~*¤®§(*§ ام ريما§*)§®¤*~
جزاااك الله خيرااااااا
اختي wed
*wed*
*wed*
جزاااك الله خيرااااااا اختي wed
جزاااك الله خيرااااااا اختي wed
ياهلا ام ريما لا أعلم كيف اشكرك لكني اقول لك جزاكي الله خير على متابعتك وارجوا ان تعذريني ان تأخرت على الموضوع ..... تابعي معي الآن إكمال أيات الى ماقبل قصة موسى مع الخضر



الآن نتأمل الأيات السابقة بشي من الشرح والتفصيل :



وهي للشيخ الشعراوي :


1- الصبر في الدعوة :

(واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً "27")

أي بعد هذه الأسئلة التي سألك كفار مكة إياها، وأخبرك الله بها فأجبتهم، اعلم أن لك رباً رفيقاً بك، لا يتخلى عنك ولا يتركك لكيدهم، فإن أرادوا أن يصنعوا لك مأزقاً أخرجك الله منه، وإياك أن تظن أن العقبات التي يقيمها خصومك ستؤثر في أمر دعوتك.
وإن أبطأت نصرة الله لك فاعلم أن الله يريد أن يمحص جنود الحق الذين يحملون الرسالة إلى أن تقوم الساعة، فلا يبقى في ساحة الإيمان إلا الأقوياء الناضجون، فالأحداث والشدائد التي تمر بطريق الدعوة إنما لتغربل أهل الإيمان حتى لا يصمد فيها إلا من هو مأمون على حمل هذه العقيدة.

الصبر على الطاعة وملازمة الأتقياء:

(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً "28")

نزلت هذه الآية في "أهل الصفة" وهم جماعة من أهل الله انقطعوا للعبادة فتناولتهم ألسنة الناس واعترضوا عليهم، لماذا لا يعلمون؟ ولماذا لا يشتغلون كباقي الناس؟ بل وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: نريد أن تلتفت إلينا، وأن تترك هؤلاء المجاذيب، و اجعل عينيك فيهم، ولا تصرفها عنهم إلى غيرهم من أهل الدنيا؛ لأن مدد النظرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد للمؤمن

{تريد زينة الحياة الدنيا .. "28"}

لأنك إن فعلت ذلك وانصرفت عنهم، فكأنك تريد زينة الحياة الدنيا وزخارفها.
وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بملازمة أهل الصفة وعدم الانصراف عنهم إلى أهل الدنيا ما يقوي هؤلاء النفر من أهل الإيمان الذين جعلوا دينهم وشاغلهم الشاغل عبادة الله والتقرب إليه.
لكن، هل المطلوب أن يكون الناس جميعاً كأهل الصفة منقطعين للعبادة؟ بالطبع لا، فالحق سبحانه وتعالى جعلهم بين الناس قلة، في كل بلد واحد أو اثنان ليكونوا أسوة تذكر الناس وتكبح جماح تطلعاتهم إلى الدنيا.

{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا .. "28"}

لأنه لا يأمرك بالانصراف عن هؤلاء والالتفات إلى أهل الدنيا إلا من غفل عن ذكر الله، أما من اطمأن قلبه إلى ذكرنا وذاق حلاوة الإيمان فإنه لا يأمر بمثل هذا الأمر، بل هو أقرب ما يكون إلى هؤلاء المجاذيب الأولياء من أهل الصفة، بل وربما تراوده نفسه أن يكون مثلهم، فكيف يأمر بالانصراف عنهم؟

<وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الموقف من الدنيا في قوله: "أوحى الله إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه ..">

فالدنيا بأهلها في خدمة المؤمن الذي يعمر الإيمان قلبه، وليس في باله إلا الله في كل ما يأتي أو يدع. وقوله تعالى:

{واتبع هواه .. "28"}

أي: أن هذا الذي يحرضك على أهل الصفة ما غفل قلبه عن ذكرنا إلا لأنه سار خلف هواه، فأخذه هواه وألهاه عن ذكر الله، فمادام قد انشغل بشيء يوافق هواه فلن يهتم بمطلوب الله، إنه مشغول بمطلوب نفسه؛

<لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به">

فالمؤمن الحق سليم الإيمان من كان هواه ورغبته موافقة لمنهج الله، لا يحيد عنه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى:

{ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض .. "71"}


وقوله تعالى:

{وكان أمره فرطاً "28"}


أي: كان أمره ضياعاً وهباءً، فكأنه أضاع نفسه.



واذكر هنا من بحثي اضافة لما قاله الشعراوي : من هم اهل الصفة ؟


الصُّفَّةُ " الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا أَهْلُ الصُّفَّةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ فِي مُؤَخَّرِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَمَالِيِّ الْمَسْجِدِ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ يَأْوِي إلَيْهَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ وَلَا مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُهَاجِرُوا إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حِينَ آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَبَايَعَهُمْ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ عِنْدَ مِنًى وَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ دَارُ عِزٍّ وَمَنَعَةٍ جَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ السَّابِقُونَ بِهَا صِنْفَيْنِ : الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إلَيْهَا مِنْ بِلَادِهِمْ وَالْأَنْصَارَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَكَانَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ . وَآخَرُونَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ لِمَنْعِ أَكَابِرِهِمْ لَهُمْ بِالْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَآخَرُونَ كَانُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ ظهراني الْكُفَّارِ المستظهرين عَلَيْهِمْ .

فَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْصَارِ بِأَهْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ عَلَى أَنْ يُؤْوُوهُمْ وَيُوَاسُوهُمْ وَكَانَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إذَا قَدِمَ الْمُهَاجِرُ اقْتَرَعَ الْأَنْصَارُ عَلَى مَنْ يَنْزِلُ مِنْهُمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَالَفَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَآخَى بَيْنَهُمْ ثُمَّ صَارَ الْمُهَاجِرُونَ يَكْثُرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ يَنْتَشِرُ وَالنَّاسُ يَدْخُلُونَ فِيهِ .

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو الْكُفَّارَ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِسَرَايَاهُ فَيُسْلِمُ خَلْقٌ تَارَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَتَارَةً ظَاهِرًا فَقَطْ وَيَكْثُرُ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْأَهْلِينَ وَالْعُزَّابِ فَكَانَ مَنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ يَأْوِي إلَى تِلْكَ الصُّفَّةِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُ أَهْلِ الصُّفَّةِ يَجْتَمِعُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَهَّلُ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى مَكَانٍ آخَرَ يَتَيَسَّرُ لَهُ . وَيَجِيءُ نَاسٌ بَعْدَ نَاسٍ فَكَانُوا تَارَةً يَقِلُّونَ وَتَارَةً يَكْثُرُونَ فَتَارَةً يَكُونُونَ عَشْرَةً أَوْ أَقَلَّ وَتَارَةً يَكُونُونَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَأَكْثَرَ وَتَارَةً يَكُونُونَ سِتِّينَ وَسَبْعِينَ . وَأَمَّا جُمْلَةُ مَنْ أَوَى إلَى الصُّفَّةِ مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فَقَدْ قِيلَ : كَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قِيلَ : كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ .



3- الاقرار بالربوبية


(وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً "29")
قوله تعالى:

{وقل الحق من ربكم .. "29"}

أي: قل الحق جاء من ربكم، واختار كلمة الرب ولم يقل من الله، لأن الكل معتقد أن الرب هو الذي خلق
{من ربكم .. "29"}

أي: بإقراركم أنتم، فالذي خلقكم ورباكم وتعهدكم هو الذي نزل لكم هذا الحق
والحق: هو الشيء الثابت، ومادام من الله فلن يغيره أحد؛ لأن الذي يتغير كلامه هو الذي يقضي شيئاً ويجهل شيئاً مقبلاً، وبعد ذلك يعدل، فالحق من الله لأنه سبحانه لا يخفي عليه شيء ولا يعزب عن عمله شيء، لذلك لا استدراك على حكم من أحكامه من أحد من خلقه.
فالربوبية عطاء، فربك الذي خلقك وأمدك بالنعم، وهو الذي يربيك كما يربي الوالد ولده؛ لذلك لم يعترض على الربوبية أحد، أما الألوهية فمطلوبها تكليف: افعل كذا، ولا تفعل كذا، فخاطبهم بالربوبية التي فيها مصلحتهم، ولم يخاطبهم بالألوهية التي تقيد اختياراتهم والإنسان بطبعه لا يميل إلى ما يقيد اختياراته؛ لذلك يلجأون إلى عبادة آلهة أخرى؛ لأنها ليس لها مطلوبات.
فالذي يعبد الشمس أو الصنم أو غيره: بماذا أمرك معبودك؟ وعما نهاك؟ فما العبادة إلا طاعة عابد لمعبود، إذن: فلهم أن يقولوا: نعم هذا الإله، ونعم هذا الدين؛ لأنه يتركني بحريتي افعل ما أريد.
لذلك؛ نجد الذين يدعون ألوهية، أو يدعون نبوة دائماً يميلون إلى تخفيف المناهج؛ لأنهم يعلمون أن المناهج السماوية تصعب على الناس؛ لأن فيها حجراً على حرية حركتهم وحرية اختياراتهم، فلما ادعى مسيلمة النبوة رأى الناس تتبرم من الزكاة فأسقطها عنهم، وكذلك لما ادعت سجاح النبوة خفف الصلاة، وإلا، فكيف سيجمعون الناس من حولهم؟
وما أشبه مدعي الأمس بمدعي اليوم الذين يبيعون الدين بعرض من الدنيا، فيفتون الناس بتحليل ما حرم الله، مثل الاختلاط وغيره من القضايا حتى هان أمر الدين على الناس. والدين وإن كان فطرياً في النفس الإنسانية إلا أن الإنسان يميل إلى من يخفف عنه، وتعجب حين ترى بعض المثقفين وحملة الشهادات يذهبون إلى الدجالين ويصدقونهم، وترى الواحد منهم يكذب نفسه أنه على دين يريحه، ويفعل في ظله ما يريد.
إذن: مادمتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام، فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم، كما نقول في المثل: (اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي)، ومع ذلك ورغم فضل الله ونعمه عليهم قل لهم: لا جبر في الإيمان

4- الحرية في الإختيار بين الإيمان والكفر

{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. "29"}

لأن منفعة الإيمان عائدة عليكم أنتم.

