الذي بدأ يكبر ويكبر ليتضاءل كل شئ ويبدو الأمل سرابا والحلم وهما والمستقبل ضربا من الجنون... سعود ذلك الطفل الذي تشرب اليتم صغيرا وتلفت حوله بحثا عن قدوة ومثل أعلى لرجل يقتدي به في كل أفعاله فلم يجد سوى امرأة... امرأة كسيرة مهيضة الجناح محطمة ممزقة تنظر إليه على أنه إله أو شئ مقدس، فتعطية كل شئ بلا مقابل لمجرد ذكورة مؤجلة وتعطش مرير لرجل يملأ البيت بالهيبة والتقدير... ميزته أنه الذكر الأول يليه بعد ثلاث بنات وذكر آخر... أمل صغير آخر لكنه ليس بحجم الأمل الأول والأكبر. تدفقت عليه ينابيع الحنان من أم تعايش عاطفة بلا رجل وأنوثة بلا رجاء، وأحاسيس معطلة حتى إشعار آخر... ظلم سعود... رغم طفولته وكم الحنان الهائل فقد كانت المسؤولية الملقاة على عاتقه كبيرة... كبيرة لا تتحملها طفولته الغضة ولا يتمه المبكر، فدور الأب والأخ والزوج والابن لم يكن يليق به أو يناسب سنه الصغيرة فنشأ يحاول الهرب ويمارس لعبة الابتعاد حتى حطم القيد الذي يكبله بأمه، فابتعد أكثر وأكثر ليضم إلى جماعة فتيان عابثين، ثم تدرج الأمر من تدخين لفافات التبغ إلى استنشاق المذيبات المتطايرة ثم التحول الرهيب والكبير بتعاطي المخدرات... كانت تحاول إعادته إلى حظيرة الأسرة بكل الطرق الممكنة ولم تكن تحكي أو تشكو لأحد، بل فضلت معالجة الأمر بنفسها كيلا يتطور الأمر وتصبح فضيحة تهدد العائلة ويعلم والدها بالأمر فتكون العاقبة وخيمة... فحاولت معه بكل الطرق بالود والملاطفة ثم السياسة والمداهنة إلى الشدة والقسوة والعقاب ثم الحرمان من النقود، لكنه لم يرتدع بل أمعن في غيه وازداد إصراراً على المعصية حتى جاءها اليوم صباحا في حالة غير طبيعية يهذي ويصرخ ويتهم أشخاصا مجهولين بملاحقته، فحادثت أخي صالح لينقلوه على وجه السرعة إلى المستشفى... المصيبة أن المستشفى حولوه إلى مستشفى الأمل بعد ظهور نتيجة التحاليل بأنه مدمن، ثم أخذت تبكي بحرقة شديدة، تبكي خيبة أملها وتحطم حلمها الوردي إلى أشلاء متناثرة... تبكي الماضي والحاضر... ماضيا لم تختره وأجبرت عليه قسراً وحاضراً بحرمانها من كل حقوقها المشروعة انتهاء بحصادها المر بعد سنوات طويلة من الحب والرعاية ثم انتهى كل شئ بلا شئ...
أسرعت لأضمها إلى صدري، فلا ملجأ لها سواي ولن تجد صدراً يستوعب أحزانها سوى صدري، ولا يداً تمسح عنها عذابها سوى يدي، ولا صوتاً حنوناً يداوي جرحها سوى صوتي... تعانقنا وفي داخل كل منا عواصف من الأحزان. هي بأملها الذي انهار أمام عينيها ومستقبلها الزاهر الذي بنته لبنة لبنة لينتهي في مستشفى الأمل بلا أية بارقة من أمل... وأنا بقتل أحلامي وآمالي على يد أبي وانتهاء قصة حبي نهاية مؤسفة ستظل طوال عمري جرحا عميقا ينزف داخلي بغزارة، سعد حبي الأول والأخير أول إنسان يفتح عليه قلبي... وتزهر به آمالي... أحببته حبا ملأ عليّ حياتي وملك عليّ عقلي وقلبي، أحببته بكل كياني وبكل قطرة دم تسوي في شراييني... ولم يكن اختياري خاطئا... لم أقع في يد سكير عربيد أو لص خبيث أو عاطل متسكع أو حتى عابث يتلاعب بقلوب الفتيات... كلا فمن أحببته واخترته بملء إرادتي كان رجلا بمعنى الكلمة، صادقا وشريفا... أحبني مثلما أحببته بل ربما أحبني أكثر مما أحببته ولم يأت من النافذة سارقا كلص، بل أتي من الباب كأي رجل صادق الوعد والعهد يحترم نفسه كما يحترم حبيبته، ولم يكن ينقصه شئ ليرفض، فهو شاب له مستقبل، مدرس من عائلة مرموقة، أخلاقه فوق مستوى الشبهات، مستواه المادي ممتاز أيضا، فهو مشروع أديب أمامه مستقبل عريض ومع كل هذا فقد رفضه أبي... رفضه بكل قسوة وعنجهية وظلم...
