المشتاقة الى الجنه
الجزء الثالث والعشرون




لم يعد هناك جدوى من الاختفاء والاختباء والتواري... وجودي من عدمه سيان... إذا كان أملي لن يتحقق وحلمي الذي سعيت وراءه طويلاً يوغل في الابتعاد والتلاشي... ما جدوى دفن الرأس في الرمال كالنعامة؟ وشطب اسمي من سجل الأحياء إلى الأبد؟ إذا كنت سأبقي حية بالهواء الذي يتردد في صدري فقط دون أن يجد صداه في حياتي... سجينة بيت شقيقتي وقبلها سجينة نفسي وظروفي... أتطلع لآمال لا تسعها حياتي تماما كصائد الرمال بشبكة صياد... من زرع الخوف في أعماقي؟ متى أثمرت حياة القسوة التي كنت أعيشها؟ لماذا أجني حصاداً لست أنا التي بذرته، دوامة سوداء اقتلعتني من جذوري فوجدت نفسي في بيت ليحل محله الألم والغضب وأشياء أخرى... تكلفت بدرية بسرد كل ما تم الاتفاق عليه للأسرة... حكت كيف وجدني بعض الرعاة فاقدة الوعي خلف إحدى التلال القريبة من مكان الحادث وكيف نقلوني إلى المستشفي المركزي لأبقي فيه أسابيع قليلة حتى استرددت وعيي، فحادثت بدرية لتحضر مع شقيقي حمد ويعيدوني إلى بيت أبي... قبل ذلك بأيام ذهبت شقيقتي بدرية إلى حمد وانتشلته من عالمه الوردي إلى دنيا الواقع المليء بالأشواك.... هزته حد الصدمة وأفاقته على شئ لم يخطر له على بال، فحضر إلىّ مهرولاً من جنته الصغيرة، لأعانقه ونبكي سويا ثم اتفقنا بعدما عرف الحقيقة أن يكتب لي تقريراً طبيا من المستشفى الذي يعمل فيه يفيد بأنني كنت أرقد في المستشفي في قسم العناية المركزة حتى استعدت وعيي...

لم يعلم بالحقيقة سوانا " حمد وأنا وبدرية" وحاولنا إقناع من حولنا بما رويناه، اقتنعت زوجة أبي وأخوتي جميعاً... بيد أن أبي بدا غاضبا وغير قانع... احترت كثيراً في تفسير موقفه وشككت أكثر وأكثر في حزنه لموتي المزعوم، بل كان يبدو حزينا لعودتي للحياة مرة أخرى ويتمني اختفائي من أمامه بأية طريقة...

حدجني أبي بنظرة صاعقة قبل أن يسألني:
- لماذا بم تتصلي بي مباشرة بعد استعادتك وعيك؟
ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أستشعر كتلة حجرية في جوفي لا تخرج ولست بقادرة على ابتلاعها... قلت برهبة:
- ل... لم أتذكر سوى بدرية... وحدها... التي تذكرت!
ضمتني زوجة أبي وهي تبكي قائلة:
- كم كان البيت موحشا بدونك... وأشياؤك... إنها...
ثم انتحبت بصدق وحرارة ليبكي الجميع لبكائها...
ثم قالت شقيقتي الصغرى ببراءة متناهية:
- سامحيني يا أحلام لقد سرقت ثوبك الأحمر وأطواق شعرك الملونة لكنني سأعيدها لك فوراً...

