Lulia

Lulia @lulia

عضوة نشيطة

بانورَاما اليُـتم .. !

الأدب النبطي والفصيح



_ " خوّاف " !!

... وأفكرُ في كلماتٍ موجعَة ؛ أردّ بها على اتّهاماتِ " لؤي " ؛ وسُخريتهِ المستمرّة
حينما ينتهي الدوام ونخرجُ من صفّنا الخامس إلى خارجِ المدرسَة ؛ لنلعبَ في الطريق ...

متى يفهم لؤي أنّني أقدّرُ والدي ، ولا يستهويني أن أكونَ السّببَ في غضبِه ؟
كيف أفسّرُ له أنّ الخوفَ حالةٌ طبيعيّة
كثيراً ما تعكسُ الحبّ !؟
:
وخرجتُ معهم كما في كلّ مرّة ..
_ دونَ أن أبرّرَ أو أفسّرَ موقفي _ ؛ لأثبتَ لهم عملياً أنّني " رجُل " !

وبينما نحنُ منهمكينَ في اللعبِ حيثُ تأخرَ والدي ، وليسَ ذلكَ من عادتِه
حانت منّي التفاتةٌ لأرَى عمّي واقفاً ينتظر ..
" مفاجأة " مفرحَة وغريبة في آن !

جريتُ نحوه ..
فنظرَ إليّ بملامحَ أدهشتني ظلالُ الحزنِ والوجعِ فيها ..
_ هيّا يا محمّد ؛ السيّارة ع اليمين
_ طيّب .... ولم أكمل

رافقتهُ بصمتٍ يبعثرُ فضوله ..
قلبيَ الغضّ لا يتوقُ إلى التفاصيل ..
وعمّي يتوجّعُ بتمزّقٍ مكتومٍ أفزعني ، وأخرسَ صمتي فنطق ..
:
_ عمّي .. ليش !؟ ( هذا ما استطعتُه ) !
فركنَ سيّارَتَه .. وظلّ صامتاً لبُرهة ثمّ نظرَ إليّ :
_ محمّد إنتَ صرت رِجّال !

وحبستُ أنفاسي .. كموجوعٍ سُلطَت على جراحهِ كلّ أضواءِ الأرض
_ أبوك يا محمّد راح عند ربّ العالمين ..
:
وما نطقتُ ، ولا بكيت ، ودمَعاتي ما ضنّت عليّ بنزفها ..
فراحتْ للدّاخلِ تنهَمر !
:
دقائقُ صامتَة .. أليمَة ؛ أجهدَها المرَار
وعمّي يلملمُ شتاتَه كـ ثكلى أرهقَها الفرَاق ..
وعينايَ لا تتحوّلانِ عن وجهِه .. وسمعتُ صوتي يتمرّد على الحقائق :
_ كيف يعني !؟

_ يتمتمُ : ( لا إلهَ إلا الله العظيم الحليم ... )
وعينايَ لا تفتُرانِ تحدّقانِ فيه دونَ أن ترُفّا ..
وبقسوةٍ علمتنيها الحياةُ آنذاك .. صرختُ به :
إيش يعني !؟

_ أبوك مات في حادث في طريقه للعمل ..
ويُتبِعها : وإنتَ رِجّال يا محمّد

أشعرُ بهِ بجواري يهذي .. وأنا أفكّرُ في أبي
وفي فلسفةِ الموت/ الحياة التي لم يعِها عقلي بعد !
لن أرى وجهه .. لن أسمعَ صوتَه ؛ عتبَه ، ولا حتّى غضبَه !؟
وأبكي .. وعمّي يبكي
:
وصلتُ إلى بيتِنا الوديع .. الذي كانَ وديعاً ، و قلبي يتحسّسُ الوجوه
ونظراتي المبعثرَة تتحاشَى عمّي ..
أحاولُ أن أهربَ من صلابةِ الحقيقةِ وقسوَتها ..
إلى ليونةِ الوهم !

جميعُهم يرمقونني بقلق ، ينادونني ..
لا يدركونَ أنّ صوتَ أبي يعلوهم ، حينَ همسَ لي هذا الصّباح :
( محمّد حبيبي .. أبغاك تشدّ حيلك ، وما تنسى الصّلاة ) ..
وأجبتهُ بانقيادٍ يبعثره نزق الشّقاوة : إن شاء الله .. أكيد
وابتسمَ ؛ وعيناهُ تعانقانِ وجهي .. واللهِ ابتسَم !!

وصلتُ إلى حيثُ أمّي فهالني النّحيب ..
وددتُ أن أضمّ وجعَها إلى وجَعي ؛ فجلستُ حيثُ أنا
أخبئُ وجهي بكفيّ.. وأحترِق !

تربّتُ جدّتي عليّ ببكاءٍ يفضحُه النشيج :
" يا حبيبي يا محمّد "
:
وحدَها جدّتي ..
من يبعثُ الدّفء في زوايا هذا القلب !

وآنَ وقتُ صلاةِ العصر ..
فتناديني أمّي بنبرةٍ تتّكئُ على الحزم ..
" الصلاة يا محمّد "
خلتُها تزمّ البكاء وهي تقولها .. فبكيتُ أنا !