رفضه لمجرد أنه أوصلني ذات يوم فتنبأ بان هناك شيئا ما بيننا وبدلا من أن يوافق ويسارع للم الشمل يرفض الرجل ويصر على الرفض ثم يطرده بلا حياء. وزيادة في العنجهية والغرور وإثبات السلطة يقرر زواجي من عجوز سبعيني لا يعرف الفرق بين الألف والعصا لمجرد إبعاد الشاب عن طريقي ودفعه لأن ينسى أمري ويبحث عن نصيبه في مكان آخر... أي تفكير هو تفكيرك يا أبي وأي ظلم هو ظلمك! قتلتني وأنا لا أزال على قيد الحياة.... حرمتني حق الاختيار وطعم الحرية وإحساس الحب والسعادة وأردتني أداة لظلمك وقسوتك... أداة تحركها كيفما تشاء... تقتلها... تحرقها... تحرمها... أداة طيعة بين يديك بلا اختيار ولا أي إحساس... أردتني كأخوتي تصنع مستقبلهم كما أردت أنت لا كما أرادوا هم، فعاشوا وما زالوا تعساء يعانون خطأ الاختيار ومرارة الانصياع والانحناء للعاصفة... أبي أستطيع أن أقف في وجهك وأرفض اختيارك الظالم لي وأثور على كل الأوضاع، بل أستطيع أن أهرب، أن أنتحر وأقتل نفسي بتوقيعك... كعادتك دائما... لكن لا.. شئ ما في داخلي يمنعني بشدة ربما هو آثار " لا حول ولا قوة إلا بالله" التي جملتها في داخلي إرثاً من أمي أو هو طريق رأيت أخوتي ساروا عليه فسرت عليه كشيء لا بد منه كحال المحكوم عليه بالإعدام حينما يرى رفاقه يعدمون أمام عينيه فهو يحني رأسه باستسلام... كشيء حتمي لا مفر منه أم هي رغبة داخلية في الانتقام... الانتقام من أبي في نفسي... ليراني سلعة ذليلة في يد رجل لا يعرف قدري... ليراني بأم عينيه مهانة كرامتي مستباحة وجمالي يذبل شيئا فشيئا ليغدو إلى سراب... ليراني حزينة ضائعة باكية أرنو إلى أشياء لا أمتلكها وأزهد في أشياء تطفح بها حياتي. ليراني مبعثرة أجاهد حلما يسكنني وأبحث عن أمل مستحيل أهفو إليه... ترى هل بعد كل هذا أرى دموع الندم في عينيه... الدموع التي أتحرق شوقا لأن أراها فتطفئ بعضا من النيران المشتعلة في جوفي والتي لا تطفئها المحيطات. إنه رغم قسوته وجبروته يشعر ببعض الأسى حينما يرى حال أولاده... غصة مرارة... أو ربما سحابة ألم عابرة يمر بها في فترات استشعرتها به في أحوال مختلفة حتى حال سعاد الأخيرة وهي تعود لزوجها ذليلة مهانة بلا آمال وربيع العمر يتبعثر تحت أقدام رجال لا يستحقون... أبي ألا تعتبر... ألا ترى في أحوال أخوتي الكفاية كل الكفاية من هذا المصير الذي تدفعني إليه... ألا زالت شهوة التشفي والانتقام جزءا لا يتجزأ منك؟ لماذا لا ترضى إلا أن تحصد المرارة كاملة والعذاب مضاعفا وعقاب الرب شاملا... لم لا تخفف من الآثام وتكفر عن ذنبك في حق أخوتي بي... فتزوجني من أحببته وأحبني... من سيرعاني حق الرعاية وأخدمه برموش عيني... ممن سنعرف أنا وهو سيمفونية حب كاملة لا يعرفها سوى العشاق... لم يزين بها بيته تضاف إلى قطيع كامل من البشر لا يربطه بها سوى المال والمال فقط لا غير يا أبي.. أبي أين ضميرك وكيف يهنأ لك بال ويغمض لك جفن وابنتك تباع وتشتري كسلعة لها ثمن يضمها بيت واحد موحش مقفر مع رجل عجوز يفوق أباها عمراً لا يجمعهما شئ سوى عقد الزواج، فلا حوار متبادل ولا حب أو ود أو أي شئ مشترك بينهما... فأية هاوية تدفعني إليها يا أبي بقرارك وباختيارك دونما تقدير لإحساسي ومشاعري وشبابي الذي حصدته قبل الأوان...؟
أي تفكير هو تفكيرك يا أبي؟ وأي ظلم هو ظلمك؟ وأي جرف عميق ننحدر إليه جميعا بتخطيطك وتقديرك ومباركتك...؟ حتى سعود هذا الصبي المراهق الغض أشم في انحرافه رائحة غدرك وتخليك ونكرانك. فأي سجلات حافلة سطرها تاريخك أبي بدءا باغتيال زوجتك على مذبح شهواتك مرورا بتدمير أبنائك الواحد تلو الآخر وانتهاء بتشريد أحفادك... عفوا وعذرا يا أبي أستميحك المعذرة، لكنها الحقيقة البشعة التي لو لم أحكها بلساني لنطقت بها عيناي... سعود هو الضحية وأنت الجاني الأول والأخير... سعود طفل غرير نشأ في أحضان امرأة هي أمه ولا وجود لرجل في حياتهما على الإطلاق سوى لمسات بعيدة... بعيدة تأتي أحيانا من الأخوال... ولأنها نادرة وبعيدة ولأنك رفضت زواج بدرية من أي رجل على وجه الأرض نشأ الطفل وهو يشعر نفسه محور الكون والنبي المنتظر بلا محظورات أو محرمات أو أسلاك شائكة يحيطه بها المربون من الرجال، فبدرية رغم فطنتها لن تستطيع ملاحقة الصبي على أرصفة الشوارع لتعرف مع من يتحدث ويسير ويصادق وماذا يفعلون أو يأكلون ويشربون، فهي امرأة أولا وامرأة مقيدة ثانيا وامرأة مكبلة بالأغلال ثالثا، لأنك يا أبي حرمتها الزواج كما حرمتها الحرية وممارسة حقوقها كامرأة، فلا زوج ولا صداقات. تسير ضمن دائرة مغلقة لا تتعداها هي بيتها وأطفالها تحيط بها المحرمات من كل جانب فلا دخول ولا خروج ولا علاقات مع أي كان سوى في أضيق الحدود... مسكينة أنت يا بدرية وتعيس هذا الصبي اليتيم...
همست من بين دموعها:
- أحلام... هل تعتقدين أنه سيشفى ... هل سيعود ... فتي... سويا كما كان؟
جاهدت كثيرا كيلا تسقط دموعي وأنا أقول لها :
- بالتأكيد سيعود يا بدرية وسينسى كل شئ حدث له، فجميعنا نكبر وننسى لكن كفي عن معاملته كرجل بالغ وعامليه بمستوى طفولته وأنك لا تطلبين منه سوى أن يتفوق وينجح... ينجح فقط لا غير... أليس كذلك يا بدرية؟
انهارت في بكاء عاصف حينما دخل أبي وكان رد فعله تماما كما توقعت فقد غضب وصرخ وشتم وكاد يتهجم عليها بالضرب قائلا:
- أنت السبب... أنت من أفسدته بتدليلها حتى حدث ما حدث... إنها فضيحة... فضيحة كبيرة... لكنه لن يعيش معك بعد اليوم بل سيعيش معي وسأربيه كما ربيت أبنائي ولا تتدخلي في شؤونه أبدا بعد اليوم ... أفهمت؟
ومن بين دموعها وقعت بدرية إقرارا لأبي بأنها لن تتدخل في شؤونه ابنها بعد اليوم ولا حتى عندما يتزوج وينجب...