وقد جاء في الحديث القدسي: "إنكم لن تملكوا نفعي فتنعوني، ولن تملكوا ضري فتضروني، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
"ولو أن أولكم وآخركم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كل مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة إذا غمسها أحدكم في بحر، وذلك أني جواد واجد ماجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقوله له كن فيكون".
إذن: فائدة الإيمان تعود على المؤمن، كما قال تعالى:

{من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها .. "46"}
(سورة فصلت)


لكني أحب لخلقي أن يكونوا دائماً على خير مني، فأنا أعطيهم خير الدنيا، وأحب أيضاً أن أعطيهم خير الآخرة.
جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى:

{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .. "28"}

وكان خصوم الإسلام حينما يرون الدعوة تنتشر شيئاً فشيئاً يحاولون إيقافها، لا من جهتهم بالعدوان على من يؤمن، ولكن من جهته صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا إليه وفداً، قالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك، لقد أدخلت على قومك ما لم يدخله أحد قبلك، شتمت آلهتنا وسفهت أحلامنا وسببت ديننا، فإن كنت تريد مالاً جمعنا لك المال حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد جاهاً سودناك علينا، وجعلناك رئيسنا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك.

<فقال صلى الله عليه وسلم: "والله ما بي ما تقولون، ولكن ربي أرسلني بالحق إليكم، فإن أنتم أطعتم فبها، وإلا فإن الله ناصري عليكم">

<وكانت هذه المحاولة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم لعل الأمر حين يكون سراً يتساهل فيه رسول الله، فلما لم يجدوا بغيتهم قالوا: نتوسل إليك بمن تحب، فربما خجل أن يقبل منا ونحن خصومه، فلنرسل إليه من يحبه، فذهبوا إلى عمه أبي طالب، فلما كلمه عمه قال قولته المشهورة: "والله، يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه">

وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً "29")

فالأمر هنا ليس على حقيقته، وإنما هو للتسوية والتهديد، أي: سواء عليكم آمنتم أم لم تؤمنوا، فأنتم أحرار في هذه المسألة؛ لأن الإيمان حصيلته عائدة إليكم، فالله سبحانه غني عنكم وعن إيمانكم، وكذلك خلق الله الذين آمنوا بمحمد هم أيضاً أغنياء عنكم، فاستغناء الله عنكم مسحوب على استغناء الرسول، وسوف ينتصر محمد وينتشر دين الله دونكم.

5- التهويل والتفخيم للعذاب

ثم يقول الحق سبحانه:

{إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها .. "29"}


والعذاب هنا لمن اختار الكفر، لكن لماذا تهول الآية وتفخم أمر العذاب؟ لأن الإعلام بالعقاب وتهويله وتفظيعه الإنذار به لا ليقع الناس في موجبات العقاب، بل لينتهوا عن الجريمة، وينأوا عن أسبابها، إذن: فتفظيع العقاب وتهويله رحمة من الله بالعباد؛ لأن خوف العذاب سيمنعهم من الجريمة.
ومعنى (أعتدنا) أي: أعددنا، فالمسألة منتهية مسبقاً، فالجنة والنار مخلوقة فعلاً ومعدة ومجهزة، لا أنها ستعد في المستقبل، وقد أعدت إعداد قادر حكيم، فأعد الله الجنة لتتسع لكل الخلق إن آمنوا، وأعد النار لتتسع لكل الخلق إن كفروا، فإن آمن بعض الخلق وكفر البعض، فالذي آمن وفر مكانه في النار، والذي كفر وفر مكانه في الجنة.


{للظالمين .. "29"}


والظلم أن تأخذ حقاً وتعطيه للغير، وللظلم أشكال كثيرة، أفظعها وأعظمها الإشراك بالله، لأنك تأخذ حق الله في العبادة وتعطيه لغيره، وهذا قمة الظلم، ثم لأنك الظلم فيما دون ذلك، فيأخذ كل ظالم من العذاب على قدر ظلمه، إلا أن يكون مشركاً. فهذا عذابه دائم ومستمر لا ينقطع ولا يفتر عنه، فإن ظلم المؤمن ظلماً دون الشرك فإنه يعذب به، ثم يدخله الله الجنة، إن لم يتب، وإن لم يغفر الله له.
وقوله تعالى:

{أحاط بهم سرادقها .. "29"}

السرادق، كما نقول الآن: أقاموا السرادق أي: الخيمة. و معنى سرادق: أي محيط بهم، فكأن الله تعالى ضرب سرادقاً على النار يحيط بهم ويحجزهم، بحيث لا تمتد أعينهم إلى مكان خال من النار؛ لأن رؤيته لمكان خال من النار قد توحي إليه بالأمل في الخروج، فالحق سبحانه يريد أن يؤيسهم من الخروج. ثم يقول تعالى:

{وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً "29"}

الاستغاثة: صرخة ألم من متألم لمن يدفع عنه ذلك الألم، كما قال في آية أخرى:

{ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي .. "22"}

أي: حين تصرخون من العذاب لا أستطيع أن أزيل صراخكم، وأنتم كذلك لا تزيلون صراخي.
فأهل النار حين يستغيثون من ألم العذاب (يغاثوا) يتبادر إلى الذهن أنهم يغاثون بشيء من رحمة الله، فتأتيهم نفحة من الرحمة أو يخفف عنهم العذاب .. لا.

{يغاثوا بماء كالمهل .. "29"}

أي: فإن طلبوا الغوث بماء بارد يخفف عنهم ألم النار، فإذا بهم بماء كالمهل.
والمهل هو عكارة الزيت المغلي الذي يسمونه الدردي، أو هو المذاب من المعادن كالرصاص ونحوه، وهذا يحتاج إلى حرارة أعلى من غلي الماء، وهكذا يزدادون حرارة فوق حرارة النار، ويعذبون من حيث ينتظرون الرحمة.
وقوله تعالى هنا: (يغاثوا) أسلوب تهكمي؛ لأن القاعدة في الأساليب اللغوية أن تخاطب المخاطب على مقتضى حاله، فتهنئه حال فرحه، وتعزيه حال حزنه بكلام موافق لمقتضى الحال، فإن أخرجت المقتضى عن الحال الذي يطلبه، فهذا ينافي البلاغة إلا إن أردت التهكم أو الاستهزاء.



6- الربط بين الايمان والعمل الصالح (الأيمان بالله هو الموجه للسلوك القويم )

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا "30"}

وليكن في الاعتبار أن المتكلم رب حكيم، ما من حرف من كلامه إلا وله مغزى، ووراءه حكمة، ذلك أنه تعالى لما تكلم عن الإيمان جعله اختياراً خاضعاً لمشيئة العبد، لكنه تعالى رجح أن يكون الإيمان أولاً وأن يسبق الكفر. أما حينما يتكلم عن حكم كل منهما، فقد بدأ بحكم الكفر من باب أن "درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة".


وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه عطف على الإيمان العمل الصالح؛ لأن الإيمان هو العقيدة التي ينبع عن أصلها السلوك، فلا جدوى من الإيمان بلا عمل بمقتضى هذا الإيمان، وفائدة الإيمان أن توثق الأمر أو النهي إلى الله الذي آمنت به؛ لذلك جاء الجمع بين الإيمان والعمل الصالح في مواضع عدة من كتاب الله،

7- انتفاء الظلم عن الله

{إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً "30"}


نلاحظ أن (من) هنا عامة للمؤمن والكافر؛ لذلك لم يقل سبحانه: إنا لا نضيع أجر من احسن الإيمان؛ لأن العامل الذي يحسن العمل قد يكون كافراً، ومع ذلك لا يبخسه الله تعالى حقه، بل يعطيه حظه من الجزاء في الدنيا.
فالكافر إن اجتهد واحسن في علم أو زراعة أو تجارة لا يحرم ثمرة عمله واجتهاده، لكنها تعجل له في الدنيا وتنتهي المسألة حيث لا حظ له في الآخرة.




8 - الترغيب بالجزاء للمؤمنين

(أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً "31")
(أولئك) أي: الذين آمنوا وعملوا الصالحات

{لهم جنات عدنٍ "31"}
(سورة الكهف)

الجنات رأينا منها صورة في الدنيا، وتطلق إطلاقاً شرعياً وإطلاقاً لغوياً. أما الشرعي: فهو الذي نعرفه من أنها الدار التي أعدها الله تعالى لثواب المؤمنين في الآخرة. أما المعنى اللغوي: فهي المكان الذي فيه زرع وثمار وأشجار تواري من سار فيها وتستره؛ ومادة الجيم والنون تدور كلها حول الاستتار والاختفاء فالجنون استتار العقل والجن مخلوقات لا ترى والجنة بالضم الدرع يستر الجسم عن المهاجم .. الخ.
وقلنا: إن الحق سبحانه حينما يحدثنا عن شيء غيبي يحدثنا بما يوجد في لغتنا من ألفاظ، واللغة التي نتكلم بها، يوجد المعنى أولاً ثم يوجد اللفظ الدال عليه، فإذا عرفنا أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، فإن نطق اللفظ نفهم معناه. فإذا كانت الأشياء التي يحدثنا الله عنها غيباً

<كما قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر">

إذن: فمن أين نأتي بالألفاظ الدالة على هذه المعاني ونحن لم نعرفها؟ لذلك يعبر عنها الحق سبحانه بالشبيه لها في لغتنا، لكن يعطيها الوصف الذي يميزها عن جنة الدنيا، كما جاء في قوله تعالى:

{مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ .. "15"}
(سورة محمد)

ونحن نعرف النهر، ونعرف الماء، لكن يأتي قوله: (غير آسن) ليميز ماء الدنيا، وكذلك في:

{أنهار من خمرٍ لذةٍ للشاربين .. "15"}
(سورة محمد)


فالخمر في الدنيا معروفة؛ لكنها ليست لذة لشاربها، فشاربها يبتلعها بسرعة؛ لأنه لا يستسيغ لها طعماً أو رائحة، كما تشرب مثلاً كوباً من العصير رشفة لتلتذ بطعمه وتتمتع به، كما أن خمر الدنيا تغتال العقول على خلاف خمر الآخرة؛ لذلك لما أعطاها اسم الخمر لنعرفها ميزها بأنها لذة، وخمر الدنيا ليست كذلك؛ لأن لغتنا لا يوجد بها الأشياء التي سيخلقها الله لنا في الجنة، فبها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، والعين إدراكاتها أقل من إدراكات الأذن؛ لأن العين تعطيك المشهد الذي رأيته فحسب، أما الأذن فتعطيك المشهد الذي رأيته والذي رآه غيرك، ثم يقول: "ولا خطر على قلب بشر" فوسع دائرة ما في الجنة، مما لا نستطيع إدراكه.