لم أنَم تلكَ الليلة ..
أنكرتني الدنيا ، وأنكرتُها !

أن يكونَ لكَ " أب " ، فأنتَ تمتلكُ الكثير
على سطحِ هذا الكوكب ..
:
أن يكونَ لكَ " أب " ، فهذا يعني أن تضحكَ .. تضحكَ
منَ القلبِ ؛ دونَ أن تكترثَ لعقباتِ الطريق ..
:
أن يكونَ لكَ " أب " ، فأنتَ تُسنِد " قلبكَ " إلى زاويةٍ
دافئةٍ .. مفعمةٍ بالأماااان !

يا لمرارِ فقدكَ يا أبي ..!!
وتأخذُني الفكَر إلى " هيثم " زميلي في الصّف ..
" هيثم " يتيمُ الأبِ مثلي ..
لا يُخالطنا كثيراً ؛ لكنّه دوماً يبتسمُ لنا
:
كيفَ لليتامى أن يستَلهموا البسمةَ ..
في وجوهِ الآخرينَ/ المترفينَ عاطفةً !؟ .. كيف !؟
..
.
عدتُ إلى المدرسة ، وأثقالُ اليُتمِ قد غرَستْ ملامحَها في وجهي ..
صافحَني أصدقائي ؛ حتّى لؤي المشاكس ؛ ابتسمَ لي وقال معزّياً :
" معليش يا محمّد ، إنتَ رِجّال "
:
كدتُ أبكي على كتِفه :
" أنا خوّاف يا لؤي "
:
خائفٌ منَ الحياة والبشَر
منَ العيونِ الشّرسَة واللامبالية
من النّوايا .. وقواميس القَهر والفقد
ومن .. قلبي !

لمحتُ " هيثم " .. فرأيتُني فيه
وكأنّ " البؤسَ " يمنحُ ضحاياهُ ملامحَ واحدَة !
:
تركتُ أصدقائي وذهبتُ إليه ..
" هيثم " فقط من يُشبِهني ..
لا أحقدُ على أصدقائي .. لكنّ فقدَ أبي باتَ ضعفاً /عيباً
يفضّلُ التواري !

وعقدتُ معهُ لليُتمِ حكاية ..
أذكرُ أنّني سألتُه بتردّد: كيف مات أبوك يا هيثم ؟
فابتسمَ بلامبالاةٍ ، تجهلُ حقيقةَ أن يكونَ لكَ " أب "
وقالَ : " أصلاً ما أعرفه ، مات وأنا في بطن ماما "
:
فاختنقتُ بغصّة ، وطفقتُ أسائلُ نفسي :
تُرى ، من منّا نكسَتهُ مع الحياةِ أكبر!؟

ما عادَ للحياةِ روح ، ومن حولي يحاولونَ تزييفَ
حقيقةَ كوني " طفل " ؛ بابتساماتٍ باهتة ؛ تخفي شجَنها في
أنغامَ مللتُها .. تذكّرني الرّجولة !
..
.
أن ألتزمَ بما يحبّ أبي ، فهذا يُشعرني أن روحَه ترفرفُ حولي ..
لذا حتى صلاةُ الفجر .. ما فاتتني يوماً في المسجد !

تملؤني الصلاةُ بالقوّة ،واليُتمُ يشدّني إلى أسفل
حيثُ الخوفُ ، والشّعورُ بضياعِ " السّنَد " !!
:
الموتُ يرهبُ النّاس ..
يصقلُ قلوبَهم من القسوةِ فـ " تخبِت " .. تبكي
... ثمّ تنسَى !

كلّهم ينسونَ .. لكنّ اليتيمَ لا ينسى !
هناكَ في الأعماقِ زاويَةُ تستجدي الحنان ..
حنانَ الأبِ أو من في مقامهِ خاصّة ..

وأن تكونَ رجلاً هنا ..
فلا تسَلِ الحنانَ ، ولا تكُ حانياً ..
... هكذا يبدو !

صرتُ " عصبيّاً " بعضَ الشيء ..
فحتّى تخفي ضعفَ أعماقِك .. وشغَفها بيدٍ حنونَ
لا بدّ وأن تزيّفها ..
... هكذا هيَ الحياة !!
..
.
جاء رمضان .. وتجدّدَ حزنُ الدّار
يومُه الأوّل .. كانَ لأحزاننا عمرا
:
لا أنظرُ إلى وجهِ أمّي ، وهيَ تتدثّرُ بالأذكار
وجهها يتلوّنُ حتّى الدّمع .. ووجهي يبحثُ عن قناعٍ بأيّ لون
حتّى لو كانَ الفرَح !
:
تعلو نبرتُها بالذكر؛ كمن يقاطعُه صوتٌ ما ..
فيبادرَه ليهزِمه !