ومضت تصعد السلالم بسرعة قبل أن أتفوه بحرف واحد... مشاعر الحب من حولي لم تعد لي سلامي الداخلي، ولم تبث الفرحة المتلاشية في قلبي، بل على العكس من ذلك، فقد أثارت شجوني وبعثت أحزاني المدفونة من رقادها لتعود حية قوية متدفقة من جديد... وتطرق أبوابي بعنف وصلابة.... حبي الذي انتهى قتيلاً بلا أمل في حياة، وزميلاتي اللاتي تبعثر شبابهن على رصيف الحاجة والمستقبل، فانتفت الحاجة وضاع المستقبل، فلقين حتفهن شهيدات لمعركة لم يختزنها ولم يخضنها بإرادتهن وتركن وراءهن نفوساً ضائعة وقلوباً تحترق... ثم جاء قرار نقلي المتأخر إلى الرياض كرصاصة الرحمة التي أطلقها الجلادون على قلبي... أرادوا الرأفة بوضعي كناجية وحيدة من موت محقق، لكنهم بهذا قذفوا بي إلى أتون الجحيم، فقد انتهي كل شئ يربطني بسعد، بعد هذا النقل المفاجئ، لن أراه بعد اليوم ولن تخطو قدمي أرضه الحبيبة، ولن ألتقي بعيني شقيقته المعبرتين... لن أعيش الأجواء التي أحببتها حتى الثمالة، منظر القرية من بعيد، بيوتها الطينية المنخفضة... مدرستي الحبيبة... حجرة المعلمات التي كانت ميداناً لأفكاري، صراعي اللذيذ بين قلبي وعقلي، حجرة الصف وطالباتي الحبيبات بطيبة قلوبهم العجيبة المعجونة بماء هذا التراب الحبيب... حتى المديرة المترعة بحنان الأمومة وروعة التعامل الودي، إلى الأرض الطينية لفناء المدرسة الكبير... لقد بنيت عليه بيوتاً من خيال ورأيت أحلامي تدرج فيه وتمضي وتكبر... نصبت عليه خيمتي الصغيرة التي ضمتني وسعد وسعادة بلا حدود... وتشرب التراب الحبيب دموعي الغزيرة فشكل عجينه طينية أرتق بها ثقب أحلامي لماذا؟ لماذا يأتي نقلي الآن بالذات بعد أن ضمر أمل زواجي من سعد وبات يندرج في خانة المستحيلات... لماذا يضن عليَ المسؤولون بأمل البقاء معه في مكان واحد وأرض واحدة وتنفصل خطواتنا، فلا نعود ندرج على قريتنا الحبيبة سويا بل يخطوها سعد وحيداً دامعاً ينظر إلى مدرستي السابقة بحزن يمزق الضلوع وقلب يعصر ألما ومرارة ودموعا متحجرة تزرع البؤس والفناء... لم يكن همي النقل منذ وطئت قدماي تلك القرية، ثم تشبثت بها كما يتشبث الغريق بالقشة التي تطفو على الماء، ثم ضربت جذور حبها عمقا كبيرا في قلبي وكياني فلم أعد أستطيع البعد عنها يوماً واحداً... حتى بعد الحادث الأخير فقد كان أملي الكبير في الحياة على أرضها يخفف من ألم ابتعادي المؤقت عنها... لكن بعد النقل... الذي لم أطلبه يوماً ولم أكتب به طلبا كزميلاتي اللاتي كن فعلا بحاجة إليه، فمنهن الابنة والزوجة والأم والحبيبة ولم أكن من هؤلاء، لكن الدنيا هكذا تعطي الإنسان ما هو ليس بحاجة إليه وتسلبه ما يحتاجه ويطلبه وحدث ما كنت أخشاه منذ عدت لدار أبي، فقد اجتمع بي أبي ذات مساء وأنهى إلى أمر زواجي وأنه بات مقرراً بعد أسبوعين... شهقت بهلع وقد اهتز كياني:
- ومن هو يا أبي... أقصد... زوجي القادم...؟
قال بحسم وهو يمد لي يده بصورة فوتوغرافية:
- الشيخ أبو علي تاجر قطع الغيار... وقد طلب سرعة تجهيزك لذلك أبدأي منذ الغد في التسوق... سأعطيك مبلغا من المال لترافقي أم بدر وأختك بدرية للسوق...