قبل أن تعود إلى بيتها مشتتة النفس حائرة تتقاذفها الهواجس والظنون ويؤرقها مصير ابنها الذي يفارقها لأول مرة في حياتها وحياته قررت أن أبلغها خبر زواجي المرتقب لتكتمل ثالثة الأثافي... نظرت إلى غير مصدقة ثم ضربت صدرها بيدها وهى تهتف:
- هل أنت جادة أم تهزلين؟
قلت لها بلا مبالاة:
- وهل عهدتني إلا جادة يا بدرية ... إن زواجي بداية الشهر القادم كما أخبرني أبي ولا مفر...
انبثقت الدموع من عينيها مجددا وهي تقول:
- وهل ستقبلين هذا الأمر... هل سترضخين .... كلا .. افعلي شيئا يا أحلام... ناقشي أبي... امرضي... اهربي.. افعلي أي شئ.
أشحت بوجهي عنها وأنا أمسح دمعه هاربة من عيني:
- لن أفعل شيئا يا بدرية... وليقدر الله أمرا كان مفعولا...
ثم أدرت ظهري لها وأسرعت أرتقي السلالم بسرعة مذهلة لألقي بنفسي على فراشي وأنا أنشج ببكاء مرير...
وللقصة بقية :

جزيت خيرا يا المشتاقة
جزئين مرة وحدة
ننتظر المزيد خخخخخخخخخخ عينها ما يملاها شي
شكرا مسبقا
جزئين مرة وحدة
ننتظر المزيد خخخخخخخخخخ عينها ما يملاها شي
شكرا مسبقا

الصفحة الأخيرة
أحبك لكنني موجـــــــــــــــع *** فهل أنت يا هاجري تسمع
صددت فأدميت مني الفــــؤاد *** فلم تهدأ النفس والأضلع
ولم أر بعدك ما يستـــــــطاب *** ولم أر بعدك ما ينفــــــع
وإن غرد الطير فوق الغصون *** عجبت له صادحاً يسجع
وأصبح قلبي كطفل يـــــــنوح *** يدور ويطلب من ضيعوا
ورقة وردية معطرة تفوح عذابا وأنينا وقعت في يدي وأنا أصحح دفتر وضحى. لبثت برهة لا أريم وأنا أحدق في الكلمات السجعية أمامي، ثم سحبتها ودسستها بلطف في جيب معطفي وقلبي يخفق بعنف.... ألن يكف هذا الفتي... أن ينسي ... ألن يسلو... حتى متى... وإلى أين؟
تراءى لي وجهه الوسيم ينبثق من وجه شقيقته... عيناه السوداوان تبثاني الشوق والهيام، وابتسامته المميزة تتلو آيات الحب والحنان، ملامحه الوادعة تسألني ألا أبتعد وأسلو...
- أبله... هل تريدينني؟
هززت رأسي وأنا أعيد لوضحى دفترها وأخرج من الفصل إلى حجرة المعلمات لأجدهن يتناقشن بصوت هامس على غير العادة... أمرتني إحداهن بأن أغلق الباب بهدوء فأيقنت أن في الأمر سراً....
قالت فوزية:
- أحلام لقد قررنا جميعاً تقديم شكوى في مديرتنا لمكتب الإشراف التربوي بالمنطقة ثم لمدير التعليم أيضاً...
وقبل أن أسال لم... تابعت فوزية بصوتها الهادئ...
- أنت تعرفين بأنها غير عادلة في المعاملة بيننا خاصة نحن السعوديات والأخريات بنات بلدها. ففي اجتماعاتهن السرية لا نحضر وفي الحصص نصيبهن أقل منا وهن من يتولين الإشراف على الأنشطة وأمور الطالبات... أيضا معاملة هذه المديرة لنا غير لائقة فهي عصبية تشتمنا بداع وبدون داع وتعاملنا بحدة ولا تقبل تأخيرنا في الصباح مهما كانت الأسباب...