علا صوتُ المؤذّنِ ، فتسمّرنا نرقبُ نبرةً حانيةً ..
تتلمّسُ " التمرَ " ، وتهمسُ في استسلامٍ مَهيب :
" بسم الله ، اللهمّ لكَ صمتُ ... "
:
وبكَت أمي وهيَ ترتّلها ، وتسللتُ أنا إلى المسجدِ
وقد تبعثرَت كلماتي ، وما أجيدُ سوى " ياااارب "
:
وبقدرِ ما انتشتْ ساعاتُ رمضانَ بالسّكينةِ والقرآن
بقدرِ ما فقدتُ أبي !
..
.
وحانَ العيد ..
وأستقبلُه كعليلٍ فقدَ إحساسَه بالأشياء ..
أخرجُ مع عمّي وأبناءه للصلاة..
وعينايَ لا تلبثانِ ترقبانِ كلّ عابرٍ بصحبةِ أبيه
أهتمّ بتفاصيلَ قد تبدو ساذجَة .. لكنّها تعني لي حياة !

يُقبّلُ عمّي أبناءه ؛ يهنئُهم بالعيد .. وينساني
كنتُ متكوّماً على وجعي ..
فغمزهُ وائل مذكِّراً ..
:
واحمرّ وجهُ عمّي ، وعلمَ أنّه آلمَني
كأوّلِ سوادٍ في صفحةِ العيد !

استقبلنا رجالاً كثيرينَ ، وربّتتْ عليّ أيدٍ كثيرَة
فأرفعُ عينينِ عطشَى ..علّها تعانقُ لطفَ ابتسامَة يكفكفُ يُتمي
لكنّ الوجوهَ تنصرفُ عنّي إلى غاياتٍ أخرى ..
تتوقُ إلى الأجرِ في مسحةٍ على رأسي ، وتسلبُني حقّ الرّحمة !
:
يا لهذا اليومِ الباهتِ / البارد
وكأنّ الكونَ تماهى ووجعي فارتدَى الشّحوب
... ما أقسَى الحياةَ بلا ألوان !!
..
.
" لا يُفترضُ منَ اليتيم أن يثقلَ على الآخرينَ ؛ بحاجاتهِ العاطفيّة "
هكذا وشوشني " هيثم " ..
كأوّلِ درسٍ في التعاملِ مع حياةِ اليُتم !
:
لا يعترفُ أعمامُ هيثمَ به ..
ولديهِ خالٌ قاسٍ لا يعبأ بالبراءة والحرمان ..
ولا تملكُ أمّه إلا أن تبكي !
:
بقدرِ ما نفقدُ في هذه الحياة ..
بقدرِ ما تمنحنا لنتصالحَ معها وأنفسَنا ..
و هيثم بكلّ جلَده وحرمانِه ، كانَ هبةَ المولى لي !
..
.
فطنتُ مؤخراً إلى " لمَى " شقيقتي الصّغيرة ..
لم تتعدّ العامينِ حينَ وفاةِ والدي ..
لكنّ حيّزَ الأبِ في القلب يبقَى فارغاً ..
يُناشد القلوبَ ألا تنساه .. ولو من وقتٍ لآخرَ
بقُبلةٍ حانية ، ضمّةٍ دافئة ، أو حتّى كلمَة .. لا روحَ فيها
تذكّرهُ أنّه من عِدادِ الأحياء !

وهاهوَ قلبي لا يفتُر يصافحُ قلبَ لمَى ..
يقبّل مكانَ الوجعِ منه ..
وكلما آلمَني الفقدُ .. منحتُها إشراقةَ أعماقي !

بتّ أسعدُ بالعطاء ، وبالرّجولة التي تفوقُ تصوراتِ من حولي السّاذجة
لتحلقَ في عالمٍ أرحبَ .. أرحب
لا يتقنهُ سوى البؤساء !

:
كمْ أنتَ قاسٍ .. أيّها العالم !!


.

24
2K

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

**مرفأ**
**مرفأ**
مشاركة جميلة

هل هي من منقولك؟
Lulia
Lulia
مشاركة جميلة هل هي من منقولك؟
مشاركة جميلة هل هي من منقولك؟

.
.
بل من قلبي ..!
..
.
مرحباً بالمرفأ ،،
**مرفأ**
**مرفأ**
مرحباً بكِ

وبقلبكِ يا لولا

اعذريني ولكن لأنها مشاركة جديدة

لم اكن قد عرفتُ روعة الحرف...وتمكن الكلمات

لله در القلم السامق

وحياك الله أختي
الشااامخة
الشااامخة
لوليا

حقا

لم تكن الا من قلبك ونبضك واحساسك
لذا
فقد وصلت في اعماقي الى المثل

تحية رقيقة دامعة يامبدعة
Lulia
Lulia
لوليا حقا لم تكن الا من قلبك ونبضك واحساسك لذا فقد وصلت في اعماقي الى المثل تحية رقيقة دامعة يامبدعة
لوليا حقا لم تكن الا من قلبك ونبضك واحساسك لذا فقد وصلت في اعماقي الى المثل تحية رقيقة...

المرفأ ..
ممتنّةٌ لهذا الترحيب ..
الأزهار المبللةُ بالنّدى .. يفوحُ أريجها حتّى القلوب !

محبّتي ،،