تنازعت المشاعر فلم أدر بماذا أجيب... إنه يبيعني بثمن بخس ويعرض عليّ ببساطة أن أكفن نفسي للموت وكأنه ليس موتاً... وكأنه ليس انتهاء وتلاشياً... لملمت أشلائي الممزقة وجراحي الندية، وبقايا من كرامتي السليبة ومضيت أحدق في الصورة التي احتوتها يداي. ملامح صارمة جامدة لوجه مجدور منفر مترهل وقبيح... فرت الدماء من عروقي وجف ريقي وتصلبت يداي... أضحت الصورة ترتجف بين يدي... وصرخات عالية تدوي داخل كياني... كلا... لن أتزوجه كلا يا أبي أرجوك لن أتزوج هذا المسخ الآدمي المشوه... لن أدفن شبابي معه... كيف أجالسه وأبادله الحديث وأتناول الطعام معه... بل كيف أراه وأنظر إليه دون أن أتقيأ ويصيبني الاشمئزاز والغثيان... أبي ارحمني واتق الله في ابنتك التي تقودها نحو الهاوية... ربما تكون مجبراً على هذا الزواج لتنسيني سعد، لكن يا أبي ليس هذا هو من سينسيني " سعد" ولا عشرة من أولاده وأحفاده سينسوني " سعد"... إن " سعد" يا أبي كالمرض الخبيث، قد تمكن من نفسي وروحي فملكهما واستشرى دخل نفسي وضلوعي وامتد يسري مع الدماء والشرايين ثم يضخه القلب مرة أخري ليعاود الكرة مرات ومرات... إن سعد يا أبي هو حياتي التي أعيشها ودنياي التي أحياها وإذا أردتني أن أنساه فاقتلني فوراً وحالاً فسيطويني وحبه قبر واحد على أمل اللقاء في الآخرة... إن هذا الرجل المنفر الماثل في الصورة سيزيد من حبي لسعد بل سيؤججه ويشعله ويقطع أي أمل لي في حياة سعيدة هانئة... أبي أرجوك لا تقتلني مرتين... فإذا كنت قد رفضت " سعد" زوجاً لي فدع الزمن يداوي جراحي... ويبرئ نفسي ويخفف أحزاني... وبعدها ربما أتزوج وأنسي وربما يقتلني الحرمان فأموت... سألني أبي بهدوء:
- ما رأيك يا أحلام؟

تدافعت الكلمات لتخرج من جوفي فلم أنطق... لم أحر جوابا... بقيت أحدق في الصورة ذاهلة وقد تجمدت الدموع في المآقي وتحجرت الصرخات في الأعماق وتصلبت اليدان على الصورة بجنون... أردت أن أتكلم... أعبر عن رأيي، عن رفضي، عن عذابي، أن أصرخ بوجهه مهددة بأن أقتل نفسي لو أجبرني على هذا الزواج أو اهرب من البيت أو في أحسن الأحوال ألجأ إلى القضاء... تملكتني لحظتها بجنون عنيف أردت أن أمزق ثيابي وأدوس على الصورة القبيحة بأقدامي ثم أنثر شظاياها بوجه أبي...
قال أبي بنفس الصوت الهادئ:
- السكوت علامة الرضا... إذن فأنت موافقة...
سحب مني الصورة بنفس الهدوء القاتل المعذب... ومضي ينشب مخاليه الحادة فيما تبقي من رفاتي المتحللة، بنفس تجردت من كل معالم الإنسانية ومعاني السمو والرحمة...
- سيدفع زوجك المقبل مهراً كبيراً اتفقت معه عليه سأعطيك جزءاً منه والجزء المتبقي من حقي، فقد ربيتك ورعيتك ولم أبخل عليك بأي شئ أردته...