انتهى


سنتحدث بعد ذلك عن القصة بالتفصيل
*wed*
*wed*
*wed* *wed* :
ياهلا ام ريما لا أعلم كيف اشكرك لكني اقول لك جزاكي الله خير على متابعتك وارجوا ان تعذريني ان تأخرت على الموضوع ..... تابعي معي الآن إكمال أيات الى ماقبل قصة موسى مع الخضر الآن نتأمل الأيات السابقة بشي من الشرح والتفصيل : وهي للشيخ الشعراوي : 1- الصبر في الدعوة : (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً "27") أي بعد هذه الأسئلة التي سألك كفار مكة إياها، وأخبرك الله بها فأجبتهم، اعلم أن لك رباً رفيقاً بك، لا يتخلى عنك ولا يتركك لكيدهم، فإن أرادوا أن يصنعوا لك مأزقاً أخرجك الله منه، وإياك أن تظن أن العقبات التي يقيمها خصومك ستؤثر في أمر دعوتك. وإن أبطأت نصرة الله لك فاعلم أن الله يريد أن يمحص جنود الحق الذين يحملون الرسالة إلى أن تقوم الساعة، فلا يبقى في ساحة الإيمان إلا الأقوياء الناضجون، فالأحداث والشدائد التي تمر بطريق الدعوة إنما لتغربل أهل الإيمان حتى لا يصمد فيها إلا من هو مأمون على حمل هذه العقيدة. الصبر على الطاعة وملازمة الأتقياء: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً "28") نزلت هذه الآية في "أهل الصفة" وهم جماعة من أهل الله انقطعوا للعبادة فتناولتهم ألسنة الناس واعترضوا عليهم، لماذا لا يعلمون؟ ولماذا لا يشتغلون كباقي الناس؟ بل وذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: نريد أن تلتفت إلينا، وأن تترك هؤلاء المجاذيب، و اجعل عينيك فيهم، ولا تصرفها عنهم إلى غيرهم من أهل الدنيا؛ لأن مدد النظرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد للمؤمن {تريد زينة الحياة الدنيا .. "28"} لأنك إن فعلت ذلك وانصرفت عنهم، فكأنك تريد زينة الحياة الدنيا وزخارفها. وفي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بملازمة أهل الصفة وعدم الانصراف عنهم إلى أهل الدنيا ما يقوي هؤلاء النفر من أهل الإيمان الذين جعلوا دينهم وشاغلهم الشاغل عبادة الله والتقرب إليه. لكن، هل المطلوب أن يكون الناس جميعاً كأهل الصفة منقطعين للعبادة؟ بالطبع لا، فالحق سبحانه وتعالى جعلهم بين الناس قلة، في كل بلد واحد أو اثنان ليكونوا أسوة تذكر الناس وتكبح جماح تطلعاتهم إلى الدنيا. {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا .. "28"} لأنه لا يأمرك بالانصراف عن هؤلاء والالتفات إلى أهل الدنيا إلا من غفل عن ذكر الله، أما من اطمأن قلبه إلى ذكرنا وذاق حلاوة الإيمان فإنه لا يأمر بمثل هذا الأمر، بل هو أقرب ما يكون إلى هؤلاء المجاذيب الأولياء من أهل الصفة، بل وربما تراوده نفسه أن يكون مثلهم، فكيف يأمر بالانصراف عنهم؟ &lt;وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم الموقف من الدنيا في قوله: "أوحى الله إلى الدنيا: من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه .."&gt; فالدنيا بأهلها في خدمة المؤمن الذي يعمر الإيمان قلبه، وليس في باله إلا الله في كل ما يأتي أو يدع. وقوله تعالى: {واتبع هواه .. "28"} أي: أن هذا الذي يحرضك على أهل الصفة ما غفل قلبه عن ذكرنا إلا لأنه سار خلف هواه، فأخذه هواه وألهاه عن ذكر الله، فمادام قد انشغل بشيء يوافق هواه فلن يهتم بمطلوب الله، إنه مشغول بمطلوب نفسه؛ &lt;لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"&gt; فالمؤمن الحق سليم الإيمان من كان هواه ورغبته موافقة لمنهج الله، لا يحيد عنه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض .. "71"} وقوله تعالى: {وكان أمره فرطاً "28"} أي: كان أمره ضياعاً وهباءً، فكأنه أضاع نفسه. واذكر هنا من بحثي اضافة لما قاله الشعراوي : من هم اهل الصفة ؟ الصُّفَّةُ " الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا أَهْلُ الصُّفَّةِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ فِي مُؤَخَّرِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَمَالِيِّ الْمَسْجِدِ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ يَأْوِي إلَيْهَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ وَلَا مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُهَاجِرُوا إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ حِينَ آمَنَ مَنْ آمَنَ مِنْ أَكَابِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَبَايَعَهُمْ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ عِنْدَ مِنًى وَصَارَ لِلْمُؤْمِنِينَ دَارُ عِزٍّ وَمَنَعَةٍ جَعَلَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ الْمُؤْمِنُونَ السَّابِقُونَ بِهَا صِنْفَيْنِ : الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَاجَرُوا إلَيْهَا مِنْ بِلَادِهِمْ وَالْأَنْصَارَ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَكَانَ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ مِنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ حُكْمٌ آخَرُ . وَآخَرُونَ كَانُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ لِمَنْعِ أَكَابِرِهِمْ لَهُمْ بِالْقَيْدِ وَالْحَبْسِ وَآخَرُونَ كَانُوا مُقِيمِينَ بَيْنَ ظهراني الْكُفَّارِ المستظهرين عَلَيْهِمْ . فَلَمَّا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَنْزِلُ عَلَى الْأَنْصَارِ بِأَهْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ عَلَى أَنْ يُؤْوُوهُمْ وَيُوَاسُوهُمْ وَكَانَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إذَا قَدِمَ الْمُهَاجِرُ اقْتَرَعَ الْأَنْصَارُ عَلَى مَنْ يَنْزِلُ [ عِنْدَهُ ] مِنْهُمْ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَالَفَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَآخَى بَيْنَهُمْ ثُمَّ صَارَ الْمُهَاجِرُونَ يَكْثُرُونَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَارَ يَنْتَشِرُ وَالنَّاسُ يَدْخُلُونَ فِيهِ . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُو الْكُفَّارَ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِسَرَايَاهُ فَيُسْلِمُ خَلْقٌ تَارَةً ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَتَارَةً ظَاهِرًا فَقَطْ وَيَكْثُرُ الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالْأَهْلِينَ وَالْعُزَّابِ فَكَانَ مَنْ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ مَكَانٌ يَأْوِي إلَيْهِ يَأْوِي إلَى تِلْكَ الصُّفَّةِ الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُ أَهْلِ الصُّفَّةِ يَجْتَمِعُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَتَأَهَّلُ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى مَكَانٍ آخَرَ يَتَيَسَّرُ لَهُ . وَيَجِيءُ نَاسٌ بَعْدَ نَاسٍ فَكَانُوا تَارَةً يَقِلُّونَ وَتَارَةً يَكْثُرُونَ فَتَارَةً يَكُونُونَ عَشْرَةً أَوْ أَقَلَّ وَتَارَةً يَكُونُونَ عِشْرِينَ وَثَلَاثِينَ وَأَكْثَرَ وَتَارَةً يَكُونُونَ سِتِّينَ وَسَبْعِينَ . وَأَمَّا جُمْلَةُ مَنْ أَوَى إلَى الصُّفَّةِ مَعَ تَفَرُّقِهِمْ فَقَدْ قِيلَ : كَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ قِيلَ : كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْرِفْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ . 3- الاقرار بالربوبية (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً "29") قوله تعالى: {وقل الحق من ربكم .. "29"} أي: قل الحق جاء من ربكم، واختار كلمة الرب ولم يقل من الله، لأن الكل معتقد أن الرب هو الذي خلق {من ربكم .. "29"} أي: بإقراركم أنتم، فالذي خلقكم ورباكم وتعهدكم هو الذي نزل لكم هذا الحق والحق: هو الشيء الثابت، ومادام من الله فلن يغيره أحد؛ لأن الذي يتغير كلامه هو الذي يقضي شيئاً ويجهل شيئاً مقبلاً، وبعد ذلك يعدل، فالحق من الله لأنه سبحانه لا يخفي عليه شيء ولا يعزب عن عمله شيء، لذلك لا استدراك على حكم من أحكامه من أحد من خلقه. فالربوبية عطاء، فربك الذي خلقك وأمدك بالنعم، وهو الذي يربيك كما يربي الوالد ولده؛ لذلك لم يعترض على الربوبية أحد، أما الألوهية فمطلوبها تكليف: افعل كذا، ولا تفعل كذا، فخاطبهم بالربوبية التي فيها مصلحتهم، ولم يخاطبهم بالألوهية التي تقيد اختياراتهم والإنسان بطبعه لا يميل إلى ما يقيد اختياراته؛ لذلك يلجأون إلى عبادة آلهة أخرى؛ لأنها ليس لها مطلوبات. فالذي يعبد الشمس أو الصنم أو غيره: بماذا أمرك معبودك؟ وعما نهاك؟ فما العبادة إلا طاعة عابد لمعبود، إذن: فلهم أن يقولوا: نعم هذا الإله، ونعم هذا الدين؛ لأنه يتركني بحريتي افعل ما أريد. لذلك؛ نجد الذين يدعون ألوهية، أو يدعون نبوة دائماً يميلون إلى تخفيف المناهج؛ لأنهم يعلمون أن المناهج السماوية تصعب على الناس؛ لأن فيها حجراً على حرية حركتهم وحرية اختياراتهم، فلما ادعى مسيلمة النبوة رأى الناس تتبرم من الزكاة فأسقطها عنهم، وكذلك لما ادعت سجاح النبوة خفف الصلاة، وإلا، فكيف سيجمعون الناس من حولهم؟ وما أشبه مدعي الأمس بمدعي اليوم الذين يبيعون الدين بعرض من الدنيا، فيفتون الناس بتحليل ما حرم الله، مثل الاختلاط وغيره من القضايا حتى هان أمر الدين على الناس. والدين وإن كان فطرياً في النفس الإنسانية إلا أن الإنسان يميل إلى من يخفف عنه، وتعجب حين ترى بعض المثقفين وحملة الشهادات يذهبون إلى الدجالين ويصدقونهم، وترى الواحد منهم يكذب نفسه أنه على دين يريحه، ويفعل في ظله ما يريد. إذن: مادمتم مؤمنين بربوبية خلق وربوبية إمداد وإنعام، فعليكم أن تؤمنوا بما جاء من ربكم، كما نقول في المثل: (اللي يأكل لقمتي يسمع كلمتي)، ومع ذلك ورغم فضل الله ونعمه عليهم قل لهم: لا جبر في الإيمان 4- الحرية في الإختيار بين الإيمان والكفر {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. "29"} لأن منفعة الإيمان عائدة عليكم أنتم. وقد جاء في الحديث القدسي: "إنكم لن تملكوا نفعي فتنعوني، ولن تملكوا ضري فتضروني، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وحيكم وميتكم، وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً". "ولو أن أولكم وآخركم اجتمعوا في صعيد واحد، وسألني كل مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة إذا غمسها أحدكم في بحر، وذلك أني جواد واجد ماجد، عطائي كلام وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقوله له كن فيكون". إذن: فائدة الإيمان تعود على المؤمن، كما قال تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها .. "46"} (سورة فصلت) لكني أحب لخلقي أن يكونوا دائماً على خير مني، فأنا أعطيهم خير الدنيا، وأحب أيضاً أن أعطيهم خير الآخرة. جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .. "28"} وكان خصوم الإسلام حينما يرون الدعوة تنتشر شيئاً فشيئاً يحاولون إيقافها، لا من جهتهم بالعدوان على من يؤمن، ولكن من جهته صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا إليه وفداً، قالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك، لقد أدخلت على قومك ما لم يدخله أحد قبلك، شتمت آلهتنا وسفهت أحلامنا وسببت ديننا، فإن كنت تريد مالاً جمعنا لك المال حتى تصير أغنانا، وإن كنت تريد جاهاً سودناك علينا، وجعلناك رئيسنا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك. &lt;فقال صلى الله عليه وسلم: "والله ما بي ما تقولون، ولكن ربي أرسلني بالحق إليكم، فإن أنتم أطعتم فبها، وإلا فإن الله ناصري عليكم"&gt; &lt;وكانت هذه المحاولة بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم لعل الأمر حين يكون سراً يتساهل فيه رسول الله، فلما لم يجدوا بغيتهم قالوا: نتوسل إليك بمن تحب، فربما خجل أن يقبل منا ونحن خصومه، فلنرسل إليه من يحبه، فذهبوا إلى عمه أبي طالب، فلما كلمه عمه قال قولته المشهورة: "والله، يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه"&gt; وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً "29") فالأمر هنا ليس على حقيقته، وإنما هو للتسوية والتهديد، أي: سواء عليكم آمنتم أم لم تؤمنوا، فأنتم أحرار في هذه المسألة؛ لأن الإيمان حصيلته عائدة إليكم، فالله سبحانه غني عنكم وعن إيمانكم، وكذلك خلق الله الذين آمنوا بمحمد هم أيضاً أغنياء عنكم، فاستغناء الله عنكم مسحوب على استغناء الرسول، وسوف ينتصر محمد وينتشر دين الله دونكم. 5- التهويل والتفخيم للعذاب ثم يقول الحق سبحانه: {إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها .. "29"} والعذاب هنا لمن اختار الكفر، لكن لماذا تهول الآية وتفخم أمر العذاب؟ لأن الإعلام بالعقاب وتهويله وتفظيعه الإنذار به لا ليقع الناس في موجبات العقاب، بل لينتهوا عن الجريمة، وينأوا عن أسبابها، إذن: فتفظيع العقاب وتهويله رحمة من الله بالعباد؛ لأن خوف العذاب سيمنعهم من الجريمة. ومعنى (أعتدنا) أي: أعددنا، فالمسألة منتهية مسبقاً، فالجنة والنار مخلوقة فعلاً ومعدة ومجهزة، لا أنها ستعد في المستقبل، وقد أعدت إعداد قادر حكيم، فأعد الله الجنة لتتسع لكل الخلق إن آمنوا، وأعد النار لتتسع لكل الخلق إن كفروا، فإن آمن بعض الخلق وكفر البعض، فالذي آمن وفر مكانه في النار، والذي كفر وفر مكانه في الجنة. {للظالمين .. "29"} والظلم أن تأخذ حقاً وتعطيه للغير، وللظلم أشكال كثيرة، أفظعها وأعظمها الإشراك بالله، لأنك تأخذ حق الله في العبادة وتعطيه لغيره، وهذا قمة الظلم، ثم لأنك الظلم فيما دون ذلك، فيأخذ كل ظالم من العذاب على قدر ظلمه، إلا أن يكون مشركاً. فهذا عذابه دائم ومستمر لا ينقطع ولا يفتر عنه، فإن ظلم المؤمن ظلماً دون الشرك فإنه يعذب به، ثم يدخله الله الجنة، إن لم يتب، وإن لم يغفر الله له. وقوله تعالى: {أحاط بهم سرادقها .. "29"} السرادق، كما نقول الآن: أقاموا السرادق أي: الخيمة. و معنى سرادق: أي محيط بهم، فكأن الله تعالى ضرب سرادقاً على النار يحيط بهم ويحجزهم، بحيث لا تمتد أعينهم إلى مكان خال من النار؛ لأن رؤيته لمكان خال من النار قد توحي إليه بالأمل في الخروج، فالحق سبحانه يريد أن يؤيسهم من الخروج. ثم يقول تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً "29"} الاستغاثة: صرخة ألم من متألم لمن يدفع عنه ذلك الألم، كما قال في آية أخرى: {ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي .. "22"} أي: حين تصرخون من العذاب لا أستطيع أن أزيل صراخكم، وأنتم كذلك لا تزيلون صراخي. فأهل النار حين يستغيثون من ألم العذاب (يغاثوا) يتبادر إلى الذهن أنهم يغاثون بشيء من رحمة الله، فتأتيهم نفحة من الرحمة أو يخفف عنهم العذاب .. لا. {يغاثوا بماء كالمهل .. "29"} أي: فإن طلبوا الغوث بماء بارد يخفف عنهم ألم النار، فإذا بهم بماء كالمهل. والمهل هو عكارة الزيت المغلي الذي يسمونه الدردي، أو هو المذاب من المعادن كالرصاص ونحوه، وهذا يحتاج إلى حرارة أعلى من غلي الماء، وهكذا يزدادون حرارة فوق حرارة النار، ويعذبون من حيث ينتظرون الرحمة. وقوله تعالى هنا: (يغاثوا) أسلوب تهكمي؛ لأن القاعدة في الأساليب اللغوية أن تخاطب المخاطب على مقتضى حاله، فتهنئه حال فرحه، وتعزيه حال حزنه بكلام موافق لمقتضى الحال، فإن أخرجت المقتضى عن الحال الذي يطلبه، فهذا ينافي البلاغة إلا إن أردت التهكم أو الاستهزاء. 6- الربط بين الايمان والعمل الصالح (الأيمان بالله هو الموجه للسلوك القويم ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا "30"} وليكن في الاعتبار أن المتكلم رب حكيم، ما من حرف من كلامه إلا وله مغزى، ووراءه حكمة، ذلك أنه تعالى لما تكلم عن الإيمان جعله اختياراً خاضعاً لمشيئة العبد، لكنه تعالى رجح أن يكون الإيمان أولاً وأن يسبق الكفر. أما حينما يتكلم عن حكم كل منهما، فقد بدأ بحكم الكفر من باب أن "درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة". وهنا نلاحظ أن الحق سبحانه عطف على الإيمان العمل الصالح؛ لأن الإيمان هو العقيدة التي ينبع عن أصلها السلوك، فلا جدوى من الإيمان بلا عمل بمقتضى هذا الإيمان، وفائدة الإيمان أن توثق الأمر أو النهي إلى الله الذي آمنت به؛ لذلك جاء الجمع بين الإيمان والعمل الصالح في مواضع عدة من كتاب الله، 7- انتفاء الظلم عن الله {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً "30"} نلاحظ أن (من) هنا عامة للمؤمن والكافر؛ لذلك لم يقل سبحانه: إنا لا نضيع أجر من احسن الإيمان؛ لأن العامل الذي يحسن العمل قد يكون كافراً، ومع ذلك لا يبخسه الله تعالى حقه، بل يعطيه حظه من الجزاء في الدنيا. فالكافر إن اجتهد واحسن في علم أو زراعة أو تجارة لا يحرم ثمرة عمله واجتهاده، لكنها تعجل له في الدنيا وتنتهي المسألة حيث لا حظ له في الآخرة. 8 - الترغيب بالجزاء للمؤمنين (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقاً "31") (أولئك) أي: الذين آمنوا وعملوا الصالحات {لهم جنات عدنٍ "31"} (سورة الكهف) الجنات رأينا منها صورة في الدنيا، وتطلق إطلاقاً شرعياً وإطلاقاً لغوياً. أما الشرعي: فهو الذي نعرفه من أنها الدار التي أعدها الله تعالى لثواب المؤمنين في الآخرة. أما المعنى اللغوي: فهي المكان الذي فيه زرع وثمار وأشجار تواري من سار فيها وتستره؛ ومادة الجيم والنون تدور كلها حول الاستتار والاختفاء فالجنون استتار العقل والجن مخلوقات لا ترى والجنة بالضم الدرع يستر الجسم عن المهاجم .. الخ. وقلنا: إن الحق سبحانه حينما يحدثنا عن شيء غيبي يحدثنا بما يوجد في لغتنا من ألفاظ، واللغة التي نتكلم بها، يوجد المعنى أولاً ثم يوجد اللفظ الدال عليه، فإذا عرفنا أن هذا اللفظ موضوع لهذا المعنى، فإن نطق اللفظ نفهم معناه. فإذا كانت الأشياء التي يحدثنا الله عنها غيباً &lt;كما قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"&gt; إذن: فمن أين نأتي بالألفاظ الدالة على هذه المعاني ونحن لم نعرفها؟ لذلك يعبر عنها الحق سبحانه بالشبيه لها في لغتنا، لكن يعطيها الوصف الذي يميزها عن جنة الدنيا، كما جاء في قوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماءٍ غير آسنٍ .. "15"} (سورة محمد) ونحن نعرف النهر، ونعرف الماء، لكن يأتي قوله: (غير آسن) ليميز ماء الدنيا، وكذلك في: {أنهار من خمرٍ لذةٍ للشاربين .. "15"} (سورة محمد) فالخمر في الدنيا معروفة؛ لكنها ليست لذة لشاربها، فشاربها يبتلعها بسرعة؛ لأنه لا يستسيغ لها طعماً أو رائحة، كما تشرب مثلاً كوباً من العصير رشفة لتلتذ بطعمه وتتمتع به، كما أن خمر الدنيا تغتال العقول على خلاف خمر الآخرة؛ لذلك لما أعطاها اسم الخمر لنعرفها ميزها بأنها لذة، وخمر الدنيا ليست كذلك؛ لأن لغتنا لا يوجد بها الأشياء التي سيخلقها الله لنا في الجنة، فبها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، والعين إدراكاتها أقل من إدراكات الأذن؛ لأن العين تعطيك المشهد الذي رأيته فحسب، أما الأذن فتعطيك المشهد الذي رأيته والذي رآه غيرك، ثم يقول: "ولا خطر على قلب بشر" فوسع دائرة ما في الجنة، مما لا نستطيع إدراكه. انتهى سنتحدث بعد ذلك عن القصة بالتفصيل
ياهلا ام ريما لا أعلم كيف اشكرك لكني اقول لك جزاكي الله خير على متابعتك وارجوا ان تعذريني ان...
فوائد وحكم من القصة الثانية في سورة الكهف :