قالت فاطمة:
- و لا تنسي ما فعلته معي قبل أيام حينما دخلت على الفصل واتفقت مع الطالبات أمامي على إلغاء الامتحان دون أي اعتبار لوجودي وكثير من المواقف الأخرى التي لا ننساها...
تكلمت صباح بهدوئها الذي اكتسبته أخيراً...
- هذه الورقة دونا فيها أسماءنا جميعا لنرفعها إلى المكتب الإشراف... هيا دوني اسمك ووقعي على الورقة...
ألقيت كتبي جانيا وأنا أهتف:
- لن أوقع؟
صرخت الزميلات في وقت واحد:
- أحلام...
تجاهلت صرخاتهن قائلة:
- عزيزاتي صدقنني لن نجد أفضل من هذه المديرة... ولكل إنسان في الدنيا سيئات وحسنات... إيجابيات وسلبيات... وإيجابيات هذه المديرة تغطي سلبياتها ولا أخفيكن بأنني مرتاحة جدا معها لدرجة أنني لا أود النقل إلى الرياض...
ضحكت إحدى الزميلات باستهزاء... وتهامسن أخريات، فقالت صباح بدون مواربة:
- مرتاحة مع المديرة أم مع وضحى....
جفت ريقي فجأة وامتقع لوني فلم أستطع الرد... لبثت لحظات أحاول أن أستجمع شتات نفسي وأستعيد هدوئي ورباطة جأشي لأتمكن من الرد... ولكن ماذا أقول وأي كلمات ممكن أن تسعفني؟ فمن الواضح أن أمري قد انكشف بين الزميلات وربما في المدرسة ككل بل قد يكون الأمر قد تعدي الهجرة أو القرية بأسرها... يا إلهي... رغم تكتمي للأمر ومحاولتي مداراته بكل الطرق الممكنة والمستحيلة وإخفاءه بقدر الإمكان، اكتشفت مؤخرا بأن العالم أجمع يعلمون عداي أنا... ترى ماذا يعلمون وإلى أي مدى انتشرت أخباري وعلاقتي بوضحى وشقيقها والمراسلات السرية بيننا...
سيطرت على نفسي بصعوبة وتظاهرات باللامبالاة وأنا أقول:
- إن وضحى إحدى طالباتي المتفوقات لذلك فأنا أحبها وأميزها عن بقية الطالبات...
رنت ضحكة ذات مغزى وقالت فاطمة بسخرية مبطنة:
- نتمني ذلك...
اشتعلت غضبا وامتلأت نفسي بالحنق والخجل والاشمئزاز، فمضيت خارجة لا ألوي على شئ ولم أتناول فطوري... استوقفتني صباح قائلة:
- أحلام ... الورقة...
قلت دون أنظر إليها:
- لن أوقع شيئا لست مقتنعة به...
وفي طريق العودة إلى الرياض جلست إلى جوار صباح كعادتي أحيانا... لكنني كنت أعاني تشتتا داخليا مفزعا وأسئلة شتى تطرق رأسي بلا جواب... ماذا عرفت الزميلات بالضبط؟ هل تحدثت وضحى إلى أحد؟ هل اكتشفت شخص ما علاقتي بسعد؟ وما مدى انتشار هذا الاكتشاف؟ هل هو على مستوى المدرسة أم على مستوى القرية ككل؟ وماذا سيحدث لو انتشر الخبر بين زميلاتي؟ كيف ستكون نظرتهن لي؟ وهل سيصل الخبر لأبي فيقضي على حياتي فورا؟ هل أسأل تلك القابعة إلى جواري بصمت لعلها تخفف بعض ما بي؟
ترددت قليلا قبل أن أهمس لها بوجل:
- صباح.. هل... هل... أعني خبر...
قاطعتني بحدة:
- اطمئني فقد مزقنا الورقة وألغينا الشكوى... هل ارتحت الآن؟
وفعلا تنفست الصعداء بأنني لم أتهور وأسألها ما كنت أنوي معرفته، فمهما يكن من أمر، في لحظة أن أحادث" سعد" بما علمته وأسأله الحل...
