تعرَّفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدَّة

ملتقى الإيمان

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمدُ لله ذي الفضل العظيم، والخير الواسع العميم، أنعم على عباده بنعمٍ لا تُحصى، ودفع عنهم من الغم ما لا يُعدّ ولا يستقصى، وتفضّل عليهم بالعمل الصالح وجزاهم عليه أفضل الجزا، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له منه المبتدا وإليه المنتهى، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله الذي وصلَ بفضل ربه إلى أعلى مكانٍ يصله الورى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن بهداهم اهتدى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .

أما بعد:

فيا عباد الله، إنكم ترفلون بنِعم الله في صحةٍ ونعمةٍ وأمن ورخاء، فاعرفوا نعمة الله عليكم بذلك واشكروه عليها؛ فإنه سبحانه هو الذي أسداها إليكم وهو الذي مَنَّ بها عليكم، وتعرّفوا الله - عزَّ وجل - في الرخاء يعرفكم في الشدة، تعرّفوا عليه بطاعته رغبةً في ثوابه وبالابتعاد عن معصيته خوفًا من عقابه .

إن رخاء العيش وطيب الحال من النِّعم التي تستوجب الشكر على عباد الله لله - عزَّ وجل - وتستلزم القيام بطاعة المنعم الجواد لِمَن كان له قلب، وإن الإنسان في حال الرخاء، في حال الصحة، في حال الأمن يستطيع أن يعمل ما لا يُمكنه القيام به في حال الشدة؛ لأنه معافًى في بدنه آمنٌ في بلده مترفٌ في جسده، ولكن هل هذه الأحوال تدوم ؟

إنه قد تعقبها شدة فيُصبح مريضًا بعد العافية وخائفًا بعد الأمن وجائعًا بعد الشِّبع وفي شظفٍ بعد الترف، فإذا كان العبد متعرّفًا على الله - عزَّ وجل - في حال الرخاء عرَفَه الله تعالى في حال الشدة فلطف به وأعانه على شدائده ويسَّر أموره لا سيما إذا جاءه الموت وكان في أضيق حال يكون عليها؛ فإن الله تعالى يلطف به في هذه الحال ويوفّقه للتوحيد والإخلاص حتى يموت على لا إله إلا الله «ومَن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»(1).

اللهم اجعلنا من هؤلاء، اللهم اجعلنا من هؤلاء، اللهم اجعلنا من هؤلاء بِمَنّك وكرمك يا أرحم الراحمين .

عباد الله، اذكروا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ ، واذكروا قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ ، واذكروا قول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ .

أيها الإخوة الكرام، تعرّفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدّة واذكروا ما ضربه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لأمّته مثلاً على ذلك فيما قصّه علينا وهو أصدق مَن نطق من بني آدم، قصَّ علينا نبأ «ثلاثة مِمَّن كانوا قبلنا انطلقوا فآواهم المبيت إلى غار فدخلوا في ذلك الغار فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدَّت الغارَ عليهم ولم يتمكّنوا من إزاحتها فقال بعضهم لبعض: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم؛ يعني: أن تتوسّلوا إلى الله بِما صنعتم من صالح الأعمال، فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً؛ أي: لا أعطي أحدًا من اللبن قبلهما، أهلاً ولا مالاً؛ يعني: لا قرابةً ولا مماليك، قال: فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبتُ لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أُغبق قبلهما أحدًا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبيةُ يتضاغون عند قدمي حتى استيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه» توسّل هذا الرجل بالبِّر التامّ لوالديه حتى إنه لم يقدّم عليهما أحدًا من أهل ولا مال فانفرجت الصخرة قليلاً .

وقال الثاني: اللهم إنه كانت لي بنت عم وكنت أحبّها كأشد ما يحب الرجال النساء فاردتها على نفسها فامتنعت منّي حتى ألَمَّت بها سنة من السنين - يعني: احتاجت - فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخُلّي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قعدت بين رجليها قالت: اتَّقِ اللهِ ولا تفضّ الخاتم إلا بحقه، فقمت وانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة إلا إنهم لا يستطيعون الخروج، وهذا توسّل إلى الله تعالى بكمال العّفة .

أما الثالث فقال: اللهم إني استأجرت أُجراء وأعطيتهم أجرهم إلا رجلاً واحدًا ترك أجره وذهب فثمَّرت له أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدِّ إليَّ أجري ؟ فقلت: كل ما ترى من الإبل والبقر والغنم والرقيق فهو لك من أجرك؛ أي: بدَلَه، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله واستاقه ولم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرِّج عنّا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون»(2).

أيها الإخوة، تأمّلوا هذه القصة التي قصّها علينا نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - أصدق الناطقين من البشر وإنَّما قصّها علينا لنتَّخذَ منها عبرة .

فالأول من هؤلاء ضرب مثلاً عظيمًا في البِرِّ بوالديه، بقي طوال الليل والإناء على يده لم تطب نفسه أن يشرب منه ولا أن يسقي أولاده وأهله وماله ولا أن يُنغّص على والديه نومهما حتى طلع الفجر .

وأما الثاني فضرب مثلاً بالغًا في العفّة الكاملة؛ حيث تمكَّن من حصول مراده من هذه المرأة التي هي أحب الناس إليه ولكن لَمّا ذكّرته بالله - عزَّ وجل - تركها وهي أحب الناس إليه ولم يأخذ شيئًا مِمَّا أعطاها .

وأما الثالث فضرب مثلاً في غاية الأمانة والنصح؛ حيث نَمَّى للأجير أجره فبلغ ما بلغ وسلّمه إلى صاحبه ولم يأخذ على عمله شيئًا، فماذا كان من الله الجواد الكريم لقاء هذه الأعمال الصالحة ؟

كان الجزاء من الله - عزَّ وجل - التي تعرّفوا بها لله في حال الرخاء أن الله عرفهم في حال الشدة فأنقذهم من الهلاك وهذه سُنة الله في خلقه إلى يوم القيامة، مَن تعرّف ربه حال الرخاء عرفه في حال الشدة كما أوصى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة»(3).

أيها الإخوة، إن الشدائد أنواع منوّعة وإن أعظم شدة يقع فيها الإنسان ما يكون من شِدة الموت عند فِراق المألوف واستقبال المخوف، عند فراق الأهل والأصحاب، عند الإقبال على سكن التراب، فإذا كان العبد مِمَّن تعرّف إلى الله في حال صحته وحياته عرَفَه الله تعالى في حال شدّته عند وفاته فهوَّن الأمر عليه وأحسن له الخاتمة وانتقل من الدنيا على أحسن حال .

أما إذا كان مُعرضًا عن الله لَمْ يزده الرخاء إلا بطرًا وبُعدًا عن الله وانغماسًا في التّرف الذي به التلف؛ فإن الله يكله إلى نفسه ويتخلّى عنه حال الشدائد فتُحيط به سيئاته ويموت على أسوإ حال وأخبث مآل .

اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين، اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين، اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين، اللهم اجعلنا مِمَّن أقبل إليك مِمَّن تعرّف إليك في الرخاء فعرفته في الشدة يا رب العالمين .

أيها الإخوة، اسمعوا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ .

اللهم اجعلنا من أوليائك المتَّقين وحزبك المفلحين يا رب العالمين .

وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أخوكم :.محمد بن صالح العثيمين
5
701

يلزم عليك تسجيل الدخول أولًا لكتابة تعليق.

تسجيل دخول

أم جنى القمر
أم جنى القمر
جزاك الله خير
الغاده المترفه
خايفة من بكره
خايفة من بكره
جزاك الله خير
Sweet forever
Sweet forever
جزاك الله خير