اندلعت النيران في أعماقي وأنا جالسة أتشبث بمقعدي خوفاً من الانهيار والتجاوز... لقد طالني ظلمك أخيراً يا أبي وأنا التي انتظرت أياما وشهورا في سلسة لا تنتهي... مضيت أنظر عذاب اخوتي وخذلانك لهم وأنا أرتقب دوري بحدس لا يخيب وخوف يخالطه رهبة كمن ينتظر دوره لدي طبيب جراح بعد سلسة من المرضى... كنت أنتظر واثقة بأن أجلي سيحين عاجلا أم أجلا... وقد حان أجلي وبدأت يا أبي بضمير غائب ونفس متجردة من كل معاني الإنسانية والرجولة بظلمي وسلبي من أبسط حقوقي، بدءاً من حبي الذي قضيت عليه بدون وجه حق، وفرقت بيني وبين حبيبي للأبد، مروراً بدفعي إلى زواج غير متكافئ ويفتقر إلى أدني مقومات الزواج الطبيعي دون بارقة أمل أو بادرة تدل على انسجام أو سعادة في قادم الأيام، وانتهاء بقبض ثمن بيعي لتضيفه إلى رصيدك المتنامي في البنوك بعد أن ألقيت لي بالفتات، وكأنك كنت تربيني وترعاني لتأخذ ثمني أضعافا مضاعفة، رغم أنني كنت أعتمد على نفسي منذ التحقت بالجامعة وبدأت أتسلم مكافأتي الشهرية... وقتها فقط بدأت أعرف طعم الحياة التي لم أعرفها قبلاً... ابتعت لنفسي ما أحب من الثياب والحلى والحلوى والهدايا الصغيرة التي أهديها لمن حولي في المناسبات ولم تدفع من جيبك قرشاً واحداً عليّ منذ التحاقي بالجامعة عدا الطعام الذي نتناوله جميعا مع الخدم... أحسست بدموعي تحرق عيني... تود الانهمار بغزارة احتجاجا على الظلم والقسوة والألم وأمنعها قسراً كيلا أستبيح ما تبقي كرامتي وكبريائي... تراءى لي وجه أمي... لا أدري لماذا تراءى لي وجهها هذا الوقت فقط دون بقية الأيام السابقة... ترى هل كنت أشعر بحاجة إليها، أستمد من خيالها طاقة على الصبر والاحتمال، أم كانت تمثل لي الاستسلام اليائس والخنوع الذليل والامتثال على ما ليس لنا طاقة بتغييره أو احتماله...؟
فوجئت بنفسي أهتف:
- لا حول ولا قوة إلا بالله...

نظر لي أبي فجأة بذهول وترقب وكأنه خشي أن أكرر مأساة أمي أو أعيد الكرة كشقيقتي ندى، لكنني فاجأته بعيون صلبة صلدة لا تحمل أي معان ووجه جامد خاو خال من أية تعابير... تحول ترقبه إلى نظرات مقت وازدراء ثم تجبر وقسوة قبل أن يقول:
- استعدي من الآن... فزوجك قريب.

أي زواج يا أبي هذا الذي تتحدث عنه... ؟ أية فرحة تنتظرها بانكسارات الآخرين؟ أي رقص على الجراح سترقصه؟ أي شراب يمتلئ بدموع العروس، ستفرقه على مدعويك...؟ أي قلب معذب ستهديه لصديقك العريس ومع أطنان من التعاسة والتمزق وحب يتشبث بالروح مختبئ في أزقتها ودهاليزها، مقسماً أن لا يفني حتى تفني هي... أو يفنيا معا... أي عروس تلك التي تتباهى بها وبأنها فتاة غضة طاهرة الذيل لتقدم لعجوز فان... قسماً إن العجوز أفضل منها بكثير، فشبابها يتآكل من الداخل ويذوي بلا حساب وروحها كسيرة وقبلها انطوى على الأحزان... إنك تخدعه يا أبي وستكتشف خدعتك قريباً...

ثم أجهشت ببكاء مرير...



وللقصة بقية...............
رونق الحياة
رونق الحياة
الله يتولك اللي فبالك على المجهود اللي بتعمليه عشانا
بس تنبيه بسيط اختي
هناك بعض الاجزاء مكررة ومن ضمنها هذا الاخير
لك مني جزيل الشكر و دعوة صادقة ان جعل الله الجنة مثواااااااااااااااك
الأم الحنونة
الأم الحنونة
اجد صعوبة في الكتابة الكيبورد خربان
اسمحيلي ان اتابعك في صمت
انتظر نقلك الرائع
فلةuae
فلةuae
شكرا الغاليه وننتظر التكمله ودمتي بود
سمر مر
سمر مر
جزء يحرق الاعصاب وش ذا الاب حسبي الله عليه
ننتظرررررررررررررررررررررررررر