وفي الموعد المتفق عليه أدرت أرقام الهاتف بأصابع مرتجفة وقلب واجف وعينين حائرتين... كنت أخشى ألا أجده في المكان والزمن نفسيهما ولا أجد من يشاركني هذا الحمل الثقيل الذي ينوء به كاهلي وسمعتي التي أصبحت في مهب الرياح عرضة لكل عاصفة هوجاء وألسنة لا ترحم... إنني لا أخشى على نفسي فقط، فشرفي وكرامتي ليسا ملكي بل هما أمانة أهلي وأبي وأشقائي وأحملهما كرسول يحب أن يحافظ عليهما، ليعيدهما كما هما إن لم يكن أفضل... إنني أحترم اسمي واسم عائلتي عن عقيدة بأن هذا واجب وليس ترفا... أساسي وحتمي وليس جانبيا أو لهوا وعبثا...
صوته الممتد عبر الأسلاك يزلزلني ... يخترق كياني:
- أحلام ... هل أنت مريضة ... ما بك ...لقد انتظرتك طويلا طويلا دون جدوي... هل أنت بخير؟
وتدافعت الكلمات على فمي... تدفق صوتي يحكي له بحرارة عما سمعت ورأيت، عن خوفي وألمي، ترقبي وضياعي، استهزاء الزميلات وغمزهن... سألته في النهاية... هل يعلم أحد ما عن شئ؟
قال بصوت واثق بعث الهدوء والاطمئنان إلى نفسي الخائفة:
- إننا لا نفعل ما هو خطأ أو عيب... ولا يعلم عن علاقتنا الشريفة سوى شقيقتي وضحى وهى لم ولن تخبر أحد ولا تجرؤ على أن تفعل ذلك وهي كتومة جدا بالمناسبة... لكن لا تخشى شيئا ربما لاحظت إحدى زميلات المراسلات بينك وبين وضحى فتوقعت شيئا ما أو شعروا أنها تخصك بالهدايا وحدك ... لكن .. أحلام... لقد قررت التقدم لخطبتك في أسرع وقت ممكن ولن أقبل معارضتك في هذا الأمر...
شهقت بفزع حقيقي:
- إن أبي يعرفك منذ أن قمت بتوصيلي إلى بيتنا وسيكتشف كل شئ....
قاطعني برقة:
- ليس بيننا شئ معيب ليكتشفه ثم إنني أتقدم لك على سنة الله ورسوله ولا أبغي منه أن يبارك لنا الزواج ولن أرفض أي طلب له حتى لو طلب مال قارون... ما رأيك؟
ضحكت بسعادة وأنا أتناسى وجه أبي... أردف قائلا:
- سأحضر لكم بعد غد ومعي أبي وأمي وشقيقي... وسيجمعنا بيت واحد قريبا إن شاء الله وسأسكن معك في الرياض حالما ينتقل عملك إلى الرياض... لكنني أود أن أسألك ماذا تحبين أن يكون اسم طفلنا الأول؟
ضحكت حتى دمعت عيناي وأنا أجيب:
- ليلة الزفاف سأخبرك....
ولم أنهم ليلتها... إحساس بالسعادة أوصلني لمرحلة التعاسة فلم أضحك في حياتي ضحكة قط إلا وأتبعتها بكلمة (اللهم اجعله خير ) هكذا هي أنا أرى السعادة تحمل التعاسة و ألوان الفرح المضيئة تخفي بين طياتها ألوان الحزن القاتمة ولا تعبر البسمة حتى تعقبها دمعة ، لذلك أخشى أيام السعادة وأرتعد خوفا من فرح آت لا ريب ، فخنقت فرحتي تلك الليلة بتشاؤمي المعهود ولم أطلق لخيالي العنان كبقية الفتيات لأتصور ليلة زفافي الرائعة وثوبي الأبيض الناصع يحوطني سعد بذراعه ويجتاز معي خطوات نحو الأمل والسعادة القصوى ... كلا ... كنت أركز أفكاري فقط على الأيام القادمة وما سيحدث بها ...