1- من الجمال الملاحظ في الايات هو ارتباط القصة بما سبق واختيار الكلمة المناسبة للحدث ... وكيف لا وهو كلام احكم الحاكمين ...كلام رب العالمين

حيث يقول الشعراوي:


واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً "32")

ومازال الكلام موصولاً بالقوم الذين أرادوا أن يصرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وبذلك انقسم الناس إلى قسمين: قسم متكبر حريص على جاهه وسلطانه، وقسم ضعيف مستكين لا جاه له ولا سلطان، لكن الحق سبحانه يريد استطراق آياته استطراقاً يشمل الجميع، ويسوي بينهم.
لذلك؛ أراد الحق سبحانه وتعالى أن يضرب لنا مثلاً موجوداً في الحياة، ففي الناس الكافر الغني والمؤمن الفقير، وعليك أن تتأمل موقف كل منهما. قوله تعالى:

{واضرب لهم مثلاً رجلين .. "32"}

قلنا: إن الضرب معناه أن تلمس شيئاً بشيء أقوى منه بقوة تؤلمه، ولابد أن يكون الضارب أقوى من المضروب، إلا فلو ضربت بيدك شيئاً أقوى منك فقد ضربت نفسك، ومن ذلك قول الشاعر:
ويا ضارباً بعصاه الحجر ضربت العصا أم ضربت الحجر؟
وضرب المثل يكون لإثارة الانتباه والإحساس، فيخرجك من حالة إلى أخرى، كذلك المثل: الشيء الغامض الذي لا تفهمه ولا تعيه، فيضرب الحق سبحانه له مثلاً يوضحه وينبهك إليه؛ لذلك قال:

والحق تبارك وتعالى قال:

{إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها .. "26" } (سورة البقرة)

ثم يعطينا القرآن الكريم أمثالاً كثيرة لتوضيح قضايا معينة، كما في قوله تعالى:

{مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون "41"}
(سورة العنكبوت)

وكذا قوله تعالى عن نقض الوعد وعدم الوفاء به:

{ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً .. "92"}
(سورة النحل)



2- ارجاع النعم الى المنعم سبحانه وتعالى وشكره عليها والحذر من الإفتتان بالمال (هذه الفتنة الثانية في السورة بعد فتنة الفتوة )


رجلين .. "32"}

أي: هل محل المثل:

{جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً "32"}

هل هذا المثل كان موجوداً بالفعل، وكان للرجلين وجود فعلي في التاريخ؟
نعم، كانوا واقعاً عند بني إسرائيل وهما براكوس ويهوذا، وكان يهوذا مؤمنا راضياً، وبراكوس كان مستغنياً، وقد ورثا عن أبيهم ثمانية آلاف دينار لكل منهما، أخذ براكوس نصيبه واشترى به أرضاً يزرعها وقصراً يسكنه وتزوج فأصبح له ولدان وحاشية، أما يهوذا، فقد رأى أن يتصدق بنصيبه، وأن يشتري به أرضاً في الجنة وقصراً في الجنة وفضل الحور العين والولدان في جنة عدن على زوجة الدنيا وولدانها وبهجتها. وهكذا استغنى براكوس بما عنده واغتر به،

(هنا القصة اختلف فيه كما سبق واشرت في بداية تفسير القصة .... والإتفاق واضح وهو الذي يهمنا ان القصة وقعت سواء قبل زمن الرسول من ابني اسرائيل او في زمانه من العرب )

وأول الخيبة أن تشغلك النعمة عن المنعم، وتظن أن ما أنت فيه من نعيم ثمرة جهدك وعملك، ونتيجة سعيك ومهارتك، كما قال قارون:

{قال إنما أوتيته على علم عندي .. "78"}
(سورة القصص)

فتركه الله لعلمه ومهارته، فليحرص على ماله بما لديه من علم وقوة:

{فخسفنا به وبداره الأرض .. "81"}


ولم ينفعه ماله أو علمه. إذن: هاتان صورتان واقعيتان في المجتمع: كافر يستكبر ويستغني ويستعلي بغناه، ومؤمن قنوع بما قسم الله له. وانظر إلى الهندسة الزراعية في قوله تعالى:

{جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً "32"}

فقد علمنا الله تعالى أن نجعل حول الحدائق والبساتين سوراً من النخيل ليكون سياجاً يصد الهواء والعواصف، وذكر سبحانه النخيل والعنب وهي من الفاكهة قبل الزرع الذي منه القوت الضروري، كما ذكر من قبل الأساور من ذهب، وهي للزينة قبل الثياب، وهي من الضروريات. وقوله:

{جنتين .. "32"}

نراها إلى الآن فيمن يريد أن يحافظ على خصوصيات بيته؛ لأن للإنسان مسكناً خاصاً، وله عموميات أحباب، فيجعل لهم مسكناً آخر حتى لا يطلع أحد على حريمه؛



3- على قدر العمل يثُمر الأجر والعطاء ...

(كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهراً "33")
أي: أعطت الثمرة المطلوبة منها، والأكل: هو ما يؤكل، ونعرف أن الزراعات تتلاحق ثمارها فتعطيك شيئاً اليوم، وشيئاً غداً، وشيئاً بعد غد وهكذا.

{ولم تظلم منه شيئاً .. "33"}


كلمة (تظلم) تعطينا إشارة إلى عمل الخير في الدنيا، فالأرض وهي جماد لا تظلم، ولا تمنعك حقاً، ولا تهدر لك تعباً، فإن أعطيتها جهدك وعملك جادت عليك، تبذر فيها كيلة تعطيك إردباً، وتضع فيها البذرة الواحدة فتغل عليك الآلاف.
إذن: فهي كريمة جوادة شريطة أن تعمل ما عليك من حرثٍ وبذر ورعاية وسقيا، وقد تريحك السماء، فتسقى لك. لذلك، لما أراد الحق سبحانه أن يضرب لنا المثل في مضاعفة الأجر، قال:

{مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبةٍ .. "261"}
(سورة البقرة)


فإذا كانت الأرض تعطيك بالحبة سبعمائة حبة، فما بالك بخالق الأرض؟ لاشك أن عطاءه سيكون أعظم؛ لذلك قال بعدها:

{والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم "261"}
(سورة البقرة)


إذن: فالأرض لا تظلم، ومن عدل الأرض أن تعطيك على قدر تعبك وكدك فيها، والحق سبحانه أيضاً يقدر لك هذا التعب، ويشكر لك هذا المجهود،

<والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أحد الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال: "هذه يد يحبها الله ورسوله">

يحبها الله ورسوله؛ لأنها تعبت وعملت لا على قدر حاجتها، بل على أكثر من حاجتها، عملت لها وللآخرين، وإلا لو عمل كل عامل على قدر حاجته، فكيف يعيش الذي لا يقدر على العمل؟
إذن: فعلى أصحاب القدرة والطاقة أن يعملوا لما يكفيهم، ويكفي العاجزين عن العمل، وهب أنك لن تتصدق بشيء للمحتاج، لكنك ستبيع الفائض عنك، وهذا في حد ذاته نوع من التيسير على الناس والتعاون معهم.
وما أشبه الأرض في عطائها وسخائها بالأم التي تجزل لك العطاء إن بررت بها، وكذلك الأرض، بل إن الأم بطبيعتها قد تعطيك دون مقابل وتحنو عليك وإن كنت جاحداً، وكذلك الأرض ألا تراها تخرج لك من النبات ما لم تزرعه أو تتعب فيه؟ فكيف إذا أنت أكرمتها بالبر؟ لاشك ستزيد لك العطاء.
والحقيقة أن الأرض ليست أمنا على وجه التشبيه، بل هي أمنا على وجه الحقيقة؛ لأننا من ترابها وجزء منها، فالإنسان إذا مرض مثلاً يصير ثقيلاً على كل الناس لا تتحمله وتحنو عليه وتزيل عنه الأذى مثل أمه، وكذلك إن مات وصار جيفة يأنف منه كل أخر محب وكل قريب، في حين تحتضنه الأرض، وتمتص كل ما فيه، وتستره في يوم هو أحوج ما يكون إلى الستر. ثم يقول تعالى:

{وفجرنا خلالهما نهراً "33"}


ذلك لأن الماء هو أصل الزرع، فجعل الله للجنتين ماءً مخصوصاً يخرج منهما ويتفجر من خلالهما لا يأتيهما من الخارج، فيحجبه أحد عنهما.


(وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفراً "34")

أي: لم يقتصر الأمر على أن كان له جنتان فيهما النخيل والأعناب والزرع الذي يؤتي أكله، بل كان له فوق ذلك ثمر أي: موارد أخرى من ذهب وفضة وأولاد؛ لأن الولد ثمرة أبيه، وسوف يقول لأخيه بعد قليل: أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً. ثم تدور بينهما هذه المحاورة:

{فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً "34"}


دليل على أن ما تقدم ذكره من أمر الجنتين وما فيهما من نعم دعته إلى الاستعلاء هو سبب القول (لصاحبه)، والصاحب هو: من يصاحبك ولو لم تكن تحبه (يحاوره) أي: يجادله بأن يقول أحدهما فيرد عليه الآخر حتى يصلوا إلى نتيجة.



