بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. أما بعد:
لقد عرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب الإسلام وهي الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك )
وتأمل كلام أحد أئمة حفاظ المسلمين وهو الحافظ ابن رجب الحنبلي على هذا الحديث فقال رحمه الله تعالى :
وقوله صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان : ( أن تعبد الله كأنك تراه )
يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة ، وهي استحضار قربه ، وأنه بين يديه كأنه يراه ، وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم ، كما جاء في رواية أبي هريرة : ( أن تخشى الله كأنك تراه ).
ويوجب – أيضاً – النصح في العبادة ، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك )
قيل: إنه تعليل للأول ، فإن العبد إذا أمر بمراقبة الله في العبادة ، واستحضار قربه من عبده ، حتى كأن العبد يراه ، فإنه قد يشق ذلك عليه ، فيستعين على ذلك من أمره ، فإذا حقق هذا المقام ، سهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني ، وهو دوام التحديق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده ومعيته ، حتى كأنه يراه.
وقيل : بل هو إشارة إلى أن من شق عليه أن يعبد الله كأنه يراه ، فليعبد الله على أن الله يراه ويطلع عليه ، فليستحي من نظره إليه ، كما قال بعض العارفين : اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك.
وقال بعضهم : خفِ الله على قدر قدرته عليك ، واستحي منه على قدر قربه منك .
قالت بعض العارفات من السلف : من عمل لله على المشاهدة ، فهو عارف ، ومن عمل على مشاهدة الله إياه فهو مخلص . فأشارت إلى المقامين اللذين تقدم ذكرهما:
أحدهما : مقام الإخلاص ، وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه ، واطلاعه عليه ، وقربه منه ، فإذا استحضر العبد هذا في عمله ، وعمل عليه ، فهو مخلص لله ، لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بالعمل.
والثاني : مقام المشاهدة ، وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه ، وهو يتنور القلب بالإيمان ، وتنفذ البصيرة في العرفان ، حتى يصير الغيب كالعيان.
وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام ، ويتفوت أهل هذا المقام فيه بحسب قوة نفوذ البصائر.
وقد فسر طائفة من العلماء المثل الأعلى المذكور في قوله عز وجل : " وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " بهذا المعنى ، ومثله : قوله تعالى : " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ " والمراد : مثل نوره في قلب المؤمن ، كذا قاله أبي بن كعب وغيره من السلف .
وقد دل القرآن على هذا المعنى في مواضع متعددة كقوله تعالى: " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ " وقوله تعالى : " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ " ، وقوله : " مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا " ، وقوله : " وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ " وقوله : " وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ " وقوله : " وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ "
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالندب على استحضار هذا القرب في حال العبادات ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن أحدكم إذا قام يصلي ، فإنما يناجي ربه ، أو ربه بينه وبين القبلة ) وقوله : ( إن الله قبل وجهه إذا صلى ) .
ومن فهم من شيء من هذه النصوص تشبيهاً أو حلولاً أو اتحاداً ، فإنما أتي من جهله ، وسوء فهمه عن الله ورسوله ، والله ورسوله بريئان من ذلك كله ، فسبحان نم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
قال بكر المزني : من مثلك يا ابن آدم ؟! خُـلِّــيَ بينك وبين المحراب والماء ، كلما شئت ، دخلت على الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان.
ومن وصل إلى استحضار هذا في حال ذكره وعبادته ، استأنس بالله ، واستوحش من خلقه ضرورةً.
قال ثور بن يزيد : قرأت في بعض الكتب أن عيسى عليه السلام قال : يا معشر الحواريين ، كلموا الله كثيراً وكلموا الناس قليلاً ، قالوا: كيف نكلم الله كثيراً ؟ قال : اخلوا بمناجاته ، اخلوا بدعائه . خرَّجه أبو نعيم.
قال غزوان : إني أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.
وعن إبراهيم بن أدهم قال : أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك ، وتستأنس إليه بقلبك ، وعقلك ، وجميع جوارحك حتى لا ترجو إلا ربك ، ولا تخاف إلا ذنبك ، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر عليها شيئاً ، فإذا كنت كذلك لم تبالِ في بر كنت ، أو في بحر ، أو في سهل ، أو في جبل ، وكان شوقك إلى لقاء ذكر الله عندك أحلى من العسل ، وأحلى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف.
وقال الفضيل : طوبى لمن استوحش من الناس ، وكان الله جليسه .
وقال معروف لرجل : توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك .
وقال ذو النون : من علامات المحبين لله أن لا يأنسوا بسواه ، ولا يستوحشوا معه ، ثم قال : إذا شكن القلب حبُّ الله أنِسَ بالله ، لأن الله أجلُّ في صدور العارفين أن يحبوا سواه
وكلام القوم في هذا الباب يطول ذكره جداً ، وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى. انتهى كلامه رحمه الله

(بتصرف)
:27:
جزاكم الله خيرا على هذا النقل الموفق
أسأل الله أن يرزقنا درجة الإحسان و يجعلنا من المحسنات