يوم الجمعة الساعة السادسة مساء ... ما إن خرجت من الحمام حتى تلقفتني زوجة أبي هامسة بأن هناك ضيوفا يرعبون في رؤيتي ... ارتعدت أوصالي بعنف وتسارعت دقات قلبي وأنا أسألها من هم لتشير علي بأن أتبعها بسرعة ... أدركت أنه سعد ... هرعت إلى حجرتي لأنتقي ثوبا للمناسبة ، ولسرعتي واضطرابي لم أجد الثوب الملائم فأخرجت كل أثوابي من الخزانة وألقيتها على الفراش ، ثم وقع اختياري على زي المدرسة اليومي ، قميص أبيض محلى بنقوش سوداء و تنورة سوداء طويلة ثم شرعت في تهذيب شعري الطويل وتجميل وجهي ببعض الرتوش الخفيفة ... وأسرعت إلى حجرة الضيوف لأجد وضحى بوجهها الباسم الخجول تجلس إلى جوار والدتها ... أخذت مكاني بينهم لحظات قبل أن أسمع صوت أبي وهو يعلو ثم صراخه الذي أخذ يتردد في أنحاء البيت :
- ابنتي ليست للزواج ... إنها مخطوبة ...
نزلت علي كلمات أبي كالصاعقة ، فلم أحر جوابا بل مضينا نتبادل نظرات صامتة ذاهلة تغلب فيها الدهشة والتعجب على أي إحساس آخر ... ثم علا صوت أبي مرة أخرى ... علا أكثر فأكثر فملأ الفضاء من حولي وسد جميع الثغرات ليختبئ الصمت في أعماقنا خوفا و خجلا ... قال أبي مواريا آمالي التراب وموجها أولى رصاصاته إلى قلبي :
- قلت لك ليس لدي فتيات للزواج ... إنس الأمر ولا إلى هنا مرة أخرى وإلا طردتك ... ابنتي زفافها بعد شهر واعتبر نفسك مدعوا منذ الآن ...
ضباب كثيف هبط على نفسي فجأة ، فلم أعد أرى شيئا أمامي سوى سماء سوداء كئيبة وطرق تلتف حولي كأفاع سامة تود التهامي ... وخراب في كل مكان ... انهارت معنوياتي وفقدت كل أحلامي دفعة واحدة ، فلم أعد أرى يستحق العيش لأجله أو تحمل الحياة من أجل عينيه ... جفت عيناي فلم أبك وانهمرت دموع الداخل بلا حساب و تزدحم الشهقات الباكية في صدري دون أن تخرج، فتفرز غيظا وقهرا بلا حدود ... أسرعت خارجة من الحجرة دون توديع للضيف إثر كلمة أبي القاطعة ( مع السلامة ولا تريني وجهك مرة أخرى ) .
استوقفتني زوجة أبي فد فعتها عني دون أن أرى ومضيت أصعد السلالم وأشلائي تتمزق مع كل خطوة أخطوها وصوت أعماقي يبعثرني هاتفا: لماذا... لماذا ... لماذا يا أبي ؟ ليأتيني الجواب سريعا على غير انتظار بصفعة مدوية على صدغي ثم أخرى وأخرى وهو يهدر غضبا :
- أوصلك إلى البيت ثم حضر ليخطك ... ما معنى هذا ؟ ما معنى هذا؟ على حافة الانهيار كنت حينما أمسكت أذناي بتلابيب صوته الجهوري وهو يصرخ :
- الفجور والانحلال مكانهما ليس بيتي ، قبل الآن ... قبل أن أغيب عن الوعي أطلق على قلبي رصاصته الأخيرة وحكم علي بالإعدام ...
- استعدي ... زواجك على أبي علي بعد واحد فقط.. لقد طلبك مني مرات عديدة والآن فقط سأجيبه لطلبه ...
أبو علي ... من هو أبو علي هذا... رباه ... كلا ... إنه الشيخ السبعيني تاجر قطع الغيار ،زوج لامرأتين وأب لخمسه عشر ولدا و بنتا ... إنه مصير سعاد يعود لي مرة أخرى ... كلا بل إنه أسوأ من مصير سعاد ، ثم دخلت في غيبوبة أنستني كل شيء مؤقتا.
وللقصة بقية