4- بيان حقيقة النفس الإنسانية وفطرتها

(ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً"35")

نقول: لأن الإنسان إن كان له جنتان فلن يدخلهما معاً في وقت واحد، بل حال دخوله سوف يواجه جنة واحدة، ثم بعد ذلك يدخل الأخرى. وقوله:

{وهو ظالم لنفسه .. "35"}

قد يظلم الإنسان غيره، لكن كيف يظلم نفسه هو؟ يظلم الإنسان نفسه حينما يرخي لها عنان الشهوات، فيحرمها من مشتهيات أخرى، ويفوت عليها ما هو أبقى وأعظم، وظلم الإنسان يقع على نفسه؛ لأن النفس لها جانبان: نفس تشتهي، ووجدان يردع بالفطرة.
فالمسألة ـ إذن ـ جدل بين هذه العناصر؛ لذلك يقولون: أعدي أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبته، فإن قلت: كيف وأنا ونفسي شيء واحد؟ لو تأملت لوجدت أنك ساعة تحدث نفسك بشيء ثم تلوم نفسك عليه؛ لأن بداخلك شخصيتين: شخصية فطرية، وشخصية أخرى استحوازية شهوانية، فإن مالت النفس الشهوانية أو انحرفت قومتها النفس الفطرية وعدلت من سلوكها.
لذلك قلنا: إن المنهج الإلهي في جميع الديانات كان إذا عمت المعصية في الناس، ولم يعد هناك من ينصح ويرشد أنزل الله فيهم رسولاً يرشدهم ويذكرهم، إلا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سبحان حملهم رسالة نبيهم، وجعل هدايتهم بأيديهم، وأخرج منهم من يحملون راية الدعوة إلى الله؛ لذلك لن يحتاجوا إلى رسول آخر وكان صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل.
وكأنه سبحانه يطمئننا إلى أن الفساد لن يعم، فإن وجد من بين هذه الأمة العاصون، ففيها أيضاً الطائعون الذين يحملون راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه مسألة ضرورية، وأساس يقوم عليه المجتمع الإسلامي. ثم يقول تعالى:

{قال ما أظن أن تبيد هذه أبداً "35"}


فهل معنى هذا أنه ظالم لنفسه بالدخول؟ لا، لأنها جنته يدخلها كما يشاء، إنما المراد بالظلم هنا ما دار في خاطره، وما حدث نفسه به حال دخوله، فقد ظلم نفسه عندما خطر بباله الاستعلاء بالغنى، والغرور بالنعمة، فقال: ما أظن أن تبيد هذه النعمة، أو تزول هذه الجنة الوارفة أو تهلك، لقد غره واقع ملموس أمام عينيه استبعد معه أن يزول عنه كل هذا النعيم، ليس هذا وفقط، بل دعاه غروره إلى أكثر فقال:

(وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلباً "36") هكذا أطلق لغروره العنان،
لذلك ما أنكر قيام الساعة هزته الأوامر الوجدانية، فاستدرك قائلا:

{ولئن رددت إلى ربي .. "36"}
أي: على كل حال إن رددت إلى ربي في القيامة، فسوف يكون لي أكثر من هذا وأعظم وكأنه ضمن أن الله تعالى أعد له ما هو افضل من هذا. ونقف لنتأمل قول هذا الجاحد المستعلي بنعمة الله عليه المفتون بها:

{ولئن رددت إلى ربي .. "36"}
حيث يعرف أن له رباً سيرجع إليه، فإن كنت كذوباً فكن ذكوراً، لا تناقض نفسك، فما حدث منك من استعلاء وغرور وشك في قيام الساعة يتنافى وقولك (ربي) ولا يناسبه.



5- الحرص على ابداء الحقيقة والنصح للاخرين والتقريع اللطيف ان لزم الامر مع اجلاء الحقائق

(قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً"37")

هنا يرد عليه صاحبه المؤمن محاوراً ومجادلاً ليجلي له وجه الصواب:

{أكفرت بالذي خلقك من ترابٍ .. "37"}

أي: كلامك السابق أنا أنا، وما أنت فيه من استعلاء وإنكار، أتذكر هذا كله ولا تذكر بدايتك ومنشأك من تراب الذي هو أصل خلقك

{ثم من نطفةٍ .. "37"}

وهي أصل التناسل

{ثم سواك رجلاً "37"}

أي: كاملاً مستوياً و

{سواك .. "37"}
(سورة الكهف)

التسوية: هي إعداد الشيء إعداداً يناسب مهمته في الحياة، وقلنا: إن العود الحديد السوي مستقيم، والخطاف في نهايته أعوج، والاعوجاج في الخطاف هو عين استقامته واستواء مهمته؛ لأن مهمته أن نخطف به الشيء، ولو كان الخطاف هذا مستقيماً لما أدى مهمته المرادة. والهزة في

{أكفرت .. "37"}
(سورة الكهف)

ليست للاستفهام، بل هي استنكار لما يقوله صاحبه، وما بدر منه من كفر ونسيان لحقيقة أمره وبداية خلقه.
والتراب هو أصل الإنسان، وهو أيضاً مرحلة من مراحل خلقه؛ لأن الله تعالى ذكر في خلق الإنسان مرة (من ماء) ومرة (من تراب) ومرة (من حمأ مسنون) ومرة (من صلصال كالفخار).
لذلك يعترض البعض على هذه الأشياء المختلفة في خلق الإنسان، والحقيقة أنها شيء واحد، له مراحل متعددة انتقالية، فإن أضفت الماء للتراب صار طيناً، فإذا ما خلطت الطين بعضه ببعض صار حمأ مسنوناً، فإذا تركته حتى يجف ويتماسك صار صلصالاً، إذن: فهي مرحليات لشيء واحد. ثم يقول الحق سبحانه أن هذا المؤمن

*******

(لكن هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً "38") قوله:

{لكنا .. "38"}

أي: أنا، فحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون. ولكن للاستدراك، المؤمن يستدرك على ما قاله صاحبه: أنا لست مثلك فيما تذهب إليه، فإن كنت قد كفرت بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة. ثم سواك رجلاً، فأنا لم أكفر بمن خلقني، فقولي واعتقادي الذي أومن به:

{هو الله ربي .. "38"}
(سورة الكهف)

وتلاحظ أن الكافر لم يقل: الله ربي، إنما جاءت ربي على لسانه في معرض الحديث، والفرق كبير بين القولين؛ لأن الرب هو الخالق المتولي للتربية، وهذا أمر لا يشك فيه أحد، ولا اعتراض عليه، إنما الشك في الإله المعبود المطاع، فالربوبية عطاء، ولكن الألوهية تكليف؛ لذلك اعترف الكافر بالربوبية، وأنكر الألوهية والتكليف.
ثم يؤكد المؤمن إيمانه فيقول:

{ولا أشرك بربي أحداً "38"}

ولم يكتف المؤمن بأن أبان لصاحبه ما هو فيه من الكفر، بل أراد أن يعدي إيمانه إلى الغير، فهذه طبيعة المؤمن أن يكون حريصاً على هداية غيره، لذلك بعد أن أوضح إيمانه بالله تعالى أراد أن يعلم صاحبه كيف يكون مؤمناً، ولا يكمل إيمان المؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأيضاً من العقل للمؤمن أن يحاول أن يهدي الكافر؛ لأن المؤمن صحيح سلوكه بالنسبة للآخرين، ومن الخير للمؤمن أيضاً أن يصحح سلوك الكافر بالإيمان.
لذلك من الخير بدل أن تدعو على عدوك أن تدعو له بالهداية؛ لأن دعاءك عليه سيزيد من شقائك به، وهاهو يدعو صاحبه،

*******

(ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولداً"39")
يريد أن يعلمه سبيل الإيمان في استقبال النعمة، بأن يرد النعم إلى المنعم؛ لأن النعمة التي يتقلب فيها الإنسان لا فضل له فيها، فكلها موهوبة من الله، فهذه الحدائق والبساتين كيف آتت أكلها؟ إنها الأرض التي خلقها الله لك، وعندما حرثتها حرثتها بآلة من الخشب أو الحديد، وهو موهوب من الله لا دخل لك فيه، والقوة التي أعانتك على العمل موهوبة لك يمكن أن تسلب منك في أي وقت، فتصير ضعيفاً لا تقدر على شيء.
إذن: حينما تنظر إلى كل هذه المسائل تجدها منتهية إلى العطاء الأعلى من الله سبحانه. خذ هذا المقعد الذي تجلس عليه مستريحاً وهو في غاية الأناقة وإبداع الصنعة، من أين أتى الصناع بمادته؟ لو تتبعت هذا لوجدته قطعة خشب من إحدى الغابات، ولو سألت الغابة: من أين لك هذا الخشب لأجابتك من الله.

إذن: لو حللت أي نعمة من النعم التي لك فيها عمل لوجدت أن نصيبك فيها راجع إلى الله، وموهوب منه سبحانه. وحتى بعد أن ينمو الزرع ويزهر أو يثمر لا تأمن أن تأتيه آفة أو تحل به جائحة فتهلكه




6- الحرص على عدم الحسد للاخرين او للنفس بل حفظها بذكر الله وارجاع النعم للمنعم

ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله .. "39"}


(لولا) بمعنى: هلا وهي للحث التحضيض، وعلى الإنسان إذا رأى ما يعجبه في مال أو ولد حتى لو أعجبه وجهه في المرآة عليه أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

<وفي الحديث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قيل عند نعمة: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، إلا ولا ترى فيها آفة إلا الموت">

فساعة أن تطالع نعمة الله كان من الواجب عليك ألا تلهيك النعمة عن المنعم، كان عليك أن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، أي: أن هذا كله ليس بقوتي وحيلتي، بل فضل من الله فترد النعمة إلى خالقها ومسديها، ومادمت قد رددت النعمة إلى خالقها فقد استأمنته عليها واستحفظته إياها، وضمنت بذلك بقاءها.

فإن قلتها على نعمتك حفظت ونمت، وإن قلتها على نعمة الغير أعطاك الله فوقها. والعجيب أن المؤمن الفقير الذي لا يملك من متاع الدنيا شيئاً يدل صاحبه الكافر على مفتاح الخير الذي يزيده من خير الدنيا، رغم ما يتقلب فيه من نعيمها، فمفتاح زيادة الخير في الدنيا ودوام النعمة فيها أن تقول:

{ما شاء الله لا قوة إلا بالله .. "39"}


ويستطرد المؤمن، فيبين لصاحبه ما عيره به من أنه فقير وهو غني، وما استعلى عليه بماله وولده:

{إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً "39"}
(سورة الكهف)

ثم ذكره بأن الله تعالى قادر على أن يبدل هذا الحال،

********

فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقاً"40")

وعسى للرجاء، فإن كان الرجاء من الله فهو واقع لاشك فيه؛ لذلك حينما تقول عند نعمة الغير: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) يعطيك الله خيراً مما قلت عليه: (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، وإن اعترفت بنعمة الله عليك ورددت الفضل إليه سبحانه زادك، كما جاء في قوله تعالى:

{لئن شكرتم لأزيدنكم "7"}
(سورة إبراهيم)


فقوله:

{فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك .. "40"}
(سورة الكهف)

أي: ينقل مسألة الغنى والفقر ويحولها، فأنت لا قدرة لك على حفظ هذه النعمة، كما أنك لا قدرة لك على جلبها من البداية. إذن: يمكن أن يعطيني ربي نعمة مثل نعمتك، في حين تظل نعمتك كما هي، لكن إرادة الله تعالى أن يقلب نعمتك ويزيلها:

{ويرسل عليها حسبانا من السماء .. "40"}
(سورة الكهف)

هذه النعمة التي تعتز بها وتفخر بزهرتها وتتعالى بها على خلق الله يمكن أن يرسل الله عليها حسباناً.
والحسبان: الشيء المحسوب المقدر بدقة وبحساب، كما جاء في قوله تعالى:

{الشمس والقمر بحسبانٍ "40"}
(سورة الرحمن)

والخالق سبحانه وتعالى جعل الشمس والقمر لمعرفة الوقت:

{لتع
وحسب حسباناً مثل غفر غفراناً، وقد أرس الله على هذه الجنة التي اغتر بها صاحبها صاعقة محسوبة مقدرة على قدر هذه الجنة لا تتعداها إلى غيرها، حتى لا يقول: إنها آية كونية عامة أصابتني كما أصابت غيري .. لا. إنها صاعقة مخصوصة محسوبة لهذه الجنة دون غيرها.
ثم يقول تعالى:

{فتصبح صعيدا زلقا "40"}
(سورة الكهف)

أي: أن هذه الجنة العامرة بالزروع والثمار، المليئة بالنخيل والأعناب بعد أن أصابتها الصاعقة
أصبحت صعيداً أي: جدباء يعلوها التراب،
أي: تراباً مبللاً تنزلق عليه الأقدام، فلا يصلح لشيء، حتى المشي عليه

******

(أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلباً"41")
(غوراً) أي: غائراً في الأرض، فإن قلت: يمكن أن يكون الماء غائراً، ونستطيع إخراجه بالآلات مثلاً، لذلك يقطع أمله في أي حيلة يفكر فيها:
فلن تستطيع له طلباً
أي: لن تصل إليه بأي وسيلة من وسائلك، ومن ذلك قوله تعالى في آية أخرى:

{قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين "30"}
(سورة الملك)


لاحظ أن هذا الكلام من المؤمن لصاحبه الكافر مجرد رجاء يخاطبه به:

{فعسى ربي .. "40"}
(سورة الكهف)

رجاء لم يحدث بعد، ولم يصل إلى إيقاعيات القدر.



7- الإيضاح بجزاء الإشراك بالله والغرور والكبرياء بمحق البركة وعقاب الله سبحانه وتعالى

(وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً "42")
هكذا انتقل الرجاء إلى التنفيذ، وكأن الله تعالى استجاب للرجل المؤمن ولم يكذب توقعه

{وأحيط بثمره "42"}
(سورة الكهف)

أحيط: كأن جعل حول الثمر سوراً يحيط به، فلا يكون له منفذ،
ولم يقل مثلاً: أحيط بزرعه أو بنخله؛ لأن الإحاطة قد تكون بالشيء، ثم يثمر بعد ذلك، لكن الإحاطة هنا جاءت على الثمر ذاته، وهو قريب الجني قريب التناول، وبذلك تكون الفاجعة فيه أشد، والثمر هو الغاية والمحصلة النهائية للزرع.

ثم يصور الحق سبحانه ندم صاحب الجنة وأسفه عليها:

{فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها "42"}
(سورة الكهف)

أي: يضرب كفاً بكف، كما يفعل الإنسان حينما يفاجئه أمر لا يتوقعه، فيقف مبهوتاً لا يدري ما يقول، فيضرب كفاً بكف لا يتكلم إلا بعد أن يفيق من هول هذه المفاجأة ودهشتها. ويقلب كفيه على أي شيء؟ يقلب كفيه ندماً على ما أنفق فيها

{وهي خاوية على عروشها "42"}
(سورة الكهف)

خاوية: أي خربة جرداء جدباء،

{ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً "42"}


بعد أن ألجمته الدهشة عن الكلام، فراح يضرب كفاً بكف، أفاق من دهشته، ونزع هذا النزوع القولي الفوري:

{يا ليتني لم أشرك بربي أحداً "42"}


يتمنى أنه لم يشرك بالله أحداً؛ لأن الشركاء الذين اتخذهم من دون الله لم ينفعوه،

*********

(ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصراً "43")
أي: ليس لديه أعوان ونصراء يدفعون عنه هذا الذي حل به، ويمنعون عنه الخراب الذي حاق بجنته

{وما كان منتصراً "43"}
(سورة الكهف)

أي: ما كان ينبغي له أن ينتصر، ولا يجوز له الانتصار، لماذا؟

***********

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

هنالك: أي في وقت الحالة هذه، وقت أن نزلت الصاعقة من السماء فأتت على الجنة، وجعلتها خاوية على عروشها، هناك تذكر المنعم وتمنى لو لم يشرك بالله، فقوله: (هنالك) أي: في الوقت الدقيق وقت القمة، قمة النكد والكدر.
و(هنالك) جاءت في القرآن في الأمر العجيب، ويدعو إلى الأمر الأعجب،

و(الولاية) أن يكون لك ولي ينصرك، فالولي هو الذي يليك، ويدافع عنك وقت الشدة، وفي قراءة أخرى: (هناك الولاية) بكسر الواو يعني الملك، كما في قوله:

{هو خير ثواباً "44"}
(سورة الكهف)

لأنه سيجازي على العمل الصالح بثواب، هو خير من الدنيا وما فيها

{وخير عقباً "44"}
(سورة الكهف)

أي: خير العاقبة بالرزق الطيب في جنة الخلد.
هكذا ضرب الله تعالى لنا مثلاً، وأوضح لنا عاقبة الغني الكافر، والفقير المؤمن، وبين لنا أن الإنسان يجب ألا تخدعه النعمة ولا يغره النعيم؛ لأنه موهوب من الله، فاجعل الواهب المنعم سبحانه دائماً على بالك، كي يحافظ لك على نعمتك وإلا لكنت مثل هذا الجاحد الذي استعلى واغتر بنعمة الله فكانت عاقبته كما رأيت.
وهذا مثل في الأمر الجزئي الذي يتعلق بالمكلف الواحد، ولو نظرت إليه لوجدته يعم الدنيا كلها؛ فهو مثال مصغر لحال الحياة الدنيا

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا

لذلك انتقل الحق سبحانه من المثل الجزئي إلى المثل العام والذي سنتحدث عنه في الرد التالي بأذن الله
~*¤®§(*§ ام ريما§*)§®¤*~
جزاك الله خيرااااا
بصراحه موضوع متعوب عليه رائع
جعله الله في ميزان حسناتكم..
ياررررررررررررررررررررررررب
*wed*
*wed*
جزاك الله خيرااااا بصراحه موضوع متعوب عليه رائع جعله الله في ميزان حسناتكم.. ياررررررررررررررررررررررررب
جزاك الله خيرااااا بصراحه موضوع متعوب عليه رائع جعله الله في ميزان...
اهلا ريما ... :26:
ساكمل الايات ...



(واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً"45")

الحق تبارك وتعالى في هذه الآية يوضح المجهول لنا بما علم لدينا. وأهل البلاغة يقولون: في هذه الآية تشبيه تمثيل؛ لأنه سبحانه شبه حال الدنيا في قصرها وسرعة زوالها بالماء الذي نزل من السماء، فارتوت به الأرض، وأنبتت ألواناً من الزروع والثمار، ولكن سرعان ما يذبل هذا النبات ويصير هشيماً متفتتاً تذهب به الريح.

وهكذا الدنيا تبدو جميلة مزهرة مثمرة حلوة نضرة، وفجأة لا تجد في يديك منها شيئاً؛ لذلك سماها القرآن دنيا وهو اسم يوحي بالحقارة، وإلا فأي وصف أقل من هذا يمكن أن يصفها به؟ لنعرف أن ما يقابلها حياة عليا.
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: كما ضربت لهم مثل الرجلين وما آل إليه أمرهما اضرب لهم مثل الحياة الدنيا وأنها تتقلب بأهلها، وتتبدل بهم، واضرب لهم مثلاً للدنيا من واقع الدنيا نفسها. ومعنى

{فاختلط به نبات الأرض "45"}


أي: اختلط بسببه نبات الأرض، وتداخل بعضه في بعض، وتشابكت أغصانه وفروعه، وهذه صورة النبات في الأرض الخصبة، أما إن كانت الأرض مالحة غير خصبة فإنها تخرج النبات مفرداً، عود هنا وعود هناك.
لكن، هل ظل النبات على حال خضرته ونضارته؟ لا، بل سرعان ما جف وتكسر وصار هشيماً تطيح به الريح وتذروه

ثم يقول تعالى:
{وكان الله على كل شيء مقتدراً "45"}

لأنه سبحانه القادر دائماً على إخراج الشيء إلى ضده،
فقد اقتدر سبحانه على الإيجاد، واقتدر على الإعدام، فلا تنفك عنه صفة القدرة أبداً، أحيا وأمات، وأعز وأذل، وقبض وبسط، وضر ونفع .. ولما كان الكلام السابق عن صاحب الجنة الذي اغتر ب
ماله وولده فناسب الحديث عن المال والولد



(المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً "46")
تلك هي العناصر الأساسية في فتنة الناس في الدنيا: المال والبنون، لكن لماذا قدم المال؟ أهو أغلى عند الناس من البنين؟ نقول: قدم الحق سبحانه المال على البنين، ليس لأنه أعز أو أغلى؛ إنما لأن المال عام في المخاطب على خلاف البنين، فكل إنسان لديه المال وإن قل، أما البنون فهذه خصوصية، ومن الناس من حرم منها.
كما أن البنين لا تأتي إلا بالمال؛ لأنه يحتاج إلى الزواج والنفقة لكي يتناسل وينجب، إذن: كل واحد له مال، وليس لكل واحد بنون، والحكم هنا قضية عامة، وهي:

{المال والبنون زينة الحياة الدنيا .. "46"}

كلمة (زينة) أي: ليست من ضروريات الحياة، فهو مجرد شكل وزخرف؛ لأن المؤمن الراضي بما قسم له يعيش حياته سعيداً بدون مال، وبدون أولاد؛ لأن الإنسان قد يشقى بماله، أو يشقى بولده، لدرجة أنه يتمنى لو مات قبل أن يرزق هذا المال أو هذا الولد.
وقد باتت مسألة الإنجاب عقدة مشكلة عند كثير من الناس، فترى الرجل كدراً مهموماً؛ لأنه يريد الولد ليكون له عزوة وعزة، وربما يزرق الولد ويرى الذل على يديه، وكم من المشاكل تثار في البيوت؛ لأن الزوجة لا تنجب.
ولو أيقن الناس أن الإيجاد من الله نعمة، وأن السلب من الله أيضاً نعمة لاستراح الجميع

<وقد حدد لنا النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا، فقال: "من أصبح معافى في بدنه، آمناً في سربه ـ أي: لا يهدد أمنه أحد ـ وعنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها">

فما زاد عن ذلك فهو من الزينة، فالإنسان ـ إذن ـ يستطيع أن يعيش دون مال أو ولد، يعيش بقيم تعطي له الخير، ورضاً يرضيه عن خالقه تعالى. ثم يقول تعالى:

{والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملاً "46"}


لأن المال والبنين لن يدخلا معك القبر، ولن يمنعاك من العذاب، ولن ينفعك إلا الباقيات الصالحات.

<والنبي صلى الله عليه وسلم حينما أهديت إليه شاة، وكانت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ تعرف أن رسول الله يحب من الشاة الكتف؛ لأنه لحم رقيق خفيف؛ لذلك احتفظت لرسول الله بالكتف وتصدقت بالباقي، فلما جاء صلى الله عليه وسلم قال: "ماذا صنعت في الشاة"؟ قالت: ذهبت كلها إلا كتفها، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: "بل بقيت كلها إلا كتفها">

<وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: "هل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت">

{والباقيات .. "46"}
مادام قال (والباقيات) فمعنى هذا أن ما قبلها لم يكن من الباقيات بل هو زائل بزوال الدنيا، ثم وصفها بالصالحات ليفرق بينها وبين الباقيات السيئات التي يخلدون بها في النار.

{والباقيات الصالحات خير .. "46"}

خير عند من؟ لأن كل مضاف إليه يأتي على قوة المضاف إليه، فخيرك غير خير من هو أغنى منك، غير خير الحاكم، فما بالك بخير عند الله؟

{خير عند ربك ثوابا وخير أملاً "46"}

والأمل: ما يتطلع إليه الإنسان مما لم تكن به حالته، فإن كان عنده خير تطلع إلى أعلى منه، فالأمل الأعلى عند الله تبارك وتعالى، كل هذا يبين لنا أن هذه الدنيا زائلة، وأننا ذاهبون إلى يوم باقٍ؛ لذلك أردف الحق سبحانه بعد الباقيات الصالحات ما يناسبها




(ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً"47")

أي: اذكر جيداً يوم نسير الجبال وتنتهي هذه الدنيا، واعمل الباقيات الصالحات لأننا سنسير الجبال التي تراها ثابتة راسخة تتوارث الأجيال حجمها وجرمها، وقوتها وصلابتها، وهي باقية على حالها.
ومعنى تسيير الجبال: إزالتها عن أماكنها
ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر أقوى مظهر ثابت في الحياة الدنيا، وإلا ففي الأرض أشياء أخرى قوية وثابتة كالعمائر ناطحات السحاب، والشجر الكبير الضخم المعمر وغيرها كثير. فإذا كان الحق سبحانه سينسف هذه للجبال ويزيلها عن أماكنها، فغيرها مما على وجه الأرض زائل من باب أولى.
ثم يقول سبحانه:
{وترى الأرض بارزة "47"}
(سورة الكهف)

الأرض: كل ما أقلك من هذه البسيطة التي نعيش عليها، وكل ما يعلوك ويظلك فهو سماء، ومعنى: (بارزة) البراز: هو الفضاء، أي: وترى الأرض فضاءً خالية مما كان عليها من أشكال الجبال والمباني والأشجار، حتى البحر الذي يغطي جزءاً كبيراً من الأرض.
كل هذه الأشكال ذهبت لا وجود لها، فكأن الأرض برزت بعد أن كانت مختبئة: بعضها تحت الجبال، وبعضها تحت الأشجار، وبعضها تحت المباني، وبعضها تحت الماء، فأصبحت فضاء واسعاً، ليس فيه معلم لشيء.

{وحشرناهم "47"}


أي: جمعناهم ليوم الحساب؛ لأنهم فارقوا الدنيا على مراحل من لدن آدم عليه السلام، والموت يحصد الأرواح، وقد جاء اليوم الذي يجمع فيه هؤلاء.
{فلم نغادر منهم أحداً "47"}


أي: لم نترك منهم واحداً، الكل معرض على الله، وكلمة (نغادر) ومادة (غدر) تؤدي جميعها معنى الترك، فالغدر مثلاً ترك الوفاء وخيانة الأمانة، حتى غدير وهو جدول الماء الصغير سمي غديراً؛ لأن المطر حينما ينزل على الأرض يذهب ويترك شيئاً قليلاً في المواطئ.



(وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً"48")

العرض: أن يستقبل العارض المعروض استقبالاً منظماً يدل على كل هيئاته، كما يستعرض القائد الجنود في العرض العسكري مثلاً، فيرى كل واحد من جنوده (صفاً) أي: صفوفاً منتظمة، حتى الملائكة تأتي صفوفاً،

أي: أنها عملية منظمة لا يستطيع فيها أحد التخفي، ولن يكون لأحد منها مفر، وهي صفوف متداخلة بطريقة لا يخفي فيها صف الصف الذي يليه، فالجميع واضح بكل أحواله.
ثم يقول تعالى:

{لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرةٍ "48"}
(سورة الكهف)
أي: على الحال التي نزلت عليها من بطن أمك عرياناً، لا تملك شيئاً حتى ما يستر عورتك
وقوله تعالى:
{بل زعمتم ألن نجعل لكم موعداً "48"}
(سورة الكهف)

والخطاب هنا موجه للكفار الذين أنكروا البعث والحساب (زعمتم) والزعم مطية الكذب.



(ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحداً"49")
قوله تعالى:

{ووضع الكتاب "49"}
أي: وضعته الملائكة بأمر من الله تعالى، فيعطون كل واحد كتابه، فهي ـ إذن ـ صور متعددة، فمن أخذ كتابه بيمينه فرح وقال:

{هاؤم اقرءوا كتابيه "19"}
(سورة الحاقة)
يعرضه على ناس، وهو فخور بما فيه؛ لأنه كتاب مشرف ليس فيه ما يخجل؛ لذلك يتباهى به ويدعو الناس إلى قراءته
وهذا بخلاف من أوتي كتابه بشماله فإنه يقول:

{يا ليتني لم أوت كتابيه "25" ولم أدر ما حسابيه "26" يا ليتها كانت القاضية "27" ما أغنى عني ماليه "28" هلك عني سلطانيه "29"}
(سورة الحاقة)
إنه الخزي والانكسار والندم على صحيفة مخجلة.

{فترى المجرمين مشفقين مما فيه "49"}
أي: خائفين يرتعدون، والحق سبحانه وتعالى يصور لنا حالة الخوف هذه ليفزع عباده ويحذرهم ويضخم لهم العقوبة، وهم ما يزالون في وقت التدارك والتعديل من السلوك، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده.
فحالتهم الأولى الإشفاق، وهو عملية هبوط القلب ولجلجته، ثم يأتي نزوع القول:

{ويقولون يا ويلتنا "49"}
يا: أداة للنداء، كأنهم يقولون: يا حسرتنا يا هلاكنا، هذا أوانك فاحضري.
قوله تعالى:
{ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها "49"}
أي: لا يترك كبيرة أو صغيرة إلا عدها وحسبها.

{ووجدوا ما عملوا حاضرا "49"}
فكل ما فعلوه مسجل مسطر في كتبهم

{ولا يظلم ربك أحداً "49"}
لأنه سبحانه وتعالى عادل لا يؤاخذهم إلا بما عملوه.



(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً"50")

تكررت قصة سجود الملائكة لآدم ـ عليه السلام ـ كثيراً في القرآن الكريم، وفي كل مرة تعطينا الآيات لقطة معينة، والحق سبحانه في هذه الآية يقول لنا: يجب عليكم أن تذكروا جيداً عداوة إبليس لأبيكم آدم، وتذكروا جيداً أنه أخذ العهد على نفسه أمام الله تعالى أن يغويكم أجمعين، فكان يجب عليكم أن تتنبهوا لهذا العداوة، فإذا حدثكم بشيء فاذكروا عداوته لكم.
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يحذرنا من إبليس فإنه يربي فينا المناعة التي نقاومه بها، والمناعة أن تأتي بالشيء الذي يضر مستقبلاً حين يفاجئك وتضعه في الجسم في صورة مكروب خامد، وهذا هو التطعيم الذي يعود الجسم على مدافعة المرض وتغلب عليه إذا أصابه.

فانتبهوا مادمنا سنسير الجبال، ونسوي الأرض، ونحصر لكل كتابه، فاحذروا أن تقفوا موقفاً حرجاً يوم القيامة، ثم تفاجأوا بكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وهاأنا أذكركم من الآن في وقت السعة والتدارك، فحاولوا التوبة إلى الله، وأن تصلحوا ما بينكم وبين ربكم.
والأمر هنا جاء للملائكة:

{وإذ قلنا للملائكة .. "50"}

لأنهم أشرف المخلوقات، حيث لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. وحين يأمر الله تعالى الملائكة الذين هذه صفاتهم بالسجود لآدم، فهذا يعني الخضوع، وأن هذا هو الخليفة الذي آمركم أن تكونوا في خدمته. لذلك سماهم: المدبرات أمراً، وقال تعالى عنهم:

{له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله .. "11"}
(سورة الرعد)


فكأن مهمة هؤلاء الملائكة أن يكونوا مع البشر وفي خدمتهم.
فإذا كان الحق سبحانه قد جند هؤلاء الملائكة وهم أشرف المخلوقات لخدمة الإنسان، وأمرهم بالسجود له إعلاناً للخضوع للإنسان، فمن باب أولى أن يخضع له الكون كله بسمائه وأرضه، وأن يجعله في خدمته، إنما ذكر أشرف المخلوقات لينسحب الحكم على من دونهم.
وقلنا: إن العلماء اختلفوا كثيراً على ماهية إبليس: أهو من الجن أم من الملائكة، وقد قطعت هذه الآية هذا الخلاف وحسمته، فقال تعالى:

{إلا إبليس كان من الجن .. "50"}
وطالما جاء القرآن بالنص الصريح الذي يوضح جنسيته، فليس لأحد أن يقول: إنه من الملائكة. ومادام كان من الجن، وهم جنس مختار في أن يفعل أو لا يفعل، فقد اختار ألا يفعل:
{ففسق عن أمر ربه .. "50"}
أي: رجع إلى أصله، وخرج عن الأمر. وقوله تعالى:

{أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو .. "50"}
فهذا أمر عجيب، فكيف بعد ما حدث منه تجعلونه ولياً من دون الله الذي خلقكم ورزقكم، فكان أولى بهذه الولاية.

{وذريته .. "50"}
تدل على تناسل إبليس، وأن له أولاداً، وأنهم يتزاوجون، ويمكن أن نقول: ذريته: كل من كان على طريقته في الضلال والإغواء، ولو كان من الإنس

{بئس للظالمين بدلاً "50"}
أي: بئس البدل أن تتخذوا إبليس الذي أبى واستكبر أن يسجد لأبيكم ولياً، وتتركوا ولاية الله الذي أمر الملائكة أن تسجد لأبيكم.